ونحن ما خُلقنا ولا وُجدنا إلا للعبادة، وأي عبد جد واجتهد فإنه يرتقي في سُلم العبودية، وبذلك يفوق الآخرين بغض النظر عن قبيلته وبلده وغناه أو فقره، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)؛ ولذا فإن المطيعين...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها الإخوة: لا أحوج للعبد أعظم من حاجته إلى استقامة قلبه، والسعي إلى ما ينال به رضا ربه -عز وجل-، ولن يتحقق له ذلك إلا سلامة قلبه وسموه إلى أعلى درجات العبودية؛ فإذا فعل ذلك نال رحمة الله وعرف سبل مرضاته؛ كما قال تعالى في قصة موسى -عليه السلام-: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)[الكهف: 65].
إخوة الإيمان: لقد رفع الله -تعالى- منزلة العبادة إلى أعظم المقامات والمنازل؛ فهي أشرف المقامات وأعلاها؛ فبها يزول كل ضيق، ويُفرج كل هم؛ لأنها توجب الرجوع من العباد إلى المعبود، وقد أخبر الله بأن ضيق الصدر يذهب بأربعة أمور أرشد الله إليه رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقال سبحانه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 97-99].
وبالعبادة وتقوى الله -تعالى- يكون ميزان التفاضل بين الناس، قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13]؛ فعلى قدر إيمان العبد وتقواه يكون مقامه في دنياه وأخراه.
وبعد معرفتنا للميزان الذي يوزن به العباد في الدنيا والمعاد نجد من الأهمية بمكان معرفة مراتب العبودية ومنازل أهلها، وإليكم مقاماتها في ما يلي:
مرتبة الرسالة والنبوة، وهى أعلاها، وأصحابها هم المصطفون، كما قال -تعالى-: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ)[الحج: 75]، وقال -سبحانه-: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى)[النمل: 59].
وأهل هذه المرتبة -أيضاً- يتفاوتون فيما بينهم، فبعضهم أفضل من بعض، قال -تعالى-: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)[البقرة:253]، وقد قاموا جميعاً بالعبودية لله -تعالى- حق قيام، وكانوا قدوة لأقوامهم في حياتهم وبعد مماتهم.
والمرتبة الثانية: مرتبة أصحاب الأنبياء والرسل؛ وهؤلاء ورثة الرسل وخلفاؤهم؛ وهم القائمون بما أمر الله به على لسان رسله علماً وعملاً، وهم الوسائط في التبليغ عن الرسول للأمة من بعده؛ فهم الربانيون والحواريون، وهم الذين كانوا مع الرسل في حياتهم فآمنوا بهم وآزروهم ونصروهم.
ومرتبة الصحبة أفضل المراتب بعد النبوة، أصحابها فُضِّلُوا على بقية الأمة، اصطفاهم الله لصحبة رسله وأنبيائه، لقد آمنوا حين كفر الناس، وصدّقوا حين كذب الناس، وبذلوا الأنفس والأموال في نصرة دين الله، قاتلوا مع رسل الله فقتلوا وقتلوا، فأثابهم الله خيري الدنيا والآخرة، (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[التوبة: 88].
والمرتبة الثالثة من مراتب العبودية: مرتبة المجاهدين في سبيل الله؛ وهؤلاء هم جند الله -عز وجل-؛ الذين يقيم الله بهم دينه ويدفع بهم بأس أعدائه، المجاهدون هم الذين يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله، ويكفي أنهم قد ربحوا التجارة مع الله؛ بما بذلوا من أموالهم وأنفسهم (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[لتوبة:111]، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق"(رواه أبو داود وصححه الألباني)، وفي المقابل قال -صلى الله عليه وسلم-: "من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منزلة الشهداء وإن مات على فراشه"(رواه مسلم).
والمرتبة الرابعة من مراتب العبودية: مرتبة العلماء؛ وهؤلاء لهم في سُلّم العبودية حظ وافر؛ لأنهم الذين يحملون أمانة العلم، ويحفظون دين الله من الضياع، ويبلغونه للناس، ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم.
إن العلماء هم الذين يعلمون الجاهل، ويرشدون الضال، ويقومون بالذبّ عن دين الله -تعالى- بالرد على المبتدعة وأهل الأهواء، العلماء هم الذين يواجهون السلاطين والزعماء ويردونهم عن ظلمهم؛ فهم الوارثون للأنبياء وهم الراسخون في العلم، قضوا زهرة حياتهم وصفوة شبابهم في حِلَق العلم وبين مجلدات الكتب.. أسهروا ليلهم وقضوا نهارهم في حفظ المتون وقراءة الشروح، في الوقت الذي كان غيرهم يقضون أوقاتهم في الشواطئ والحدائق العامة ومدرجات الملاعب أمام الشاشة، جدوا واجتهدوا حتى وصلوا إلى هذه المرتبة، ففضلهم عظيم، ومنزلتهم عالية (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28]؛ فحقهم علينا كبير.
المرتبة الخامسة من مراتب العبودية: مرتبة أهل الإيثار والصدقة والإحسان إلى الناس باختلاف حاجاتهم ومصالحهم في تفريج الكربات، ودفع الضرورات، وتسهيل المهمات، هؤلاء رغبوا فيما عند الله، وآمنوا بأن ما ينفقونه من الأموال لا ينقص مما عندهم بل يزداد، وأنه ما نقص مال من صدقة، يستشعرون قول الباري -عز وجل-: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة:261]، وقوله -تعالى-: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة:274].
هؤلاء الصنف من العباد اعتقدوا اعتقاداً جازماً بأن ما عندهم ينفذ وما عند الله باقٍ، وأن ما ينفقونه ليست لهم، وإنما هو مال الله جعلها في أيديهم واستخلفهم فيها؛ لينظر كيف يعملون، وكيف يتصدقون، وعلى أية طريقة يصرفون وينفقون.
إذا سمعوا بناء مسجد تسابقوا، وإذا سمعوا بأرملة أو مسكينة إلى خدمتها تدافعوا، وإذا علموا بمشروع خيري بذلوا، فهنيئاً لهم، تساووا مع الناس في أداء الواجبات، وزادوا على الناس بما أنفقوا؛ رغبة فيما عند الله، لا يريدون من أحد جزاءً ولا شكورا؛ فهل أنت من هؤلاء -يا عبد الله-؟
معاشر المسلمين: والمرتبة السادسة من مراتب العبودية: مرتبة الدعاة إلى الله، -عز وجل-؛ هؤلاء طلبة علم، ودعاة خير وإصلاح هداهم الله -عز وجل- لطريق الخير والاستقامة، في زمن كثرت فيه المغريات، وعمت الفواحش والمنكرات، فحفظهم الله -عز وجل-، لكن لم يريدوا الخير لأنفسهم فقط، فحملوا على عواتقهم واجب الدعوة إلى الله -عز وجل-، ومحاولة انتشال الهلكى والغرقى في وحل الخطيئة والمعصية إلى بر السلامة والنجاة.
والمرتبة السابعة من مراتب العبودية ودرجاتها: مرتبة أولئك الصالحين، الذين قاموا بفرائض الله، وازدادوا عليها بالنوافل، بما فتح الله -تعالى- عليهم؛ فمنهم المكثر من الركوع والسجود، ومنهم المكثر من قراءة القرآن، ومنهم المكثر من الصوم، ومنهم الذاكرون، ومنهم الصابرون، فهؤلاء جاهدوا أنفسهم في تكثير الحسنات ومحو الزلات؛ فهم حقاً أهل الربح والخيرات، إذا عمل أحدهم خطيئة تاب وأناب، هم أهل قول الله -تعالى-: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ)[السجدة: 16]، وقوله -تعالى-: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)[الذاريات:17].
المرتبة الثامنة من مراتب العبودية: مرتبة أهل النجاة؛ ممن يؤدي فرائض الله -تعالى- ويترك محارمه، مقتصراً على ذلك لا يزيد ولا ينقص، عما فرض عليه؛ فهؤلاء هم مفلحون؛ لحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في الرجل الذي جاء إلى رسول -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الإسلام ثم قال بعدما علم: "والله لا أزيد على هذا ولا أنقص"، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أفلح إن صدق"(رواه البخاري ومسلم).
عباد الله: هناك ثلاث خطوات إيمانية مهمة تشعر المرء بالعبودية وتدفعه نحو الاستقامة:
الأولى: أن يعبد الله طمعاً في الثواب أو هرباً من العقاب، وهذه أدنى الدرجات؛ لأن معبوده ذلك الثواب، وقد جعل الحق وسيلة إليه.
الثانية: أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته، أو يتشرف بقبول تكاليفه، أو الانتساب إليه، وهذه أعلى من الأولى.
ومما زادني شرفًا وفخراً *** وكدت بأخمصي أطأ الثريـا
دخولي تحت قولك : يا عبادي *** وأن صيَّرت أحمد لي نبيـا
الثالثة: أن يعبد الله لكونه إلهاً وخالقاً، ولكونه عبداً له، والإلهية توجب الهيبة والعزة، والعبودية توجب الخضوع والذلة، وهذه أعلى المقامات، وأشرف الدرجات للعبد.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعهد، وآله وصحبه ومن تبعه، وبعد:
أيها المؤمنون: ولله على عبده أحوال لا ينفك عنها فهو دائر بين ثلاث: أمرٌ أمره الله به، وقضاء يقضيه عليه، ونعمة ينعمها عليه؛ فأما عبوديته في الأمر امتثاله؛ إخلاصًا له واقتداءً برسوله، وأما عبوديته في النهي فهو اجتنابه؛ خوفاً وإجلالاً ومحبةً وهيبةً.
وأما قضاء الله -تعالى- على عبده فهو نوعان: مصائب ومعائب؛ فعبودية المصائب بالصبر عليها ثم الرضى ثم الشكر ولا يكون ذلك إلا لمن تمكنت محبته في قلبه وكُمل انقياده واستسلامه، وأما المعائب: فعبوديتها بالمبادرة إلى التوبة والندم والاستغفار والوقوف في مقام الاعتذار والانكسار، عالماً بأنه لا يرفعها عنه إلا هو ولا يقيه شرها سواه، فهو عائذ برضاه من سخطه وبعفوه من عقوبته وبه منه -سبحانه وتعالى-.
وأما عبودية النعم فمعرفتها والاعتراف بها أولاً، ثم العياذ به أن يقع في قلبه نسبتها إلى سواه، وشكرها بأن يستعملها في طاعته.
عباد الله: ينبغي للمؤمن أن يجتهد في تحقيق مراتب العبودية لله -عز وجل-، وأن يسابق ويسارع إلى الخيرات؛ فإنه لا منتهى للخير إلا بقبض الروح وانتهاء الأجل.
وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
--------------------
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي