الميزان

محمد ابراهيم السبر
عناصر الخطبة
  1. الحساب ونشر الدواوين .
  2. إثبات الميزان والأشياء الموزونة يوم القيامة .
  3. بعض الأعمال الصالحة التي تثقل الميزان يوم القيامة .
  4. بعض آثار وفوائد الإيمان بالميزان يوم القيامة .

اقتباس

لو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه وتعالى لجميع عباده؛ فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين؛ فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه؟ إن العاقل الفطن هو...

الخطبة الأولى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله- حق تقاته: (وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

عباد الله: دلَّت الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة على أنَّ الناس بعدما يُقرُّ المؤمنون بأعمالهم، ويُناقَش الكافرون ويقرعون ويُبكَّتون على ظُلمهم وإجرامهم فيتحقَّق الحساب، وبعد ذلك تُنشَر الدواوين وتبسط، قال تعالى: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)[التكوير: 10]؛ فآخِذٌ كتابَه بيمينه، وآخِذٌ كتابَه بشِماله من وَراء ظهره: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)[الإنشقاق: 7-8]، ويقول فرحًا مسرورًا: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ)[الحاقة: 19-20]. (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا)[الإنشقاق:10-12]، ويقول خاسئًا حسيرًا: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ)[الحاقة:25-26]، وقال تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا)[الإسراء:13]؛ فكلٌّ قد تحدَّد مصيرُه.

عباد الله: بعد الحساب والموقف العصيب يأتي مشهد رهيب، وموطن عجيب؛ فتنصب الموازين لوزن هذه الأعمال والصحف التي أُخذت ونشرت؛ فمن راجحٍ عمله في الميزان، ومن مرجوح في الميزان -نسأل الله الإعانة والنجاة-، يقول القرطبي -رحمه الله-: "إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة؛ فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها؛ ليكون الجزاء بحسبها"، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء: 47].

والموازين يضعها الله لتوزن فيها أعمال العباد، قال تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ)[الأعراف: 8-9].

عباد الله: إن من عقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بالميزان، وأنه ميزان حقيقي له كِـَـفتان -بكسر الكاف وفتحها واللغتان صحيحتان- وأن أعمال العباد توزن به يوم القيامة، ولا يعلَمُ كيفيَّته إلا الله -تعالى-، خلافا للمعتزلة القائلين بأنه العدل فهو مجازي لا حقيقي، وفي شرح العقيدة الطحاوية المشهورة: "والذى دلت عليه السنة أن الميزان الذى توزن به الأعمال يوم القيامة له كفتان حسيتان مشاهدتان"، والله أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات.

وقد دلت النصوص من الكتاب والسنة والإجماع على ذلك، قال الألباني رحمه الله: "والأحاديث في ذلك متضافرة، إن لم تكن متواترة".

وقد ذُكر في القرآن مجموعا وفي السنة مجموعا ومفردا؛ فقيل: إنه ميزان واحد، وجمع باعتبار الموزون، وقيل: متعدد بحسب الأمم، أو الأفراد، أو الأعمال؛ لأنه لم يرد في القرآن إلا مجموعًا، وأما إفراده في الحديث فباعتبار الجنس، وكلا الأمرين محتمل، والراجح من أقول أهل العلم أن الميزان يوم القيامة ميزان واحد، أما الجمع في الآية: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ)[الأنبياء: 47] باعتبار تعدد الأوزان أو الموزون؛ لأن الميزان يوزن فيه أشياء كثيرة -والله أعلم-.

وقد اختلف أهل العلم في الموزون الذي يوضع في الميزان؛ فمنهم من قال هي الأعمال، حيث إن الأعمال يوم القيامة تجسم ويكون لها عَرَض. ومنهم من قال: إن الذي يُوزن هو العامل نفسه؛ فقد دلت النصوص على أن العباد يوزنون يوم القيامة، فيثقلون أو يخفون بمقدار إيمانهم، لا بضخامة أجسامهم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة"، وقال: اقرؤوا إن شئتم: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)[الكهف: 105] (رواه البخاري ومسلم).

ومن قائل: إن الموزون هو صحائف الأعمال.

والذي رجحه أهل العلم: أن العامل وعمله وصحيفة عمله كل ذلك يوزن؛ لأن الأحاديث التي هي بيان القرآن قد وردت بكلٍّ من ذلك، ولا منافاة بينها؛ فالموزون هو الأعمال والصحائف والعامل نفسُه، كلهم يُوضعون على الميزان ويوزنون، لدلالة الأدلة عليها جميعًا؛ فمَن ثقُلتْ موازينُ حَسناته على سيِّئاته دخَل الجنَّة، ومَن تَساوَتْ حَسناتُه مع سيِّئاته كان من أهل الأعراف بين الجنَّة والنار، يُؤجَّل أمرُه حتى يدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ النارَ ، ثم تُدرِكُه الشفاعة فترجح حسَناته على سيِّئاته فيدخُل الجنَّة، ومَن رجحت سيِّئاته على حسَناته استحقَّ النار، إلا أنْ يشفع فيه الشفعاء، أو يعفو الله عنه، ومَن خفَّتْ موازينه لكُفره وشِركه وتَعاطِيه لما يحبط عمله فهم الأخسرون أعمالًا، المستوجِبُون للنارِ عَذابًا ونَكالًا، قال تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)[المؤمنون: 101-104].

وقد يقول قائل: ما فائدة الميزان والله -عز وجل- يعلم أعمال العباد من خير أو شر؟

قال ابن أبي العز الحنفي: "ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه وتعالى لجميع عباده؛ فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين؛ فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه؟".

عباد الله: إن العاقل الفطن هو الذي يأتي يوم القيامة وقد استكثر من الحسنات وأثقل موازينه بالأعمال الصالحة، وقلل ما استطاع من السيئات والأعمال الفاسدة، ولعلنا نذكر أنفسنا وإخواننا المسلمين بالأعمال التي تثقل الميزان يوم القيامة:

ألا فاعلموا أن أعظم الأعمال الصالحة التي تثقّل الميزان وترجحه يوم القيامة هو: توحيد الله -تعالى-، وإفراده بالعبادة، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88-89] فتوحيد الله مما يرجح الموازين يوم القيامة.

وذكرُ الله -تعالى- مما يثقل كِفة الحسنات؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ"، وقال صلى الله عليه وسلم: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لله تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لله تَمْلآنِ -أَوْ تَمْلأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ"(رواه مسلم).

والإنفاق في سبيل الله، وإمداد المجاهدين بالعدة والعتاد، مما يثقل الميزان ؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من احتبس فرسًا في سبيل الله، إيمانًا بالله، وتصديقًا بوعده، كان شبعه وريه، وروثه، وبوله، حسنات في ميزانه يوم القيامة".

وأثقل الأعمال في الميزان حسنُ الخلق وطيب المعشر مع الأهل والصاحب والولد والناس أجمعين؛ فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ"(رواه أحمد وأبو داود).

نسأل الله أن يهدينا لأحسن الأخلاق إنه لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا هو.

فطوبى لمن ثَقُل ميزانه.

والمسلم حرى به ألا يحتقر أي عمل صالح ولو قل، وألا يستهين بمعصية واحدة ولو صغرت؛ فحسنة تثقل ميزان العبد وتدخله الجنة وسيئة تخف ميزانه، قال صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقَ أخاك بوجه طلق"(رواه مسلم).

وكم من عمل صغير عظمته النية! وكم من عمل عظيم حقرته النية!؛ ففي الصحيحين: "أن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطوف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغُفِر لها".

فإذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا؛ فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟!

فاستكثروا -عباد الله- من الأعمال الصالحة، وحققوا التوحيد والتقوى؛ لأننا خطاؤون مذنبون؛ فلعل هذه الأعمال الصالحة أن تستغرق أعمالنا الطالحة وترجح موازيننا.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى وسمع الله لمن دعا.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى.

عباد الله: إن من آثار الإيمان بالميزان يوم القيامة: ظهور آثار أسماء الله وصفاته، فالله -سبحانه وتعالى- العليم الخبير الحسيب المحصي، لا يخفى عليه شيء، وكذلك بيان قدرته تبارك وتعالى على حساب خلقه على مثاقيل الذر، والله قادر على أن يزن أعمال العباد كلهم، وينتهي كل شيء في لحظة: (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[لقمان: 28]؛ فيُحاسب الناس كلهم كما يحاسب الواحد؛ فالله -سبحانه- على كل شيء قدير، لا يتعاظمه شيء، ولا نقيس أمر الآخرة على أمر الدنيا.

ومن آثار الإيمان بالميزان يوم القيامة: أن يجتهد العبد في الطاعات والمسارعة إلى الخيرات؛ فإن من زادت حسناته على سيئاته أفلح ونجح، قال تعالى: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ)[القارعة: 6-11].

ومن فوائد الإيمان بالميزان: المحافظة على الحسنات مما يبطلها أو ينقصها؛ كالشرك بالله والعجب والرياء وترك الفرائض وانتهاك المحرمات والوقوع في ظلم العباد فهو ظلمات يوم القيامة.

ومن فوائد الإيمان بالميزان والحساب والجزاء يوم القيامة: بيان عدله -سبحانه وتعالى-، وأنه يضع الموازين القسط العادلة التي يبيِّن فيها مثاقيل الذر التي توزن بها الحسنات والسيئات، كما في الآيات: (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ)[الأنبياء: 47] التي هي أصغر الأشياء وأحقرها؛ كما قال تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة:7-8].

فاتقوا الله -عباد الله- وثَقِّلوا بالصالحات كفة الحسنات؛ عسى إن نحن فعلنا ذلك أن ترجح حسناتنا على سيئاتنا.

اللهم يسر حسابنا ويمن كتابنا وثقِّل ميزاننا بالأعمال الصالحة والحسنات الراجحة وثبت على الصراط أقدامنا.

آمين يا رب العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي