إنَّ ضبط النفس عند الغضب لا يستطيعه إلا الأشدَّاء, ومسكين ذلك الذي يظن أنَّ الغضب دليل على القوة والشدة؛ ذلك أنَّ الغضب قد يجر صاحبه إلى التهور والظلم والبغي؛ لأنَّ الغاضب يكون كالأعمى عند ثوران غضبه, قد يتصرف...
الحمدلله على نعمه وآلائه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون- واجتنبوا الغضب المذموم وابتعدوا عن أسبابه, واحذروا الغضب وعواقبه, وإنَّ الغضب هو غليان الدم طلبا للانتقام, ومن أسبابه:
أن يُخطئ أحدهم على امرئ بقوله أو فعله, مثل أن يكذب عليه أو يسخر منه ويستهزئ به أو يحقره بكلامه, فعلى المرء أن يضبط غضبه ويرد الرد المناسب؛ فإنَّ الهدوء في الرد أبلغ منه في الغضب.
ومن أسباب الغضب: أن يسمع من واش وشاية قيلت فيه, قال: فيك فلان كذا وكذا؛ فيؤديه ذلك إلى الغضب وذم من ذمه في غيبته, وهذا فعل النمام يفسد بين الناس ويوهم أنَّه ناصح محبٌّ ثم يذهب إلى الآخر فيقول: إنَّ فلاناً يذمك, فيقطع بينهما حبل الوصل, وليس الحل مع الواشي بالغضب إنما يكون بنصيحة الواشي بنهيه عن نقل الوشاية, وكذلك التثبت فقد يكون الواشي كاذباً جاءه ببهتان.
ومن أسباب الغضب -يا عباد الله-: عُجب المرء بنفسه وتكبُّره على غيره, والوقوع في الجدال والمِراء المذموم, قال في فتح الباري: "أَعْظَمَ مَا ينشأ عَنهُ الْغَضَبِ الْكِبْرُ؛ لِكَوْنِهِ يَقَعُ عِنْدَ مُخَالَفَةِ أَمْرٍ يُرِيدُهُ فَيَحْمِلُهُ الْكِبْرُ عَلَى الْغَضَبِ, فَالَّذِي يَتَوَاضَعُ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ يَسْلَمُ مِنْ شَرِّ الْغَضَبِ"(فتح الباري لابن حجر).
معاشر المسلمين: إنَّ ضبط النفس عند الغضب لا يستطيعه إلا الأشدَّاء, ومسكين ذلك الذي يظن أنَّ الغضب دليل على القوة والشدة, ذلك أنَّ الغضب قد يجر صاحبه إلى التهور والظلم والبغي؛ لأنَّ الغاضب يكون كالأعمى عند ثوران غضبه, قد يتصرف تصرفاً يُهوِّنه الشيطان في نظره, ثم إذا سكن غضبه ندم على تصرُّفه, فمنهم من يدعو على من غضب عليه, أو يضربه فيصيبه أذى ,أو يُغلظ له في القول قذفاً واتهاماً باطلاً, ثم يندم بليت وليت وما تنفعه ليت وقد أساء واعتدى ودعا, قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ"(أخرجه البخاري ومسلم).
معاشر المسلمين: ألا وإنَّ من علاج الغضب أمور منها:
أولاً: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم, قال الله -تعالى-: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[فصلت: 36], قال الإمام السمعاني -رحمه الله-: "نزغ أي: غضب, وفي بعض الأخبار: أن الغضب جمرة في الإنسان يوقد فيها الشيطان. (ينظر تفسير السمعاني), وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَجُلاَنِ يَسْتَبَّانِ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ"(أخرجه البخاري)؛ فإذا غضب المرء فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم فإنَّه من أعظم العلاج نفعاً.
ثانياً: العمل بوصية النبي -صلى الله عليه وسلم-, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَوْصِنِي، قَالَ: "لاَ تَغْضَبْ" فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: "لاَ تَغْضَبْ"(أخرجه البخاري), قال أحد السلف: "الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ", وقَالَ الْخَطَّابِيُّ -رحمه الله-: "مَعْنَى قَوْلِهِ: "لَا تَغْضَبِ" اجْتَنِبْ أَسْبَابَ الْغَضَبِ, وَلَا تَتَعَرَّضْ لِمَا يَجْلِبُهُ... وَقَالَ ابن التِّينِ -رحمه الله- جَمَعَ -صلى الله عليه وسلم- فِي قَوْلِهِ: "لَا تَغْضَبْ" خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ الْغَضَب يؤول إِلَى التَّقَاطُعِ وَمَنْعِ الرِّفْقِ, وَرُبَّمَا آلَ إِلَى أَنْ يُؤْذِيَ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ فَيُنْتَقَصُ ذَلِكَ مِنْ الدِّينِ"(ينظر فتح الباري لابن حجر).
ثالثاً: من علاج الغضب: الجلوس إن كان قائماً, فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع, عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَنَا: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ"(أخرجه أبو داود)؛ والحكمة والله أعلم أنَّ "القائم متهيىء للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى, والمضطجع ممنوع منهما، فيشبه أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أمره بالقعود والاضطجاع؛ لئلا تبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد"(معالم السنن).
رابعاً: من علاج الغضب: تذكُّر الفضل المترتب على كظم الغيظ؛ فإنَّ كظمه من صفات المؤمنين قال الله -تعالى-: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 134], وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ"(أخرجه أبو داود وحسنَّه الألباني), وفي رواية: "ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة"(صحيح الجامع الصغير)؛ فتأملوا في هذا الفضل العظيم لمن كتم غيظه.
خامساً: كثرة ذكر الله -تعالى-؛ فبذكره تطمئن القلوب, وباطمئنان القلب يزول عنه الغضب, قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
سادساً: الخروج من المكان حال الغضب, للحديث المتفق عليه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي البَيْتِ، فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟, قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي"(أخرجه البخاري ومسلم)؛ فإذا غضب المرء على زوجته أو أهل بيته فليخرج؛ حتى يسكن غضبه.
سابعاً: من علاج الغضب: السكوت وعدم الاستمرار بالكلام عند الغضب حتى لا يزداد الخلاف, فقد يتلفظ الغاضب بألفاظ سيئة وتُهم باطلة, فيكثر الخلاف ويشتدَّ الغضب, فمن ألزم نفسه بالسكوت عند غضبه وترك الجدال فإنَّه يسلم, ومن الفضل الوارد في ترك المراء حديث أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا"(أخرجه أبو داود وحسنه الألباني).
ثامناً: كثرة الدعاء؛ فعلى من ابتلي بالغضب أن يكثر من الدعاء بأن يشفيه الله من الغضب, وأن يرزقه كلمة الحق في الرضا والغضب, قال بعض السلف: "لا تكن ممن إذا رضي أدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق"(إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان), وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- أنَّ "المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة"(زاد المعاد), وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أول الغضب جنون وآخره ندم, ولا يُقوَّمُ الغضب بذُلِّ الاعتذار, وربما كان العطب في الغضب"(الآداب الشرعية والمنح المرعية), قال الشاعر:
ولم أر في الأعداء حين اختبرتهم *** عدوا لعقل المرء أعدى من الغضب
اللهم اجعلنا ممن يجتنب أسباب الغضب, اللهم إنا نسألك كلمة الحق في الرضا والغضب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي