وحسب الصيام أنه مدرسة يتربى فيها الصائم ويأخذ منها الحِكم الجليلة والفوائد الوفيرة؛ فيتخلق بأخلاق أهله ويشعر بمن حوله من الفقراء والمساكين؛ كما تنمو علاقته برب العالمين ومراقبته له....
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
معاشر المسلمين: إن من عناية الله -تعالى- بعباده أن أرشدهم إلى ما يصلح قلوبهم وما تزكو به نفوسهم وتستقيم معه أحوالهم، وإن من أعظم ما تصلح به قلوب العباد وتسعد في الدنيا والمعاد؛ عبودية الصيام؛ فإن من يتأمل في آيات القرآن الكريم يجد فيها ما يجلي للمسلم فضائل الصيام وآثاره الإيمانية والتربوية؛ كما أن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- مليئة بذلك، ولعلنا في هذا المقام أن نذكر شيئا منها:
أن الصيام يربي الصائم على العدل والقسط: وهذه الفائدة مأخوذة من تشريع الإسلام لعبودية الصيام؛ حيث أوجبها على جميع أهل الإسلام، ولم يفرق فيها بين الأغنياء والفقراء والرجال والنساء.
ومن فوائد الصيام: أن عبودية الصيام تزرع في الصائم حب الجدية والانضباط من خلال حرص الصائم مفارقة المنهيات، والامتناع عما أحل الله له من الطيبات فترة الصيام انقيادا لله وتسليما لما أوجب، قال الله -تعالى-: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ)[البقرة:187]، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ"، وروى الإمام البخاري رحمه الله- أن النبي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ".
ومن فوائد الصيام: أنه يربي العبد على البذل والإحسان، والشفقة بالمحرومين، ويحصل ذلك عند شعوره بالجوع والعطش؛ فيتذكر حال البؤساء اللذين لا يجدون ما وهبه من النعيم والخيرات؛ فيفعه ذلك إلى الجود والإنفاق.
ومن فوائد الصيام: أن الصيام من أسباب حصول اليسر وارتفاع العسر والمشقة؛ كما قال سبحانه: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة:185]، واليسر في تشريع الصيام واضح وجلي يدركه العاقل من خلال سماحة الإسلام في إباحة الفطر للمريض والمسافر مع قضائهم لتلك الأيام في أيام أخر، وكذلك في استحباب تأخير السحور وتعجيل الفطور وغيرها من مظاهر اليسر في هذه العبادة العظيمة.
ومن فوائد الصيام وآثاره: أنه يعرف العبد بضعفه وافتقاره إلى ربه وخالقه؛ فيتذكر عظيم إحسان الله إليه وسعة جوده وعطاياه، فيقابل ذلك بتكبير الله وتعظيمه وشكره؛ كما قال تعالى: (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة:185].
ومن فوائد الصيام وآثاره: أن الصيام يعين المسلم على العفة وغض البصر وتحصين الفرْج؛ كما أرشد إلى ذلك الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ".
ومن فوائد الصيام وآثاره الإيمانية: أن الله -تعالى- اختص هذه العبادة دون غيرها وجعلها له -سبحانه وتعالى-؛ كما جاء في الحديث القدسي: "الصَّوْمُ لي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِى".
ومن فوائد الصيام: حلول البركة في عبادته الصائم وطعامه وشرابه وسائر أفواله وأعماله، وذلك ظاهر من تسابق الصائمين إلى القيام بهذه العبادة التي ربما كانوا يتكاسلون عنها وتثقل عليهم في غير شهر الصيام، قال الله -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدَىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[البقرة:185]، وفي وصف الكتاب العزيز بأنه كتاب مبارك فيها إشارة إلى بركة الزمن الذي نزل فيها.
ومما يؤكد على بركة الصيام: وصف الله -تعالى- لأفضل ليالي الصيام بأنها مباركة، قال تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر:3]، وليلة القدر لها بركة عظيمة جدا، كما وصفها الله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)[الدخان:3]؛ فالصيام مبارك، ويجلب للصائم البركة؛ فيجتهد في أعمال الخيرات والتزود من الصالحات.
ومن فوائد الصيام: أنه من أعظم أسباب مغفرة الذنوب والزلات؛ كما أشار إلى ذلك سيد السادات -عليه أزكى السلام وأطيب الصلوات- في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". وعَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ".
ومن فوائد الصيام الإيمانية: أن الله اختص أهله بباب الريان الموصل للجنان؛ كما روى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لِلصَّائِمِينَ بَابٌ في الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ لاَ يَدْخُلُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ، مَنْ دَخَلَ فِيهِ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ".
ومن فوائد الصيام: أنه يشفع لصاحبه عند ربه ومولاه؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِى فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِى فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ".
بارك الله لي ولكم بالقرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ فيا فوز المستغفرين.
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: فإن من أعظم آثار الصيام وفوائده: أنه سبيل إلى تحقيق تقوى الله -عز وجل-، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة:183]؛ فبين سبحانه في هذه الآية أنه شرع الصيام لعباده ليوفر لهم التقوى.
ومن فوائد الصيام -أيها الكرام-: أنه طريق الأفراح والسعادة والفلاح؛ كما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ"(رواه البخاري)؛ فالصائم له فرحتان: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ بما أتم الله له من نعمة الصيام، وفرحة عظيمة يوم القيامة يوم لقاء ربه، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس:58].
ومن فوائد الصيام: تزكية النبي -صلى الله عليه وسلم- للصائمين وثناؤه عليهم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ"؛ فإذا كانت هذه ريح خلوف الفم؛ فما ظنكم بعبادة الصيام؟!.
ومن فوائد الصيام الإيمانية: أن الله أخبر أن الصيام كله خير للصائمين، قال الله تعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة:184]، ولا شك أن الخيرية في هذه العبادة شاملة لدين الصائم ودنياه وأخراه.
وحسْبُ الصيام أنه مدرسة يتربى فيها الصائم ويأخذ منها الحِكم الجليلة والفوائد الوفيرة؛ فيتخلق بأخلاق أهله ويشعر بمن حوله من الفقراء والمساكين؛ كما تنمو علاقته برب العالمين ومراقبته له؛ فعلى المسلم أن يقوم بهذا العبادة العظيمة؛ كما قام بها إمام الأنبياء وسيد الحنفاء؛ فتحصل له المنافع والثمرات والأجور والرحمات.
اللهم وفقنا للإقبال وارزقنا القبول.
وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه؛ حيث أمركم الله في كتابه العزيز؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
رابط الخطبة الأصلية
https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/174770
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي