هذه الصلاة التي أهم شرائع الإسلام، وأمر بها الله خمس صلوات في اليوم والليلة كُتِبَتْ على عباده لحِكَم عظيمة، وأسرار رفيعة، لا يزال فئام من المسلمين يتقاعسون فيها، ويهملونها، ويضيِّعون خشوعها، ويؤدونها في غير أوقاتها..
الحمد لله -تعالى- أكرمنا بدينه، وشرَّفنا بطاعته، وجعلنا خير أمة أُخرجت للناس، أحمده وأشكره ومن كل ذنب أستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: عجيبٌ والله حال بعض الصالحين، الذين أَنِسوا بذكر الله، وتلذذوا بعبادته، وغفلوا عن ألوان تلك الحياة الدينا.
قال بعضهم: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب فيها. قيل: وما أطيب فيها؟ قال: ذكر الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه".
وقال آخر: "ما طابت الدنيا إلا بذِكْره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنة إلا برؤيته".
إن الناس يبحثون في هذه الحياة عن الراحة والارتياح، وعن الحياة الطيبة، ونسوا أن ذلك في دينهم وفي عبادة ربهم، وأن الله قد جعل في شريعته منائر السعادة ولذائذ السرور.
قال –تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[سورة النحل:97].
هذه الصلاة التي أهم شرائع الإسلام، وأمر بها الله خمس صلوات في اليوم والليلة كُتِبَتْ على عباده لحِكَم عظيمة، وأسرار رفيعة، لا يزال فئام من المسلمين يتقاعسون فيها، ويهملونها، ويضيِّعون خشوعها، ويؤدونها في غير أوقاتها. مع أن الله قال: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)[سورة البقرة:43]، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في المسند عن ثوبان: "استقيموا ولن تحضوا، واعلموا أنّ خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الأعمال الصلاة في وقتها".
وقام -صلى الله عليه وسلم- وتعبّد حتى تورمت قدماه، وكان إذا سمع النداء قام كأنه لا يعرف أهله، ويقول: "أرِحنا بها يا بلال". وذكر -صلى الله عليه وسلم- من أصحاب الظلال يوم القيامة: "ورجل قلبه معلّق بالمساجد"، أي: شديد الحب لها، ملازم لجماعتها. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "بشّرِ المشائين في الظُلَم بالنور التام يوم القيامة".
وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمرٌ قام إلى الصلاة، وكان يقول: "وجُعلت قرةُ عيني في الصلاة" سلا بها وتلذذ، وتنعم، واستطعم حتى نسي الطعام والشراب.
لها أحاديثُ من ذكراك تَشغلُها *** عن الشرابِ وتلهيها عن الزادِ
لها بوجهك نورٌ تستضئ به *** ومن حديثِك في أعقابها حادي
إذا اشتكت من كَلال السير أوعدها *** روحُ القدوم فتحيا عند ميعادِ
يا مسلمون: فريضة الصلاة فريضة عظيمة، وشعيرة مباركة، كيف يغفل عنها أناس في هذه الأزمنة؟! لا يبالي أحدهم متى قام وصلى، ومتى أجاب وتحرَّى، لكأنه لم يسمع وعيد الله لمن ضيَّع الصلاة؛ قال -تعالى-: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مريم:59]، وقال -عز وجل-: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)[الماعون:4-5].
أين عقول أولئك، وأين قلوبهم، وقد أنعم الله عليهم بالصحة والعافية وبالزوجة والعيال؟ وقد يكون بعضهم جاراً للمسجد، لكنه ينام ويتكاسل، ويتلاعب ويتشاغل!!
لم تعد الصلاة ذات أهمية كبرى في حياته! فهمّه لدنياه لا لدينه، وينشط لتجارته لا لصلاته.
أيها الإخوة في الله: لقد هانت الصلاة عند كثيرين؛ فطائفة عُرفت بالضياع والترك، وهؤلاء لهم نصيب من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفَر".
وطائفة أهملتها جماعة، وصلت في المنازل كالنساء والمرضى! وطائفة أدَّتها بلا حضور قلب وخشوع، ففاتها الفلاح الذي علَّقه الله بالخاشعين، وقال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون:1، 2]؛ يؤدونها وقلوبهم في الدنيا، لم يستحضروا عظمتها ولا عظمة من يناجون!
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يصلِّي ولصدره أزيز كأزيز المِرجل من البكاء، أي: القدر التي تغلي.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يبكي عند قراءة القرآن، ويتأثر، وجاء عند النسائي أنه قام -صلى الله عليه وسلم- ليلة يردِّد: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[المائدة:118].
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم …
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الفضلاء: صلاتنا مصدر راحتنا وسعادتنا، وهي عمود الإسلام، أعظم الأركان بعد التوحيد، وهي الصلة بين العبد وربه، وقد قال الفاروق عمر -رضي الله عنه-: "لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة".
ولولا فضلها، وعظم شأنها ما فُرِضَتْ في السموات في رحلة المعراج المشهورة، والصلاة هي أول ما يُسْأَل عنه العبدُ يوم القيامة، فعن عبدالله بن قرط -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أول ما يُحاسب عنه العبدُ يومَ القيامةِ الصلاةُ، فإنْ صلحتْ، صلح سائرُ عمله، وإن فسَدَتْ، فَسَدَ سائِرُ عمله".
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "اعلم أنه لا ريب أن الصلاة قرة عُيون المحبين، ولذة أرواح الموحدين، وبستان العابدين، ولذة نفوس الخاشعين، ومحك أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين، هداهم إليها، وعرَّفهم بها، وأهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين؛ رحمةً بهم، وإكرامًا لهم، لينالوا بها شرف كرامته، والفوز بقربه لا لحاجة منه إليهم، بل منَّة منه، وتفضَّلاً عليهم، وتعبَّد بها قلوبهم وجوارحهم جميعًا، وجعل حظّ القلب العارف منها أكمل الحظين وأعظمهما؛ وإقباله على ربِّه -سبحانه-، وفرحه وتلذذه بقربه، وتنعُّمه بحبه، وابتهاجه بالقيام بين يديه، وانصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميله حقوق عبوديته ظاهرًا وباطنًا، حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه -سبحانه-".
ومن عظمتها: أنها تُكَرَّر في اليوم خمس مرات، ورتَّب الشارع الحكيم فضلاً كبيرًا على ذلك، منه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمساً، هل يُبْقي من درنه شيئاً"، وفي رواية عند مسلم: "هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يُبقي من درنه شيئاً قال: كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا".
فتأملوا مثل هذه الفضائل في أجل ركن بعد الشهادتين، وما وضعه الله فيها من أسرار عجيبة، وتأملات بهيجة، ولندرك أن الصلاة رأس مال الإنسان مَن ضيَّعها عاد بالخيبة والإفلاس..
وصلوا وسلموا…….
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي