وأعظم الخسران الذي ينبغي الخوف منه؛ أن يختم الله لك بعمل سيء تموت عليه مما قد اعتدته في حال خلوتك بعيدا عن أعين الناس, وقد مر معنا قول الإمام ابن رجب: "إنَّ خاتمة السُّوءِ تكونُ بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيّها المسلمون: للعبد مقامات بين يدي خالقه ومولاه، يُختبر فيها على قدر إيمانه وتقواه، وإن من أشد تلك المقامات؛ مقام الخشية؛ كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ)[الأنبياء:48-49], وسئل رجل عامي عن معنى التقوى؟! فأوجزها في عبارتين فقال: "كيف حالك, يوم تكون لحالك؟".
أيها المسلمون: فإن بالخلوة رفع الله ثلة من الأنام، وكم بها سقط أناس من نظر العلام سبحانه القائل: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ)[الرعد:9-10]؛ يقول أبو بكر الوراق: "وَجَدْتُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي الْخَلْوَةِ وَالْعُزْلَةِ، وَوَجَدْتُ شَرَّهُمَا فِي الْكَثْرَةِ وَالِاخْتِلَاط".
إن الخلوة عند الصالحين هي موطن لمحاسبة النفس واستصلاح عيبها، عنّف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أحدَ رعيته، ثم دخل بيته فافتتح الصلاة، فصلى ركعتين، ثم جلس، فقال: "يا ابن الخطاب! كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزّك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، لجأ رجل يستعديك فضربته، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟"، وسأل فَيْضُ بْنُ إِسْحَاقَ الْفُضَيْلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)[ق:32-33]، قَالَ: "الْمُنِيبُ الَّذِي يَذْكُرُ ذَنْبَهُ فِي الْخَلْوَةِ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ".
وفي الخلوات لذة المناجاة والأنس بالله, يقول مسلم بن يسار: "مَا تَلَذَّذَ الْمُتَلَذِّذُونَ بِمِثْلِ الْخَلْوَةِ بِمُنَاجَاةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-"، ويقول محمد بن يوسف: "مَنْ أَرَادَ تَعْجِيلَ النِّعَمِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ مُنَاجَاةِ الْخَلْوَة".
وبالمقابل هناك قوم آخرون شقوا بالخلوات، وضعفت مراقبة الله -سبحانه- في قلوبهم, فكانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها؛ مغترين بستر الله وحلمه عليهم، قال -تعالى-: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)[النساء: 108], "وهذا من ضعف الإيمان، ونقصان اليقين، أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله، فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم"(السعدي).
عباد الله: وما أقبح التظاهر بين بالصلاح بين العباد، والخلوة بالمنكرات والفساد ويا خسارة من يفعل ذلك يوم المعاد، قال -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَبَاءً مَنْثُورًا"، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ؟، قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا"(صححه الألباني).
ويدخل في أولئك القوم من يأمر الناس بالمعروف وينهى عن المنكر, فيحسبه الناس من أهل الصلاح والخير وهو ليس كذلك في الحقيقة؛ ففي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلاَنُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ؟!, قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَاكمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ".
وليس معنى الحديث أن الإنسان لا يأمر بالمعروف إلا إذا كمل صلاحه, أو جانب جميع المعاصي؛ فإن هذا قد لا يوجد, وأين ذاك الذي لا يذنب؟! قال الحسن البصري لمُطرِّف بن عبد الله: "عِـظْ أصحابك"، فقال: "إني أخاف أن أقول ما لا أفعل"، قال: "يرحمك الله! وأيُّـنا يفعل ما يقول؟! ودّ الشيطان أنه قد ظفِرَ بـهذا؛ فلم يأمر أحد بمعروف، ولم يَنْهَ عن منكر", قال سعيد بن جبير: "لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عـن المنكر حتى لا يكون فيه شيء؛ ما أمر أحد بمعروف، ولا نَهى عن منكر".
ولو لم يعظِ الناس مَنْ هو مذنبُ *** فَمَنْ يعظ العاصين بعد محمدِ
ولذا قال ابن حجر في معنى الحديث: "ويُحمل حديث أسامة على المستهتر المتهتّك ، الذي يتظاهر أمام الناس بالصلاح فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وإذا خلى بمحارم الله انتهكها ، كما في حديث ثوبان".
أيها الإخوة: إن ذنوب الخلوات من أشد أنواع الذنوب خطرًا على صاحبها، وهذا النوع من الذنوب يعتبر أصل الانتكاسات في العبد, يقول رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ" (متفق عليه)، قال ابن رجب: "إنَّ خاتمة السُّوءِ تكونُ بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس؛ إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سُوءَ الخاتمة عند الموت", ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "أجمع العارفون على أن أصل الانتكاسات ذنوب الخلوات".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم, فاستغفروه...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين, وعلى آله وأصحابه والتابعين, وبعد:
أيها المؤمن: إن انتهاكك محارم الله وأنت وحدك في خلوتك, أو في مكان لا يعرفك فيه أحد داء خطير؛ فقد يكون بنظرة تنظر إليها، أو بشاشة تقلبها، أو بلد تسافر إليها؛ فتتجرأ على محارم الله كأنك نسيت قوله -تعالى-: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)[العلق: 14]
وإن علاج هذا الداء يكون بتعظيم الله -جل وعلا- وخشيته، ويتأتى ذلك بمعرفة الله وأسمائه وصفاته؛ فأعلمُ الناس بالله أشدهم له خشية, قال -سبحانه-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28].
وكذا مراقبة الله في السر والعلن؛ بأن تعلم أن الله مطلع عليك أينما كنت, يقول الله: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[يونس: 61], وقال -سبحانه-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[المجادلة: 7].
وعن سعيد بن يزيد الأزدي أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أوصني، قال: "أوصيك أن تستحيي من الله -عز وجل-؛ كما تستحيي من الرجل الصالح من قومك" (أحمد وصححه الألباني).
وإذا خلوت بريبة في ظلمةٍ *** والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
قال ابن القيم: "مراقبة الله في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر؛ فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته".
خرج عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى مكة، فعَرَّس في بعض الطريق، فانحدر عليه راع من الجبل، فقال له: "يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم؟", فقال: إني مملوك. فقال: "قل لسيدك: أكلها الذئب؟", قال: فأين الله؟, فبكى عمر -رضي الله عنه-. وقال أعرابي: خرجت في ليلة ظلماء فإذا أنا بجارية كأنها علم فراودتها, فقالت: "ويلك أما لك زاخر من عقل, إذ لم يكن لك ناه من دين, فقلت : إيه والله ما يرانا الا الكواكب, فقالت: "وأين مكوكبها؟".
وأعظم الخسران الذي ينبغي الخوف منه؛ أن يختم الله لك بعمل سيء تموت عليه مما قد اعتدته في حال خلوتك بعيدا عن أعين الناس, وقد مر معنا قول الإمام ابن رجب: "إنَّ خاتمة السُّوءِ تكونُ بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس", ويقول الإمام ابن كثير: "الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت", فاللهم سلم سلم.
اعلم -يا عبد الله- أن خشيتك الله في حال خلوتك تورثك الجنة ونعيمها وأعظم ما فيها وهو النظر إلى وجه الله الكريم -سبحانه-, قال -تعالى-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)[ق:31-33], وقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)[البينة: 7-8].
والدنيا فتنة والعبد محتاج إلى الصبر؛ ليستعين بها في الطاعة والبعد عن المعاصي والشهوات؛ فيظفر بمعية الله في كل أحواله من سره وجهره؛ فالله يقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة: 153].
فيا عباد الله: اتقوا الله في كل أحوالكم وراقبوه واستقيموا على طاعته ولا تعصوه، وبادروا بالتوبة إليه ولا تنسوه.
وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي