الفألُ الحسنُ وحسنُ الظنِّ بالله؛ لتتحولَ المحنةُ إلى مِنحة: صبرُوا على شروطٍ ظاهرُها الجَورُ، وباطنُها الخيرُ؛ فعجَّلَ لهم فتحَ خيبرَ، وخُضِدَتْ شوكةُ اليهودِ، وامتدتْ الدعوةُ في الجزيرةِ، خرجَ إلى الْحُدَيْبِيَةِ بألفٍ وأربعِمِئة، ثم رجعَ بعدَها بسنتينِ لفتحِ مكةَ بعشرةِ آلافٍ؛ دخلُوا واطَّوَّفوا البيتَ الحرامَ آمنينَ.
الحمدُ لله الذي رَضِيَ من أهلِ الْجنَّةِ لما قَالُوا: (الْحَمدُ لله الَّذِي صَدَقَنا وعدَه)، وأشْهدُ أَن لَا إِلَه إِلَّا هو وَحدَه لَا شريكَ لَهُ، وَأشْهدُ أَن مُحَمَّدًا عَبدُه وَرَسُولُه، صلى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبهِ وَسلمَ تَسْلِيمًا كثيرًا، أما بعدُ: فالزادَ الزادَ التقوى.
أبشِروا.. أبشِروا.. أبشِروا أيها الإخوة؛ لنتفاءَل أنْ سيَشِعُّ ويَشيِعُ نورُ الأملِ برغمِ التثبيطِ والتضليلِ، وسينبثقُ الفجرُ السَّاطعُ برغمِ ظلمةِ الظلم.
قدوتُنا في ذلك رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- الذي استسهلَ ما استصعبَه غيرُه واستيأسُوه؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَسْتَأْذِنُهُمْ لِيَدْخُلَ مَكَّةَ.. يا الله!! يستأذنُ المشركين عبدةَ الأصنامِ في دخولِ مكةَ بلدِ الإسلام؟!
فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ: وأيضًا يَشترطون؟! أما نحن فقد نقول: وأي ذلة؟! لكنَّ نبيَّك -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا".
فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ شروطًا في ظاهرِها العذابُ وباطنُها الرحمة: أَنْ لاَ يُقِيمَ بِهَا إلاَّ ثَلاَثَ لَيَالٍ!! تضييقٌ وإرادةُ إذلالٍ، لكنها العِزة! وسترَون! وَلاَ يَدْخُلَهَا بالسِّلاَحِ، وَلاَ يَدْعُوَ مِنْهُمْ أَحَدًا، أرأيتمْ كيفَ أن الدعوةَ إلى اللهِ تُخيفُ مِلل الكفر؟! وَأَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَهُ، وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا.
قسمةٌ ضِيزى: مَن آمنَ فلا يَخرج ليَستضعِفوه! ومن كَفَر فلا يُرَد!! وهيهاتَ لقلبٍ خالَطَ الإيمانُ بشاشتَه أن يَرتَدَّ! لا زالَ الصحابةُ مَشْدُوهين!! لكنَّها الطاعةُ والتسليمُ، وفي صحيح مسلم: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ؛ إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا".
وفي صحيح مسلم: "فَقَالَ لِعَلِيٍّ -رضي الله عنه-: اكْتُبْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فقَالَوا: أَمَّا بِسْمِ اللَّهِ؛ فَمَا نَدْرِي مَا بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ".
يا لَلعِنادِ والاستكبارِ!! حتى كتابة "بسم الله الرحمن الرحيم" رَفَضُوها. ولكنَّ نبيَّك يسلِّم ويتنازَل.
فَكَتَبَ: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نَمْنَعْكَ، وَلَبَايَعْنَاكَ! وَلكِنِ اكْتُبْ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَا وَاللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: وَكَانَ لاَ يَكْتُبُ. قَالَ: فَقَالَ لِعَلِيٍّ: امْحُ رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ لاَ أَمْحَاهُ أَبَدًا! ولا تُلامُ يا علي، ولم يَلُمْكَ الرحمةُ المُهداة-صلى الله عليه وسلم- قَالَ: فَأَرِنِيهِ. قَالَ: فَأَرَاهُ إِيَّاهُ، فَمَحَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ".
أما عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وهو الرجلُ العصاميُ القويُ في الحقِّ فَقد جَاءَ وهو لا يَكادُ يصدِّق!! فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ فَقَالَ: بَلَى. فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَعَلاَمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا. نعم! واللهِ لنْ يُضيِّعَك اللهُ، ولكنَّنا نَستعجل! فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ المُلْهَم ثانيْ اثنينِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؛ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا".
فَلَمَّا مَضَتِ الأَيَّامُ الثلاثة أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا: "مُرْ صَاحِبَكَ فَلْيَرْتَحِلْ"، فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلِيٌّ –رضي الله عنه- لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "نَعَمْ". فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ وهمْ راجعونَ من صُلح الحُديْبِيْةِ، فَقَرَأَهَا -صلى الله عليه وسلم-عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ".
إذًا فلا تَقُلْ: صُلحَ الْحُدَيْبِيَةِ، بل قُلْ: "فتحَ الْحُدَيْبِيَةِ"، لا واللهِ بل قُل: "الفتحَ المبينَ"؛ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)[الفتح:1].
إليكمْ خمسَ دروسٍ من الفتحِ المبينِ؛ "صلحِ الحديبيةِ"؟!
الأولُ: أنه درسٌ عمليٌ في "فقهِ التنازُلاتِ أو الموازَناتِ" متى وكيفَ تكونُ؟ ولا يعنيْ قبولَ "الدنيةِ في الدين" بل هو اختيارٌ واعٍ للسياسةِ الشرعيةِ التي تُحقِّقُ أعلى المكاسبِ للإسلامِ والمسلمينِ.
الثاني: أن نبيَّك -صلى الله عليه وسلم- بارعٌ ومتفوقٌ في استثمارِ الفُرَصِ، فلم يَكن نجاحُه لَيَقِفُ عندَ حدودِ "اعترافِ" المشركينَ بالمسلمينَ كقوةٍ كُبرى يُفاوَض معها، بل تفوَّق سياسيًّا، فكبَّل قريشًا بهذهِ "المعاهدةِ" فلا تُفكِّرُ بحربِ المسلمينَ "عشرَ سنينَ" على الأقلِّ.
الدرسُ الثالثُ: أنَّ الحِدَّةَ والشِّدةَ والعُنفَ لَسْنَ بلوازمَ للقوةِ، وأنَّ المهادنةَ والمداراةَ ليستا مؤشراتٍ للضعف، ولكنَّ الفَطِنَ من وظّفَ الموقفَ المناسبَ في الوقتِ المناسبِ.
رابعًا: إذا كانَ "الرميُّ" قوةً؛ فبرهانُ "الحجةِ" وميزانُ الحكمةِ قوةٌ أُخرى وأَحرى.
خامسًا: الفألُ الحسنُ وحسنُ الظنِّ بالله؛ لتتحولَ المحنةُ إلى مِنحة: صبرُوا على شروطٍ ظاهرُها الجَورُ، وباطنُها الخيرُ؛ فعجَّلَ لهم فتحَ خيبرَ، وخُضِدَتْ شوكةُ اليهودِ، وامتدتْ الدعوةُ في الجزيرةِ، خرجَ إلى الْحُدَيْبِيَةِ بألفٍ وأربعِمِئة، ثم رجعَ بعدَها بسنتينِ لفتحِ مكةَ بعشرةِ آلافٍ؛ دخلُوا واطَّوَّفوا البيتَ الحرامَ آمنينَ: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)[الفتح:27]، نعمْ كانَ تأجيلُ دخولِهم مكةَ لحكمةٍ علِمَها اللهُ (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا).
اللهم إنكَ تَعلمُ ولا نَعلمُ: اللهم فعلِّمنا، وثبِّتْنا عندَ اضطرابِ النفوسِ.
اللهم ألْقِ على النفوسِ المضطربةِ سكينةً، وأثِبْها فتحًا قريبًا.
ربَّنا اهدِ حَيارَى البصائرِ إلى نورِك، وضُلَّالِ المناهجِ إلى صراطِك.
اللهم اجعلْ معتمدَنا عليكَ، وتضرُّعَنا إليكَ، وارحمْ وقوفَنا بينَ يديكَ.
اللهم وفِقْنا للصالحاتِ قبلَ المماتِ، وأرشِدْنا إلى استدراكِ الهفواتِ، من قبل الفوات. وألهِمْنا أخذَ العدةِ للوفاةِ قبلَ الموافاة، وارفعْ عنا خطايا الخطواتِ إلى الخطيئاتِ، وبلغْنا ما لا تبلغُه آمالُنا وأعمالُنا من الخيراتِ.
اللهم أرخصْ أسعارَنا، وأغزِرْ أمطارَنا، وآمنْ أوطانَنا، وحسنْ أخلاقَنا، وطهر سرائرَنا، وطيبْ أقواتَنا، ووفقْ ولاتَنا، وارحمْ أمواتَنا، واجمعْ على الهدى شؤونَنا، واقضِ ديونَنا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي