فالمسلم في ليلِه وفي تهجُّده يعبُد ربَّه، ويَشكو ذنبَه، ويناجي ربَّه، فيسأله جنّته ومغفرتَه، ويستعيذ به من عذابه، ويرجو رحمتَه وفضله وإحسانَه، إنّه يقوم من فراشه ومِن لذيذ منامه، لماذا؟! ليقفَ بين يدَي ربِّه في تلك اللّحظاتِ المباركة ووقت التنزّل الإلهي، حينما...
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عبادَ الله: إنّ قيامَ الليل عبادة عظيمةٌ وعمَل جليل، مدَح الله به عبادَه المؤمنين، فذكر من أخلاقهم الحميدةِ التي نالوا بها بفضل الله جنّاتِ النعيم قيامَهم الليلَ فقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مّن الّليْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذاريات:15-18].
فوصَفَهم بأنّهم قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، فهم يُحيون جزءًا من الليل، ويختِمون ذلك بالاستغفار عمّا قدّموا وأساءوا.
وقال -جلّ جلاله-: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[السجدة:16-17]؛ أخفَوا قيامَهم في الليل، وصار قيامُهم سِرًّا بينهم وبين ربِّهم، فأنالهم الله ذلك الثوابَ العظيم، ما لا رأت عينٌ، ولا سمِعت أذنٌ، ولا خطَر على قلبِ بشر، (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).
وقال الله لنبيّه -صلى الله عليه وسلم-: (وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا)[الإسراء:79].
وأخبر -تعالى- عن فضل قيام الليل، وأنّ في قيام الليل تواطؤَ القلب مع اللسان: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً)[المزمل:6]، وقال: (وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)[الإنسان:26].
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنّ قيامَ الليل سببٌ لدخول الجنّة والفوز بها، قال عبد الله بن سلام -رضي الله عنه-: لمّا قدم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ سمعتُ أوَّلَ ما قال: "أيّها الناس: أطعِموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنّةَ بسلام".
وأخبرَ -صلى الله عليه وسلم- ما لقائمِ الليل في الجنّة من النعيم المقيم، فقال: "إنّ في الجنة غرفًا، يُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها"، قالوا: لمن يا رسول الله؟! قال: "لمن أطاب الكلامَ، وأطعَم الطعام، وصلّى بالليل والناس نيام".
أيّها المسلمون: وخُلُق نبيِّكم -صلى الله عليه وسلم- أنّه كان يقوم الليلَ ويحافظ على قيام الليل، ويخبر -صلى الله عليه وسلم- أنّ قيامَه بالليل شكرٌ لربِّه على نِعَمِه العظيمة عليه؛ تقول عائشة أمّ المؤمنين -رضي الله عنهما-: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم الليلَ حتى تفطّرت قدماه، فسألَته قائلةً له: أتفعل هذا وقد غفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟! تشير إلى قوله: (ليَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)[الفتح:2]، قال: "ألا أكون عبدًا شكورًا؟!"؛ فإنّ شكرَ الله على نعمِه التقرّبُ إليه بالفرائض وبالنوافل بعد الفرائض، وكلّما تصوَّر العبد نعَمَ الله عليه دعاه ذلك إلى أن ينافِس في صالح الأعمال.
أيّها المسلم: إنّ في قيام الليل فرصةً لك لتسألَ ربَّك ما أحببتَ من خيرَي الدنيا والآخرة وتَشكو ذنبَك، وتناجي ربَّك، فتسأله جنّته ومغفرتَه، وتستعيذ به من عذابه، وترجو رحمتَه وفضله وإحسانَه، إنّك تقوم من فراشك ومِن لذيذ منامك، لماذا؟! لتقفَ بين يدَي ربِّك في تلك اللّحظاتِ المباركة ووقت التنزّل الإلهي، حينما ينزل ربّنا إلى سمائه الدنيا حينما يبقى ثلث الليل الآخر، فينادي: هل من سائل فيُعطَى سؤلَه، هل من مستغفرٍ فيغفَر له، هل من داعٍ فتجاب دعوته؟!
فإنّك -يا أخي- تسأل كريمًا وقريبًا مُجيبًا وغنيًّا حميدًا، يحبّ من عباده أن يسألوه ويلتجِئوا إليه، يحبّ منهم أن يسألوه وقد وعَدَهم الإجابةَ فضلاً منه وكرَمًا، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة:186]، قال جابر بن عبد الله: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ في الليل ساعةً لا يوافقها رجل مسلمٌ يسأل الله خيرًا مِن أمر الدنيا والآخرة إلاّ أعطاه الله إياه، وذلك كلَّ ليلة".
أيّها المسلم: إنّ في قيام الليل فوائد كثيرة؛ فمنها:
الاقتداء بالصالحين من قبلنا، وتكفيرُ الذنوب، ويُبعِد الداءَ عن أجسادنا، فيجعلنا نتمتع بالصلاة آناء الليل، ويجنّبنا الآثام والعصيان، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بقيامِ الليل؛ فإنّه دأب الصالحين قبلكم، ومكفرة لذنوبكم، وقُربَة تتقرّبون بها إلى ربّكم، وطردًا للدّاء عن الجسَد، ومنهاة عن الإثم".
ومن فوائد قيام الليل: إدراك وقت التنزُّل الإلهي إلى السماء الدنيا، والفوز بقبول العمل وغفران الذنب واستجابة الدعاء، ولا ريب الحث على صلاة الليل يرجع إلى انتفاع العبد بذلك؛ كما أشار القرآن الكريم في قوله العزيز الحكيم: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً)[المزمل:6].
وعَنْ أبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "يَنزِل ربُّنا - تبارك وتعالى - كلَّ ليلةٍ إلى السماء الدُّنيا حين يبقَى ثُلُث اللَّيْل الآخر، يقول: مَن يدعوني فأستجيبَ له؟ مَن يَسألُني فأُعطيَه؟ مَن يستغفرُني فأغْفِرَ له" (رواه البخاري:1145، ومسلم:758).
ومن فوائد قيام الليل: أنه من أسباب المغفرة، ولذا لما سأل أحد التابعين أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فقال لها: إنّ الله لم يفترِض علينا سوى الصلواتِ الخمس، قالت: "نعم، لعمري ما افترضَ الله عليكم إلاّ هذه الصلوات، ولن يطالبَكم إلا بما افترض عليكم، ولكنّكم قوم تخطؤون وتذنِبون، وما أنتم إلاّ من نبيّكم، وما نبيّكم إلا منكم، ولقد كان يحافظ على قيام الليل".
أيّها المسلم: إنّ نبيّنا -صلى الله عليه وسلم- كان يحافِظ على قيام الليل، وإذا حُجز عنه لوجعٍ أو غيره قضاه في النهار، فكان يواظِب على إحدى عشرَة ركعة، فإذا عجز عنها لمرضٍ أو غيره صلّاها في الضّحَى ثنتَي عشرَةَ ركعة؛ فأين نحن من الاقتداء بنبينا في هذا العمل الجليل، جعلني الله وإيّاكم من المسارعين لفعل الخيرات، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
عبادَ الله: ومن الوسائل المعينة على قيام الليل:
أن يحرِص المسلم على الإقلال من السَّهر ما وجَد لذلك سبيلاً؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكره النومَ قبل العشاء، خوفًا من فواتها، ويكره الحديث بعد صلاة العشاء؛ خوفًا من أن يؤدي به للسهر الذي يفوِّت عليه قيام الليل.
ومِن الوسائل أيضًا: أن تقرأ آيةَ الكرسيّ عند منامك لتبعِد عدوّ الله عنك؛ ففي الحديث: "من قرأ آيةَ الكرسيّ كلَّ ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح"، وتختم بالآيتين من سورة البقرة؛ فمن قرأهما في ليلةٍ كفَتاه.
فإذا أكثر الإنسانُ من هذه الأورادَ وقرأها عند نومه وسبَّح الله وحمِده وكبَّره ونام على خير فإنّه يُرجى برحمةِ أرحَم الراحمين أن يمنّ الله عليه، فيوقظه من غفلتِه، ويتقرّب إلى الله في تلك اللحظاتِ بطاعةٍ ولو قلّت، وسيجد ثوابَها أحوَج ما يكون إليه.
وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا استيقظ من منامه قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، وأخبر أنّ من قال هذا الذكرَ ثم دعا استجابَ الله دعاءَه، وإن توضّأ وصلّى تقبّل الله صلاته.
ومن الوسائل المهمة: التحرز من الشيطان؛ فقد أخبرنا -صلى الله عليه وسلم- أنّ عدوّ الله إبليس يثبّطنا عن الخير، ويحول بيننا وبين كلّ عمل صالحٍ إلاّ إذا تغلّبنا عليه بالالتجاء إلى الله والتعوّذ من شرّه والاستعانة بالأذكار، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يعقِد الشيطان على قافية رأسِ أحدكم إن هو نامَ ثلاثَ عُقد، يضرب على كلّ عقدةٍ: عليك ليل طويلٌ فنَم، فإن قام وذكَر الله انحلّت عقدة، وإن توضّأ انحلّت عقدة، وإن صلّى انحلّت العُقَد كلّها، فأصبح طيّبَ النفس نشيطًا، وإلاّ أصبَح خبيثَ النفس كسلانًا" نعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
عباد الله: إنّ قيامَ الليل نعمة يمنّ الله بها على من يشاء من عبادِه، فيجِد ذلك القائمُ لهذا الوقت لذةً وسرورًا، وانبساطًا وانشراحَ صدر وقرّةَ عين، وهو قائم يتلو كتابَ الله ويتدبّره، ويسبّح الله ويحمده ويثني عليه ويلجأ إليه؛ فما أعظمَها من نعمةٍ لمن وُفِّق لها، ولا يعرف قدرَها إلا من مُنِح تلك النعمة، قال بعض السلف: "إنّ أهلَ الليل في ليلهم وتهجُّدهم ألذّ من أهل اللهو في لهوهم". نعم! إنّهم ألذّ؛ فهؤلاء في سبيلِ صلاح قلوبهم واستقامةِ حالهم وهم أفضل ممن شغل ليله في لهو ولعب.
فعلى المسلم الذي يرجو رحمةَ ربّه أن لا يفوّتَ هذه العبادة ولو جزءًا يسيرًا؛ فما يزال العبدُ يألَف تلك الطاعةَ ويحبّها حتى يوفّقه الله، فيجعله ممّن اعتادَ هذا العمل الصالح ورغِبه وأحبّه.
رزقنا الله وإياكم فعل الخيرات، وجنبنا المنكرات، وجعلنا من أهل قيام الليل، إنه سميع عليم.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي