ثم إنه صلى الله عليه وسلم جعل يسفه عقول المشركين، ويبين بطلان عبادتهم للأصنام، فكلمت قريش أبا طالب أكثر من مرة، ليمنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، وهددوه، فأشار أبو طالب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبقي عليه وعلى نفسه، فظن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن عمه سيخذله، فشق...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليما.
أما بعد:
فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أنزل الله قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)[المدثر: 1 - 5].
قام صلى الله عليه وسلم ممتثلا لأمر ربه، متوكلا عليه، واثقا به، فدعا الناس إلى عبادة الله، وكان بدء الدعوة سرا، فآمن به رجال من قريش، وكان أولهم إسلاما أبا بكر الصديق -رضي الله عنه-، وأسلم على يديه رضي الله عنه خمسة من المبشرين بالجنة، عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وهؤلاء الخمسة مع أبي بكر وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، هم الثمانية الموصوفون بالسبق إلى الإسلام، وأسلم غيرهم.
فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتمع بهم سرا، ويرشدهم إلى ما أرشده الله إليه من الإسلام، في دار الأرقم بن أبي الأرقم، لمدة ثلاث سنين، حتى أنزل الله عليه قوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)[الحجر: 94].
فصعد صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، يا بطون قريش، فاجتمع الناس إليه، حتى كان الرجل إذا لم يستطع أن يأتي أرسل رسولا لينظر الخبر، فلما اجتمعوا، قال لهم صلى الله عليه وسلم: "إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة"(البخاري (4492) مسلم (208) الترمذي (3363) أحمد (1/307)).
فقال له عمه أبو لهب: تبا لك ألهذا جمعتنا؟ وسخر به، وبما قال، فأنزل الله فيه سورة: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)[المسد: 1].
ثم أنزل الله على رسوله: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[الشعراء: 214].
فجمعهـم صلى الله عليه وسلم، وقـال: "والله لو كذبت الناس كلهم ما كذبتكم، والله إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن ولتبعثن ولتحاسبن ولتجزن، وإنها لجنة أبدا، أو لنار أبدا".
فتكلم القوم كلاما لينا، لكن أبا لهب قال: خذوا على يديه، قبل أن تجتمع العرب عليه، فإن سلمتموه ذللتم، وإن منعتموه قتلتم، فمانعه أبو طالب، وقال: لنمنعنه ما بقينا.
ثم انصرف الجمع بدون طائل، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ظل يدعو إلى الله -تعالى- علنا وجهرا، وكان الناس يسخرون به، يقولون: هذا غلام عبد المطلب، يكلم من السماء، هذا ابن أبي كبشة.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم جعل يسفه عقول المشركين، ويبين بطلان عبادتهم للأصنام، فكلمت قريش أبا طالب أكثر من مرة، ليمنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، وهددوه، فأشار أبو طالب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبقي عليه وعلى نفسه، فظن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن عمه سيخذله، فشق ذلك عليه، وقال: "يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، ما تركت هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه" ثم بكى وانصرف، فناداه عمه، وقال: يا ابن أخي، قل: ما أحببت، فو الله لا أسلمك إليهم أبدا.
فاستمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة، وازداد أذى قومه له بالقول والفعل، فكان أبو جهل إذا رآه يصلي نهاه، وأغلظ عليه القول، وقال: ألم أنهك؟.
وكان يوما يصلي وحوله ملأ من قريش، فقال بعضهم لبعض: أيكم يعمد إلى جزور آل فلان فيأتي بدمها وسلاها فيضعه بين كتفيه إذا سجد؟
فانبعث أشقى القوم به، فلما سجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وضعه بين كتفيه، فثبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساجدا، والقوم يضحكون، ويسخرون، حتى جاءت ابنته فاطمة، وهي جويرية صغيرة، فألقته عنه، وكانوا يرمون القذر على بابه، فيخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيطرحه، ويقول: أي جوار هذا؟.
واشتد أذى قريش لمن آمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكانوا يعذبونهم بالطعن والضرب والنار، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوي أصحابه، ويشجعهم على الصبر، قال لعمار بن ياسر وأهله وهم يعذبون: "صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة".
ولما رأى اشتداد الأمر بأصحابه أذن لهم بالهجرة، وقال: "تفرقوا في الأرض، فإن الله سيجمعكم".
وأشار إلى الحبشة، فهاجر إليها في السنة الخامسة من البعثة، عشرة رجال، وخمس نساء، ثم رجعوا بعد ثلاثة أشهر، ولكن المشركين ما زال أذاهم يستمر، وشرهم يستفحل، فأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه بالهجرة مرة ثانية، إلى الحبشة، في السنة السابعة من البعثة، فهاجر إليها فوق الثمانين من الرجال، ودون العشرين من النساء، فأكرمهم النجاشي، وجعل لهم الحرية في دينهم.
أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبقي في مكة يلاقي الشدائد والبلايا من أذية كفار قريش له، وهو صابر محتسب، منفذ لأمر الله، وقد مات عمه أبو طالب، وزوجته خديجة، في السنة العاشرة من البعثة، فاشتد الأمر عليه، ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، يدعو قبائل ثقيف إلى الإسلام، فلم يجد منهم إلا السخرية والأذى، ورموه بالحجارة، حتى أدموا عقبيه، فرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة، ودخلها في جوار المطعم بن عدي، وصار يعرض نفسه على القبائل في المواسم، كل عام يتتبع الناس في منازلهم، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
فبينما هو عند العقبة، لقي رهطا من الخزرج، أراد الله بهم خيرا، فعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فلما رجعوا إلى قومهم بالمدينة أخبروهم، ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا فيهم، فلما كان العام المقبل قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اثنا عشر رجلا منهم، فبايعوه، وبعث معهم مصعب بن عمير، يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، فكثر الإسلام في المدينة، فلما كان العام المقبل قدم من الأنصار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحو سبعين رجلا، وامرأتان، فبايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، إذا هاجر إليهم، فكان في ذلك فاتحة خير للإسلام والمسلمين، وفخر عظيم للأنصار -رضي الله عنهم-.
عباد الله: إن فيما جرى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تبليغ دعوة الإسلام من الأذى والتعب والمشقة، لعبرة لأولي الأبصار.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- واعتبروا واصبروا على ما يصيبكم في الدعوة إلى دين الله، وانتظروا فإن العاقبة للمتقين، وإن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي