إنَّ نعمة التوفيق لا تُنال إلا بأسباب، ومن ذلك: ذُلّ العبد وانكساره، وخضوعه لله، واقراره بعجزه وضعفه، فيقر العبد في كلّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الباطنة والظاهرة بافتقاره التامّ إلى ربّه ووليِّه، ومن بيده صلاحه وفلاحه، وهُدَاهُ وسعادته، وهذه الحال التي تَحْصُلُ لقلبه...
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء: 1]؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: ما أعظم أن يسير المرءُ في طريق الخير، ويستقيم عليه، وترعاه عنايةُ الله في كلّ وقت، وهذه نعمة من النعم العظيمة التي يمتنُّ الله بها على من يشاء من عباده، أعني نعمة التوفيق والهداية.
والتّوفيق هو: الإلهامَ للخَيْر؛ يقال: وَفَّقهُ اللهُ أي ألهمه إيّاه وسدّد خُطْاه وأنْجَحه فيما سعى إليه، وعكس التوفيق الخذلان ومعناه: تَرْكُ الْعَوْنِ، يقال خذَله اللهُ: أي: تخلَّى عن نصرته وإعانته.
والتوفيق معناه: أن يهيئ الله للعبد أسباب عمل الصالحات والمداومة عليها، ويرغبه فيها، ويبعده عن ضدّ ذلك كلّه، فيجعل سعيه دائماً في مرضاته، فإذا ما أخطأ أو قصّر في أمرٍ فتح له باب التوبة والاستغفار والانابة.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "أجمعوا على أنّ التوفيق ألا يكلك الله إلى نفسك، وأنَّ الخذلان هو أن يُخلي بينك وبين نفسك، فإذا كان كلُّ خير فأصله التوفيق، وهو بيد الله لا بيد العبد، فمفتاحه الدعاء والافتقار، وصدق اللجإ والرغبة والرهبة إليه، فمتى أُعطي العبد هذا المفتاح، فقد أراد الله أن يفتح له، ومتى أضله عن المفتاح، بقي باب الخير مُرتجا دونه".
قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأمر لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)[الحجرات: 7].
يقول السعدي -رحمه الله- معلقا على هذه الآية الكريمة: أي: "ليكن لديكم معلومًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهركم، وتريدون لأنفسكم من الشر والمضرة، ما لا يوافقكم عليه، ولو يطيعكم في كثير من الأمر لشق عليكم، ولكن الرسول يرشدكم، والله تعالى يحبب إليكم الإيمان، ويزينه في قلوبكم، بما أودع الله في قلوبكم من محبة الحق وإيثاره، وبما ينصب على الحق من الأدلة الصحيحة، وقبول القلوب والفطر له، وبما يكرمكم سبحانه فعله من توفيق وإنابة إليه، ويكره إليكم الكفر والفسوق، أي: الذنوب الكبار، والعصيان بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر، وعدم إرادة فعله، وبما نصبه من الأدلة والشواهد على فساده، وعدم قبول الفطر له، وبما يجعله الله من الكراهة في القلوب له".
ولا غنى للعبد عن توفيق الله -تعالى- له في أمره كله؛ كما قال ربنا سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأمر بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[النور: 21].
معاشر المسلمين: إن نعمة التوفيق لا تنال إلا بأسباب، من ذلك:
خضوع العبد لربه سبحانه والانكسار لأوامره ونواهيه وتذلله بين يديه والافتقار إليه.
ومنها: النية الطيبة؛ فعلى قدر صلاح النية يكون التوفيق من الله -سبحانه وتعالى- لعبده.
ومن أعظم أسباب توفيق الله تعالى للعبد: الإكثار من الدعاء ومناجاة رب الأرض والسماء؛ فهو يجيب الداعين ويعطي السائلين ويغيث المكروبين.
وإنَّ من أسباب حرمان نعمة التوفيق: التفريط وإهمال النفس وعدم تزكيتها وتربيتها التربية الإيمانية التي تسمو بها في الدينا وتسعد معها في الآخرة؛ كما قال ربنا -سبحانه-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[العنكبوت:69].
عباد الله: ومن تأمّل كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وتدبّرهما حقّ التدبر يجد أن علامات توفيق الله للعبد كثيرها منها:
التوفيق للعمل الصالح وطاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: قال -سبحانه-: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:71].
وجاء في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله" قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟" قال: "يوفقه لعملٍ صالح قبل موته".
ومنها: إخلاص النية وتنقيتها من كل الشوائب؛ قال تعالى: (قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ)[الزمر:11].
عباد الله: وإن من علامات توفيق الله لعبده: أن يرزقه حسن التوكل على الله والإنابة إليه، قال الله -تعالى- عن شعيب -عليه الصلاة والسلام-: (وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ)[هود: 88]؛ فالله يوفق من شاء من عباده سبحانه وتعالى-؛ كما أخبر في قوله تعالى: (قُلْ إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ أَنَابَ)[الرعد:27].
ومن علامات توفيق الله: تعلق العبد بالآخرة وحبه للعمل لها؛ كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "من كانت الآخرة همّه: جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه: جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قُدِّر له"(صحيح الجامع).
عباد الله: ومن علامات توفيق الله للعبد: ملازمة التوبة النصوح والإنابة والعودة إلى الكريم المتعال ورب العزة والجلال؛ كما قال تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا)[النساء:27].
ومن العلامات: حب الطاعات وبغض المنكرات؛ يقول أبو سليمان الداراني -رحمه الله- يقول: "أهل الليل في ليلهم ألذّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا".
ومن العلامات الدالة على توفيق الله للعبد: طلب العلم الشرعي والحرص في تحصيله؛ فقد جاء في الحديث الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من يُرِد الله به خيراً يفقِّهه في الدين".
ومنها: نشر الخير والدعوة إليه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33].
ومن علامات التوفيق: سعي العبد في نفع الناس وقضاء حوائجهم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أحبّ الناس إلى الله أنفعهم".
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانـية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، أما بعد:
أيها المؤمنون: ومن علامات توفيق الله للعبد: الرضا بأوامر الله وأحكامه والتسليم لله، وهذا بخلاف المنافقين الذين بيّن الله حالهم بقوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ* وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[النور:48-50].
ومن توفيق الله للعبد: أن يكرمه الله -تعالى- بالقناعة عن ما في أيدي الخلق، قال النبيُّ -عليه الصلاة والسلام-: "قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه"(مسلم).
فاحرصوا -رحمكم الله- على بذل الأسباب الموصلة إلى توفيق الله، واستمطروا توفيقه -سبحانه- بحسن العمل والدعاء وحسن الظن به؛ فإن ذلك من أعظم النعم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه؛ فقد أمركم الله بذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي