ومن أجل هذا المغنم الزاخر كان الرحمة المهداة يحرص حرصًا شديدًا على إحياء ليالي رمضان ولزوم المسجد، ولا سيما في العشر الأواخر، وكان حرصه واجتهاده يفوق التصوير والتعبير، تصف ذلك أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها– فتقول: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله".
أما بعد: أحبابنا في الله: النفوس تحتاج إلى راحة واستجمام من كفاح الحياة ومشاغلها وهمومها وكروبها، والناس تختلف نوازعهم ومشاربهم في وسائل الاستجمام، والكثير من البشر يعتبرون النزهة والسفر خير وسيلة ينفسون بها عن كدهم وكدحهم، ويسترجعون بها قواهم، والراشد الناصح يجد أن خير وسيلة يستجم بها ويعيش في رحابها هادئًا مطمئنًا هو ذكر الله تعالى: (أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]، والسعادة التامة عنده تكون بالإيواء إلى بيوت الله وإحيائها بالصلاة والذكر والاعتكاف، ففي رحاب بيوت الله يستلذ المؤمن بمتع لا نظير لها، ويخلد إلى راحة لا مثيل لها، ويخرج من كربه سالمًا منعمًا بالرضا والتسليم، يفصح عن ذلك المعصوم –صلى الله عليه وسلم- قائلاً: "صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين درجة، ذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة". مسلم: 649.
وفي كنف الصلاة يأوي المرء إلى ركن شديد، يعصمه من الزلل، ويعينه على نوائب الدهر، ويهديه إلى سواء السبيل: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِلصَّبْرِ وَلصَّلَوةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِين) [البقرة:153].
وإذا كان المشي إلى الصلاة وانتظار الصلاة يرفع المرء إلى مقامات عالية ودرجات رفيعة، فإن المكوث في المساجد والاعتكاف فيها أيامًا وليالي يرقى بالعبد إلى درجة الفلاح، يقول –صلى الله عليه وسلم- والحديث في إسناده ضعف: "ومن اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق، كل خندق أبعد ما بين الخافقين". الطبراني في الأوسط: 7322.
والاعتكاف بالمساجد ولزوم الطاعة فيها يسمو بالمرء إلى مصاف الملائكة المقربين الذين لا يفترون من عبادة الله، والمعتكف بذكره لله يكون قريبًا من مولاه، ويحظى بالسعادة والهناء؛ أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله -عز وجل-: أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن اقترب إليّ ذراعًا اقتربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".
ومع هذا القرب من الرب للعبد فإن مولانا سبحانه يفرح من وصال عبده، فيتبشبش له، ويخلع رضاه عليه، أخرج ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش أهل الغائب لغائبهم إذا قدم عليهم".
ولزوم المساجد وحبس النفس على الطاعة في زمن الوصال وفي الأيام المباركة التي نحن نعيش في نسمات أيامها القادمة، تمنح المرء نفحات يعجز عن إدراكها وفضلها؛ يقول –صلى الله عليه وسلم-: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". مسلم: 759.
ومن أجل هذا المغنم الزاخر كان الرحمة المهداة يحرص حرصًا شديدًا على إحياء ليالي رمضان ولزوم المسجد، ولا سيما في العشر الأواخر، وكان حرصه واجتهاده يفوق التصوير والتعبير، تصف ذلك أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها– فتقول: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله". البخاري: 2024.
وقد لا يتسنى للمؤمن ولا يتيسر له هذا الاجتهاد المضاعف، أو قد تتقاعس الهمم عن ذلك، فإن الشارع لم يترك موجبًا وعذرًا في اغتنام الأيام المفردة من العشر الأواخر تداركًا للفضل ولحوقًا بالركب السائر إلى الخير، يقول –صلى الله عليه وسلم-: "ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". البخاري: 2014.
فمَنْ مِنَّا بعد هذا –يا عباد الله– لا يتشوق إلى هذا الجزاء، أو تتقاعس به الهمة عن إدراكه، إلا من كتبت عليه الغفلة واستجاب لهوى النفس.
ولما كان الاعتكاف فضله عظيمًا، وضع الشارع الحكيم من الأحكام ما يحفظ المعتكف من التلف، ووضع له الضوابط التي تحرسه من الزلل؛ أخرج أبو داود بسنده عن عائشة –رضي الله عنها– قالت: "السنة على المعتكف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة، إلا لما لا بد منه".
وإذا كان الشارع يحتاط لهذه العبادة بهذه الضوابط والحصون، فيأمر باجتناب الفضائل المأمور بأدائها في سائر الأيام، فمن الغبن أن يقطع العبد ليلة في بيوت الله ساهرًا على كلام لا يسمن ولا يغني من جوع، كلام لا يرفع درجة ولا يحط خطيئة.
إن المرء إذا كان يخشى على نفسه من تضييع حسناته عند الاعتكاف، فإن الأحرى به أن يلزم المسجد في مكان لا يأتيه أحد يشغله عن مناجاة ربه، والوقوف على بابه بتضرع وتأدب ودعاء والتجاء، فإن العاقل يعلم أن السفر طويل، وأن الزاد قليل، والكيس من اغتنم هذه الفرصة وذاك الاعتكاف، فجنى الخير الكثير، فإن الله تكفل لمن يلزم المسجد لطاعته بالجنة والنعيم، فعن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، قال: "المسجد بيت كل تقي، وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة" الترغيب للمنذري: 494.
فاتقوا الله -عباد الله-، واقصروا أنفسكم على الطاعة في زمن الوصال تفوزوا بالسعادة في الدارين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40-41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه...
أما بعد:
إخوة الإسلام: المرء متطبع بالظهور في المجالس الخاصة والعامة بمظهر لائق أنيق، وبيت الله أولى بهذا المظهر وتلك الأناقة، ولا سيما في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر، فيتنظف ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه؛ لأن المرء يعيش في مجالس تغشاها الملائكة، وخير ما يفعله المرء في هذه الليالي المباركة الإكثار من الذكر وقراءة القرآن والاستغفار والدعاء، وأن يلح في الدعاء، فإن مولانا يحب الملحِّين، وليكثر في دعائه من طلب العفو والعافية، فإنهما خير ما أعطيه المرء.
وهذا حبيب الحق –صلى الله عليه وسلم- يعلِّم أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها– ما تقول إن وافقت ليلة القدر، فقال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني". اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
وأي شيء أعظم من عفو الله عن عباده، إنه الفرج والمخرج من أسر الأوزار، ومن رق الذنب إلى حرية الرحمة والغفران، فاحرصوا -عباد الله- على اغتنام أيامكم هذه، وألحّوا في الدعاء، واصدقوا في الالتجاء، فإن الله كريم حنَّان، يعطي الكثير، ويقبل القليل، والمغبون من حرم هذا الخير الكثير.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي