النبي -صلى الله عليه وسلم- آخى بين المهاجرين والأنصار، والأوس والخزرج، الذين كان يعادي بعضهم بعضاً، ولا يكادون يجتمعون إلا في الشر والحرب، وكان من المستحيل جمعهم في مجلس واحد؛ فضلاً أن يكون بينهم...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها الناس: فإن من أعظم ما أمر الله -سبحانه وتعالى- به المؤمنين هو التآلف، والتآزر، والمحبة؛ فالألفة بين الناس والتحابّ بينهم يجلب لهم رضا الله ورحمته، عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس"(حسنه الألباني).
قال المناوي في قوله: "المؤمن يألف" قال: "لحسن أخلاقه وسهولة طباعه ولين جانبه، وقوله: "ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف" لضعف إيمانه وعسر أخلاقه وسوء طباعه".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أحبكم إليَّ أحاسنكم أخلاقًا، الموطؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون"(قال الألباني: حسن لغيره)، قال الْغَزالِي: "الألفة ثَمَرَة حُسْن الْخلق والتفرق ثَمَرَة سوء الْخلق فَحُسن الْخلق يُوجب التحبب والتآلف والتوافق وَسُوء الْخلق يُثمر التباغض والتحاسد والتناكر".
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم"(رواه مسلم). خيار الناس في نظر الشرع هم الذين يألفون ويؤلفون، وخاصة حين يكونون في منصب أو مسؤولية، إذ قد ينزلقون إلى صور من الغلظة والجفوة والتعالي بسبب ما هم فيه من الرئاسة.
إن المجتمع المتآلف مجتمع قوي متماسك، بخلاف المجتمع المتنافر الذي فقد المحبة والألفة فإنه مجتمع تنتشر فيه البغضاء، والفرقة، والعداوة، وإذا تلاشت الألفة بين أفراد المجتمع زالت عنهم أسباب القوة والهيبة، وإذا زالت عنهم أسباب القوة كان التفرق والفشل، ولهذا يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 46].
عباد الله: إن من محاسن الإسلام العظام، أنه أمر المسلمين بالأُلفة والمحبة بينهم، وحثهم على التآخي والمودة، وقدّم الأمر بالتآلف والتآخي على كل أمر، وبدأ به قبل كل شيء، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آل عمران: 103].
إن هذه الآية العظيمة تأمر بالاعتصام والتآلف، والمحبة والمودة، وتذكِّر المسلمين بما كانوا عليه من قبل من تنافر وتفرُّق وشتات، وتحثهم على أن يحمدوا الله -سبحانه وتعالى- ويشكروه على هذه النعمة العظيمة، والمنة الكبيرة، نعمة الألفة والمحبة.
كما أن هذه الآية الجليلة تبيّن أن الألفة بين الناس لن تكون إلا عبر دين الله، ولن يؤلف بين قلوب الخلق إلا شرع الله؛ فمهما حاول الناس أن يجتمعوا على أمر دنيوي، أو يتآلفوا على مصالح مشتركة، أو تجمعهم روابط شخصية أو حزبية أو وطنية؛ فإن هذا كله لن يؤلِّف بين قلوبهم، ولن يجمع شتاتهم، ولن يلمّ شعثهم، وإن حصل ذلك فهو مؤقت يزول بزوال السبب.
بل على العكس من ذلك سيزيدهم هذا تفرقاً وتنافراً، وحقداً وحسداً، وكم رأينا من مصالحات ومؤتمرات واجتماعات الهدف منها هو التآلف والاجتماع، لكن حينما يتأمل الإنسان في نتائجها، وينظر في نهايتها، يجد أنها زادت الخلاف عمقاً، ولم تحقق شيئاً مما تسعى إليه من أهداف ونتائج مرجوة!.
والسبب في ذلك كله أن أُلفتهم تَمَّت بغير الدين، واجتماعهم قام على أهواء ومصالح؛ فلذلك يبقى التفرق والاختلاف بينهم؛ لأن الكل يسعى في النهاية لمصلحته، ويبحث عن فائدته، ولا يوجد هناك دين وقيم إسلامية تؤلِّف بينهم، وتقارب بين وجهاتهم، فتبقى آراؤهم مشتتة، ووجهات نظرهم مختلفة.
ومن هنا يذكِّر الله -سبحانه وتعالى- المسلمين بأن هذه النعمة العظيمة نعمة الدين التي هي السبب الأعظم، والباعث الأكبر، في خلق الألفة بينهم، وإيجاد المحبة الحقيقية في قلوبهم، بعد أن كان بعضهم يعادي بعضاً؛ (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)[آل عمران: 103].
لا بد أن نعلم أن أُلفتنا لن تتم إلا بالدين، والمحبة لن تقع بيننا إلا بواسطة الدين، وشتاتنا واختلافاتنا سواءً كانت الاختلافات الطائفية، أو المذهبية، أو العرقية، أو السياسية، كلها لن تنتهي إلا بالألفة والمحبة التي تقوم على أُسس دينية، وثوابت إسلامية؛ كما قال -تعالى-: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال:63].
النبي -صلى الله عليه وسلم- آخى بين المهاجرين والأنصار، والأوس والخزرج، الذين كان يعادي بعضهم بعضاً، ولا يكادون يجتمعون إلا في الشر والحرب، وكان من المستحيل جمعهم في مجلس واحد؛ فضلاً أن يكون بينهم وفاق ومحبة وتآلف، لكن لما دخلوا في الإسلام وآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم حدث أمر عجيب، تآلفت قلوبهم ألفة غير عادية، وأصبحت بينهم محبة صادقة، وتقارب مذهل، لم يكن ليحدث بغير أخوة الدين.
وهكذا كان سلف الأمة، قال يونس الصدفي رحمه الله: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة"، وقال ابن تيمية رحمه الله: "إن السلف كانوا يختلفون في المسائل الفرعية، مع بقاء الأُلفة والعصمة وصلاح ذات البين".
فالأُلفة التي لا تكون لله، سرعان ما تزول، وتتحول إلى عداوات ونفرة، وشر وقطيعة، وكم رأينا من صداقات حميمة تحولت إلى شر وعداوة؛ لأنها قامت على أخوة غير إسلامية!، بل كم رأينا من أزواج انتهوا مع زوجاتهم إلى الطلاق والمشاكل، والسبب في الغالب يكمن في أن اجتماعهم وألفتهم كانت بغير هدي الدين وطرقه الصحيحة، وإرشاداته السليمة!.
يقول الله -تعالى- (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف: 67].
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
أيها المسلمون: لقد ضعفت الألفة والمؤاخاة بيننا ضعفاً كبيراً، وأثَّرت علينا الحياة المدنية تأثيراً واضحاً، وصرنا ينفر بعضنا من بعض، وقلَّت الرحمة في قلوبنا، وحصل التجافي بيننا إلا من رحم الله منا، ولم يعد التآلف الذي كان بين السابقين موجودًا عندنا.
إنها مأساة عظيمة نعيشها، ونفورٌ كبير نلمسه في واقعنا، ابتداءً من داخل بيوتنا، حيث تجد الأخ مع إخوانه وأخواته يتنافرون ولا يتآلفون؛ خلافات قائمة، ومشكلات متجددة، ونزاعات ثائرة، وألفة معدومة أو شبه معدومة.
تجد بعض الأزواج مع زوجاتهم في صراعات ومشاكل على أمورٍ تافهة، وربما تصل القضايا بينهم إلى المحاكم، وما ذاك إلا لأن الألفة انتُزعت وذهبت.
تجد بعضنا لا يعرف جيرانه، ولا يؤدي بعضهم حقوق بعض؛ لا يتزاورون ولا يتواسون، وربما تحصل بينهم مشاكل ونزاعات قد تصل إلى العراك بالأيدي، أو للقضاء.
وربما يمر الواحد منا على إخوانه المسلمين في منطقته؛ فلا يكلّف نفسه حتى مجرد السلام عليهم، وتحدث أحداث وقضايا تهم الجميع، فتجده بعيداً كل البعد عنها، ولا يسأل عن شأنها، متهرب من المشاركة فيها، وما ذلك إلا لغياب الألفة.
أما إذا نظرنا إلى التآلف فيما بيننا نحن العرب والمسلمين؛ فسترى العجب العجاب من التجافي والنفرة، وعدم النصرة، يعادي بعضنا بعضاً، وتجد دولة عربية بينها شر وخلاف مع دولة عربية مجاورة لها، وهي في وفاق مع الدول الغربية المعادية للإسلام والمسلمين.
هذا حالنا والله المستعان، وكان المفترض أن نقتدي بحال الصحابة الكرام، الذين وصفهم الله بالرحمة فيما بينهم؛ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ)[الفتح: 29].
أيها المؤمنون: والإسلام الذي أوصى بالألفة لم يغفل الأسباب والوسائل التي تؤدي إلى الألفة والمحبة بين المسلمين؛ فمنها:
نشر السلام مع الأنام وإفشائه: قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" :-لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ"(رواه مسلم)، وقد نُقِل عن الإمام النووي -رحمه الله- أنه قال: "وَالسَّلَامُ أَوَّل أَسْبَاب التَّأَلُّف، وَمِفْتَاح اِسْتِجْلَاب الْمَوَدَّة، وَفِي إِفْشَائِهِ تَمَكَّنُ أُلْفَة الْمُسْلِمِينَ بَعْضهمْ لِبَعْضِ".
خفض الجناح والتواضع للخلق: وَلِهَذَا قيل: "مَن لانَت كَلمته وَجَبت محبته، وَحسنت أحدوثته وظمئت الْقُلُوب إِلَى لِقَائِه وتنافست فِي مودته"، ورحم الله ابن عثيمين؛ حيث قال: "وظيفة المسلم مع إخوانه، أن يكون هيناً ليناً بالقول وبالفعل؛ لأن هذا مما يوجب المودة والألفة بين الناس".
التعارف بين الناس: ولهذا جاء في صحيح الإمام مسلم -رحمه الله- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف".
اختيار أحسن الكلام عند مخاطبة الأنام: حيث أمر الله -تعالى- بذلك؛ فقال في كتابه العزيز: (وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ)[الاسراء: 53]
الاستغناء عن ما في أيدي الناس؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وازهد فيما عند الناس يحبك الناس"(صححه الألباني).
تبادل التهادي مع الأقارب والأحباب في الله؛ وقد أشار النبي الكريم إلى أن الهدية تزيد المودة والأخوة؛ كما جاء في الصحيح المفرد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تهادوا تحابوا".
فأوصي نفسي وإياكم بالتآلف والتآزر والتلاحم، والبعد عن العداوات، والخلافات، وأن نتجنب أسبابها ما استطعنا.
صلوا وسلموا على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي