وبعض الناس -أيها الإخوة- يجمع المال ويكنزه ليؤمّن به مستقبله على حد قوله، وهو يعني بذلك مستقبله الدنيوي الذي لا يدري هل يطول أم يقصر، ثم هو بعد ذلك لا يفكر في تأمين مستقبله الحقيقي الذي لا بد أن يصير إليه في يوم ما، حين يهجم عليه هادم اللذات ومفرّق الجماعات، فينقله من هذه الحياة القصيرة الحقيرة إلى الحياة الأبدية الحقيقية التي لا ينفعه فيها إلا ما قدم ..
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واجتنبوا نهيه ولا تعصوه، وتقربوا إليه بما ينفعكم في دنياكم وأخراكم، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر:18-20].
أيها الإخوة في الله: ليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلّي، ولكن الإيمان ما وَقَر في القلب ورسخ فيه وصدّقته الجوارح بفعل الطاعات واجتناب المعاصي، ليس الإيمان ادعاءً يتظاهر به من شاء، ولا ثوب زور يلبسه الأدعياء الضعفاء، إن الإيمان عقيدة راسخة قوية، تنتج قولاً سديدًا وعملاً صالحًا رشيدًا، تنتج حب الله ورسوله، وتثمر الإخلاص في الأقوال والأفعال.
إن الإيمان جِدّ وعمل، وصبر ومصابرة، ومرابطة ومثابرة، الإيمان حبس للنفس على ما تكره من طاعة الله، ومنع لها عما تحب من معصية الله، الإيمان واقع تطبيقي وحَمْل لهمّ الإسلام والمسلمين، وحرص على ما ينفع البلاد والعباد.
إذا عُلِم هذا -أيها الإخوة- تمام العلم، وتيُقِّن منه تمام التيقن، فإننا سوف نتحدث اليوم عن جانب من جوانب الإيمان العملية، وصفة من صفات المؤمنين الفعلية، تلكم هي صفة الإنفاق في سبيل الله، التي لا يقدر عليها إلا المتقون، ولا يوفّق إليها إلا الفائزون السابقون، ولا يُحرم منها إلا الأشقياء والمخذولون، يقول سبحانه: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [البقرة:1-3]، ويقول -جل وعلا-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال:2-4]، ويقول تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].
أيها الإخوة: إن الله -جل وعلا- قد أنعم علينا بنعمة المال، وجعله فتنة لنا وامتحانًا، ليبلونا أنشكر أم نكفر، (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40]، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]، (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [التغابن:15، 16].
وإن مال الإنسان في الحقيقة هو ما قدمه لنفسه ذُخْرًا عند ربه -جل وعلا-، وليس ماله ما جمعه وكنزه ثم اقتسمه الورثة بعده، وقدم هو إلى ما عمل وقدم، قدم إلى ربه وحيدًا فريدًا، غنيًا عما خلّف فقيرًا إلى ما قدّم، يقول سبحانه: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) [الأنعام:94].
وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟!"، قالوا: يا رسول الله: ما منا أحد إلا وماله أحب إليه، قال: "فإن ماله ما قدَّم، ومال وارثه ما أخّر"، وفي الترمذي عن عائشة -رضي الله عنها- أنهم ذبحوا شاة فتصدقوا بها سوى كتفها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بقي كلها غير كتفها"، وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس".
وبعض الناس -أيها الإخوة- يجمع المال ويكنزه ليؤمّن به مستقبله على حد قوله، وهو يعني بذلك مستقبله الدنيوي الذي لا يدري هل يطول أم يقصر، ثم هو بعد ذلك لا يفكر في تأمين مستقبله الحقيقي الذي لا بد أن يصير إليه في يوم ما، حين يهجم عليه هادم اللذات ومفرّق الجماعات، فينقله من هذه الحياة القصيرة الحقيرة إلى الحياة الأبدية الحقيقية التي لا ينفعه فيها إلا ما قدم.
فيا من أنعم الله عليهم بالأموال: قدموا لأنفسكم من أموالكم ما تؤمّنون به مستقبلكم الحقيقي، واشتروا منازلكم في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء، في نعيم لا يَبِيد وقصر مَشِيد: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة:111]، وأقرضوا الله قرضًا حسنًا، فالله تعالى يقول: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) [البقرة:245]، وساهموا في التجارة الرابحة مع الله -عز وجل- لعلكم تفلحون.
أيها المسلمون: لو قرأ أحدنا إعلانًا في جريدة أو صحيفة، أو عُرِض عليه الاشتراك في مساهمة أو صفقة تجارية يكون ربحه فيها عشرة أو عشرين أو خمسين بالمائة، لَبَذَل النفس والنفيس ليشترك فيها، ولاجتهد أن لا تفوته هذه الفرصة، مع علمه أن الأمر مغامرة ومخاطرة، وأنه قد يربح وقد يخسر، ولكنه يتجاهل ذلك كله، ويغض الطرف عنه، ويصبّر نفسه، ويقنعها بالمساهمة، كل ذلك من أجل حفنة من المال يحصلها وينميها، ثم لعل الموت يدركه قبل أن يذوق لها طعمًا أو يرى لها نتاجًا، ويكون عليه بعد ذلك حسابها وغرمها، ويكون لغيره من الورثة عائدها وغنمها.
فما بالنا -أيها الإخوة- نقرأ كثيرًا، ونُدعى بين فينة وأخرى إلى مساهمة لا مثيل لها في أرباحها الكثيرة وضماناتها التي لا تَتَخَلّف ولا تُخْلَف، إنها مساهمة يكون الربح فيها سبعين ألفًا بالمائة، نعم -إخوة الإيمان- سبعين ألفًا بالمائة، بل أكثر من ذلك بكثير، ثم لا نرى المساهمين فيها إلا قليلاً، أليس هذا غَبْنًا فاحشًا وخسارة فادحة؟! بل أليس ضعفًا في العقل وسفاهة في الرأي؟! بلى والله، إنه لكذلك، وأشد من ذلك، وإلا فإن الله سبحانه هو الذي ضمن لنا هذا الربح، وتكفّل لنا به، بل ودعانا إليه، ورغّبنا فيه، وهو الذي لا يخلف الميعاد.
ألم يقل سبحانه في محكم كتابه: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261]؟! ألم نقرأ قوله -جل وعلا-: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد:11]؟! ألم نسمع قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة:245]؟! ألم نصدق بقوله -جل وعلا-: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [البقرة:272]؟! ألم يبلغنا قول الناصح الحبيب –صلى الله عليه وسلم-: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربّيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى تغدو مثل الجبل"؟!
فيا لها من أرباح عظيمة عظيمة! ويا له من كرم ما بعده كرم! يتصدق العبد بتمرة أو مثلها من كسب حلال فيقبلها الله تعالى ويربّيها له وينميها حتى تكون مثل الجبل، أفيبلغ الطمع بالإنسان إلى أن يطمع في مثل هذا الخير فضلاً عن أن يطمع في أكثر منه؟! وكم مرة يا ترى ضوعفت صدقة بمقدار تمرة حتى غدت مثل الجبل؟! إن لم تكن ضوعفت آلاف المرات فقد ضوعفت ملايين لا تحصى ولا تعد، والله إنه لخير عظيم وفضل عميم، لا ينبغي لإنسان أن يسمع به ثم يزهد فيه، ولا لصاحب مال مهما قلَّ يبلغه هذا الفضل ثم يمسك ماله عن الإنفاق في سبيل الله، ولكنها -ورب الكعبة- نفوس بني آدم الضعيفة، والبخل والشح الذي أهلك من كان قبلنا.
واسمعوا -رحمكم الله- إلى ما ورد في خطر الشح والبخل لعلكم تتعظون، قال الله -جل وعلا-: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تَلَفًا"، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "خلق الله جنة عدن بيده، ودلَّى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال: وعزتي وجلالي، لا يجاورني فيك بخيل".
أفبعد هذا كله يهنأ إنسان أو يرضى أن يتصف بالبخل والشح، وأن يمسك ماله ولا ينفقه في وجوه الخير وأعمال البر؟! لا نظن ذلك يحصل من عبد تغلغل الإيمان في قلبه، وملأه حب الله ورسوله والدار الآخرة، ولكنه الشيطان -أبعده الله- يعد ضعاف الإيمان بالفقر ويخوفهم منه: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:268].
ويصور لنا رسول الرحمة والهدى –صلى الله عليه وسلم- حرص الشيطان وجنوده على منع المسلم من الصدقة واجتهادهم في الوسوسة والتخويف، ومقدار ما يعانيه المتصدق في التغلب على نزغ الشيطان ونفثه، يقول –صلى الله عليه وسلم-: "لا يُخرِج رجلٌ شيئًا من الصدقة حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطانًا".
ألا فليتق الله من يخشى الفقر بسبب الإنفاق في سبيل الله؛ فإن الله -عز وجل- قد تكفل للمنفق في سبيله أن يرد إليه ماله، ويخلفه عليه، ويوفيه أجره غير منقوص، يقول تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39]، ويقول سبحانه: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [البقرة:272]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلِم عبد مَظْلَمة فصبر عليها إلا زاده الله عزًّا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر".
أيها المسلمون: لقد كان نبيكم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ولا يخاف العَيْلَة؛ فلقد كان يؤتى بالذهب والفضة والنعم فيوزعها في يومه، عن أنس -رضي الله عنه- قال: "ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم: أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيرًا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها".
وحدّث أبو ذر قال: كنت أمشي مع النبي في حَرّة المدينة، فاستقبلنا أحد فقال: "يا أبا ذر"، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار إلا شيئًا أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا"، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم مشى، فقال: "إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا"، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، "وقليل ما هم"؛ رواه البخاري.
ولقد خرج أبو بكر -رضي الله عنه- من جميع ماله لله، وخرج عمر من نصف ماله، ولما نزل قول الله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92] قال أبو طلحة : إن أحب أموالي إليّ بَيْرُحَاء، وإني قد جعلتها لله، فضعها -يا رسول الله- كيف شئت، فقال –صلى الله عليه وسلم-: "بَخٍ بَخٍ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح".
وجاءت عِير من الشام بتجارة لعثمان -رضي الله عنه- في حين حاجة، فطفق التجار يستامونها، فكلما دفعوا إليه شيئًا قال: أُعطِيت أكثر من ذلك، يشير إلى قول الله سبحانه: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) [البقرة:245]، وجعلها في سبيل الله، وجهّز -رضي الله عنه- في غزوة تبوك ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وعدتها، وألف دينار عينًا، واشترى -رضي الله عنه- بئر رُومَة وحفرها ليشرب منها المسلمون.
ألا فاتقوا الله -أيها المسلمون-، واتقوا الشح والبخل، وأنفقوا من مال الله الذي آتاكم، واقتدوا بنبيكم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام لعلكم تفلحون.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا أسباب سخط ربكم -جل وعلا-؛ فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
أيها الإخوة: لو ذهبنا نستقصي ما ورد في الترغيب في الإنفاق في سبيل الله، والترهيب من إمساك المال والبخل به، لطال بنا المقام، ولاحتجنا مع هذه الخطبة إلى مثلها، ولكن ما تقدم في الخطبة الأولى فيه ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وحتى لا يكون هذا الكلام الذي سمعناه حجة علينا فإنا ندعوكم إلى العمل بما علمتم وتطبيقه في الواقع الحي، لا تقولوا: كيف؟! وأين؟! وأنى؟! فإن مشروعات الخير كثيرة وفيرة، ومجالات الإنفاق وسبله متعددة متنوعة، قال –صلى الله عليه وسلم-: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علَّمَه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، أو مصحفًا ورّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، وذكر منها: "صدقة جارية"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من بنى لله مسجدًا يبتغي به وجه الله تعالى بنى الله له بيتًا في الجنة".
فلا تحرموا أنفسكم -إخوة الإيمان- من المشاركة والمساهمة في مشروعات الخير المتنوعة، واغنموا التجارة الرابحة مع الله والمرابحة، وانتهزوا كل فرصة من فرص الصدقة الجارية، ولا تضيعوها فتندموا، فإن الباب قد يفتح لأحدنا فيغلقه، فلعله لا يتكرر له الأمر مرة أخرى في حياته، والموت ينتظرنا في كل لحظة وساعة، والله -عز وجل- يقول: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:10، 11].
إنها والله لحظة ستمر بكل واحد منا، وسيذوقها لا محالة، فلنغتنم أنفسنا ما دمنا ممهَلين، ولنبادر ما دام في العمر متسع، والله الله، لا تحرموا أنفسكم، واتقوا النار ولو بشق تمرة، وأروا الله من أنفسكم خيرًا، وانفضوا جيوبكم مما فيها ولا تبخلوا، فإن الجنة غالية ولا تنال إلا بالغالي.
اللهم اجعلنا ممن قالوا: سمعنا وأطعنا، ووفقنا لما يرضيك عنا، وتوفنا وأنت راض عنا، اللهم ارزقنا حلالاً، واجعلنا من المنفقين، اللهم واجنبنا ما حرمت علينا، ولا تجعلنا ممسكين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي