وسائل اكتساب خلق العفة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. حرص الإسلام على إيجاد مجتمع صالح .
  2. من وسائل اكتساب العفة .

اقتباس

ومن وسائل اكتساب خلق العفة: التربية الفكرية، عن طريق غرس المفاهيم والموازين الشرعية ذات العلاقة بالاستعفاف - العلم بالأحكام الشرعية المتعلقة بالجانب الأخلاقي في المجتمع المسلم - التعرف على بواعث...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

أيها المؤمنون: إن الإسلام حث على تربية أتباعه على العفة والعفاف والتجلي بأجمل الأوصاف؛ كما أرشدهم إلى سبل تحقيق ذلك، وسنقف اليوم مع وسائل اكتساب خلق العفة؛ لنتعرف على الطريق الموصل إليها، ونسارع جميعاً إلى التخلق بها واقعاً وسلوكاً في الحياة، ومن تلك الوسائل:

التربية الإيمانية؛ التي ترتكز على مراقبة الرقيب سبحانه والخوف منه، قال تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)[البقرة:235]، ويقول: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[غافر: 19]؛ فاجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عليك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه..

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليّ رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

قال نافع: خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له فوضعوا سفرة فمر بهم راع فقال له عبد الله: هلم يا راعي فأصب من هذه السفرة، فقال: إني صائم.. فقال له عبد الله: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم؟! فقال الراعي: أبادر أيامي الخالية فعجب ابن عمر وقال: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها ونطعمك من لحمها؟ قال: إنها ليست لي، إنها لمولاي. قال: فما عسى أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب؟ فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول فأين الله؟! قال: فلم يزل ابن عمر يقول: فأين الله؟! فلما قدم المدينة فبعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم فأعتق الراعي ووهب له الغنم -رحمه الله-، وقال له: "إن هذه الكلمة أعتقتك في الدنيا، وأسأل الله أن تعتقك يوم القيامة"(صفة الصفوة:2-188).

وهذا يوسف -عليه السلام وقد توفرت كل أسباب فعل الفاحشة، وقد راودته سيدة القصر فقال: (مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[يوسف:23]، ويختار غربة السجن ووحشته وتقييد حريته على الوقوع في فاحشة تخلف الحسرة والندامة (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ)[يوسف:33-34].

ومن وسائل اكتساب العفة -معاشر المسلمين-: دوام الصلة بالله -تعالى- من صلاة وصيام وذكر ودعاء وتضرع وتبتل والتجاء إليه، وقراءة للقرآن الكريم بتدبر وتأمل مع الفهم لمعانيه والتعقّل لأسراره وحكمه. قال عز وجل: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت:69].

والمجاهدة لا تعني أن يجاهد المرء نفسه مرة، أو مرتين، أو أكثر، بل الاستمرار في ذلك طوال العمر؛ وفي كل الأحوال ذلك أن المجاهدة عبادة، والله يقول: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر:99].

فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها، وقال: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)[العنكبوت: 45].

وكذا لم يأمر الله -سبحانه- بالزكاة إلا لأنها تطر صاحبها وماله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا)[التوبة: 103].

فتنظيف النفس من أدران النقص، والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى.

كما أن الله -تعالى- شرع الصيام  لهذا المعنى العظيم،  قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"(البخاري).

عباد الله: ومن وسائل اكتساب خلق العفة: طلب العلم ومعرفة الأحكام الشرعية؛ حيث أن ذلك يقود العبد إلى فعل كل مليح وترك كل قبيح.

وكذلك: إدراك مخططات الأعداء وما يبثونه في وسائلهم المشبوهة وقنواتهم المنكوسة؛ فاحذروا من ذلك؛ فما عند الله خير وأبقى، وما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه النجاة في الأولى والأخرى، والعفة والعفاف شيمة وخلق عظيم في حياة الأفراد والمجتمعات ولا يمكن الاستغناء عن ذلك الخلق الرفيع؛ فهو زينة للرجل والمرأة، وسياج يمنعهما من الرذائل وسفاسف الأمور.

وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: "ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت: بلى يا ابن عباس" امرأة في الدنيا تمشي وهي من أهل الجنة الله أكبر! كيف استحقت الجنة هذه المرأة؟ قال: أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "إني أصرع وأتكشف فادع الله لي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن شئتِ صبرت ولك الجنة -الصبر على هذا الصرع، وهذا البلاء ما الثمن؟ الجنة، الجنة- وإن شئتِ دعوت الله أن يعافيك -تريدين المعافاة؟ أو تريدين الصبر على البلاء ثم الجنة؟ - فقالت: بل أصبر ولكني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها -صلى الله عليه وسلم- ألا تتكشف" فلسان حالها ومقالها أنها تقول أنا أحب الجنة، وسوف أصبر على هذا البلاء وأتحمل هذا المرض، وأتحمل هذا الصرع إلا شيئاً واحداً لا أتحمله إنه التكشف، إنها عفة تطاول السحاب وتبلغ الثريا؛ فكيف حال بنات المسلمين اليوم، وقد خدعن بحضارة الرذيلة الخالية من القيم والأخلاق.

ومن هذه الوسائل: معرفة فضائل العفة وما أعده الله لأهلها في الدنيا والآخرة.

ومازال يضرب المثل لخلق العفة بالرسل والأنبياء والعظماء والصالحين في كل زمان ومكان، صغارا وكبارا، رجالاً ونساء؛ فهذه أم سلمة -رضي الله عنها- تصف صاحب الخلق النبيل والعفة الكريمة عثمان بن أبي طلحة -رضي الله عنه- ومرافقته في هجرتها، لمّا فرق قومي بيني وبين ابني وهاجر زوجي إلى المدينة مكثت أيامًا أبكي أخرج إلى خارج داري ثم أعود إليه، فقام رجل من بني المغيرة رآني على حالي فرق لي، وقام إلى قومي وقال: ألا تخرجوا هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وابنها، قالت: فتركوني أهاجر إلى المدينة وأعطتني بنو أسد -قوم زوجها- ابني، فأخذت ابني فوضعته على حجري وركبت بعيري وسرت وليس معي أحد إلا الله، حتى إذا أتيت إلى التنعيم -موضع قريب من مكة تجاه المدينة- لقيني عثمان بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية ؟ فقلت: أريد المدينة، فقال: أو ما معك أحد؟ فقلت: لا، قال: مالك من مترك؟ (أي كيف أتركك تسافرين وحدك) فأخذ بخطام بعيرها فسار معها، قالت أم سلمة: فما رأيت قط رجل أكرم في العرب من عثمان بن طلحة، أيام وهو يقود لها بعيرها ما نظر إليها قالت كان إذا حان موعد الرحيل جاءني بالبعير فترك البعير وتأخر عنّي، فإذا ركبت البعير جاء وأخذ البعير وسار بي على ذلك أيامًا متتالية؛ إنه العفاف، خلق الكرام، قالت: حتى قرب من المدينة فرأى قرية عمرو بن أبي عوف فقال: يا ابنة أبي أمية، زوجك في هذه القرية، قالت: فدخلت القرية فوجدت أبا سلمة؛ فما زالت أم سلمة تحفظ الجميل لهذا الرجل طوال حياتها حتى قالت فيه: ما رأيت رجلاً أكرم من عثمان بن طلحة قط في العرب، ومازال العرب والمسلمين يذكرون موقف العفة والاستعفاف لعثمان بن طلحة جيلاً بعد جيل.

اللهم آمن روعاتنا، واستر عوراتنا، واجعلنا من عبادك الصالحين.

قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

عباد الله: ومن وسائل اكتساب خلق العفة: النظر في عواقب فقدانها؛ فإذا فُقِدَت من إنسان فسيفقد الكثير من القيم والأخلاق، ولقد فسدت كثير من الذمم، وانتشرت الكثير من السلوكيات الخاطئة والرذائل والفواحش والأمراض الناتجه عن ذلك، وكل ذلك لغياب مبدأ العفة والتعفف؛ فالمرء قد يفقد الكثير من أسماء المدح والشرف، وهو المتسبب في ذلك؛ لأنه أهمل امتثال مبدأ العفة.

يقول ابن القيم أيضًا: "ومن عقوباتها أي المعاصي والذنوب: أنَّها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذم والصغار؛ فتسلبه اسم المؤمن، والبر، والمحسن، والمتقي، والمطيع، والمنيب، والولي، والورع، والصالح، والعابد، والخائف، والأواب، والطيب، والمرضي ونحوها، وتكسوه اسم الفاجر، والعاصي، والمخالف، والمسيء، والمفسد، والسارق، والكاذب، والخائن، والغادر وأمثالها".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله "إنَّ فلانة تقوم الليل وتصوم النَّهار، وتفعل وتصَّدَّق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا خير فيها، هي من أهل النار" قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة وتَصَّدَّق بأثوار (قطع من الأقط، وهو لبن جامد) ولا تؤذي أحدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي من أهل الجنة"(رواه احمد).

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربكم منِّي مجلسًا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقًا، وإنَّ من أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون" قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارين والمتشدقين، فما المتفيهقون؟ قال: "المتكبرون"(السلسلة الصحيحة).

وعن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وأن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"(رواه البخاري ومسلم)

فاتقوا الله -عباد الله-، وتخلقوا بخلق العفة، واعملوا على اكتسابه وتربية المجتمع عليه بتطبيق وسائله تفلحوا.

هذا وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي