رمضان شهر ميلاد الأمة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. رمضان شهر انتصار السماء للأرض .
  2. رمضان في ذاكرة الانتصارات .
  3. رمضان المحطة الفارقة .
  4. رمضان واستعادة الكرامة .
  5. رمضان والانطلاق إلى العالمية .
  6. رمضان وتحطيم الأساطير .
  7. رمضان وصدق المعدن .
  8. رمضان والانتصار على النفس .

اقتباس

فإلى القلب الذي يقوم خاشعًا بين يدي ملك السموات والأرض، وينفطر كمدًا على نكبات المسلمين، وإلى العين التي تسيل دمعًا من خشية الله، ودمًا على أحوال المسلمين ومآسيهم، وإلى الجوارح التي تصوم ابتغاء رضوان الله، وتشتاق أن تجاهد أعداء الإسلام، إلى هؤلاء جميعًا نهدي لهم هذه المشاهد والمواقف الكبرى في معاني الانتصار.

 

 

 

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. 

أما بعد: أحبتي في الله أتباع محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-: كم لله -عز وجل- علينا من نعم ظاهرة وباطنة أسبغها علينا، وكم لله -عز وجل- من خير وفضل أفاض به علينا، واختص به أمة الإسلام دون غيرها من الأمم، ولم يعلم الناس ما عند الله -عز وجل- في شهر رمضان من الرحمات والبركات والخيرات ما فرط المفرطون وقصر المقصرون وغفل عن ذكره الغافلون، فالله -عز وجل- قد أودع شهر رمضان الكثير من الأسرار والكنوز، التي جعلت هذا الشهر المبارك شامة العام وتاج الشهور ودرة الزمان، فكما أن شهر رمضان هو شهر الصيام والقيام وقراءة القرآن والصدقة والإطعام والعبادات الكثيرة، فإن شهر رمضان أيضًا هو شهر الانتصارات، شهر العزة والكرامة.

فربنا -عز وجل- جعل شهر رمضان شهر ميلاد الأمة الإسلامية، حين أضاء وحيُ السماء ظلمات الأرض، وبدد نور الهداية ظلمات الشرك والجاهلية والخرافة، فكان رمضان عهدًا جديدًا استقبلت به البشرية خير رسل الله وآخر رسالات السماء، فكان رمضان نقطة تحول في مسيرة البشرية بنزول القرآن؛ كان انتصارًا للنور على الظلام، والحق على الباطل، والتوحيد على الشرك، والطهارة والنقاء على الفحش والعهر.

أيها المسلمون: ومن فضائل هذا الشهر العظيم أن الله -عز وجل- قد جعله شهر النصر والحسم في مواقف كثيرة؛ فإن هذا الشهر قد وقعت فيه العديد من الأحداث العظام والمواقف الجسام التي مثلت تحولاً كبيرًا في حياة الأمة، فمعاني الانتصارات وأبجديات العزة وأصول الكرامة قد تجسدت في شهر رمضان الكريم.

فإلى القلب الذي يفكر خاشعًا بين يدي ملك السموات والأرض، وينفطر كمدًا على نكبات المسلمين، وإلى العين التي تسيل دمعًا من خشية الله، ودمًا على أحوال المسلمين ومآسيهم، وإلى الجوارح التي تصوم ابتغاء رضوان الله، وتشتاق أن تجاهد أعداء الإسلام؛ إلى هؤلاء جميعًا نهدي لهم هذه المشاهد والمواقف الكبرى في معاني الانتصار.

في شهر رمضان حقق المسلمون عدة انتصارات كانت بمثابة المحطة الفارقة والنقطة الفاصلة في حياة الأمة الإسلامية، وأولى هذه الانتصارات كانت يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، يوم بدر، في العام الثاني من الهجرة، عندما التقت الفئة المؤمنة، جند الرحمن، بقيادة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، مع جند الشيطان، الفئة الكافرة، بقيادة فرعون الأمة أبي جهل، وقد تراءت الفئتان من أول صدام بين الحق والباطل والإيمان والكفران، ويتنزل نصر الله -عز وجل- على المؤمنين، ليكون أعظم انتصارات الإسلام.

ومن روعة الانتصار –أيها المسلمون- وعظمة المشهد أنزل الله -عز وجل- في الواقعة قرآنًا يتلى إلى يوم الدين في سورة الأنفال، التي نزلت معظم آياتها في شأن غزوة بدر، وقد سماها المولى -عز وجل- يوم الفرقان؛ لأنها كانت فرقانًا بين عهد الاستضعاف والقلى وتسلط الأعداء، إلى عهد القوة والانتشار والنصر على الأعداء، واستحق أهل بدر صك المغفرة والعتق من النيران الذي أصدره رب البرية على لسان رسول البشرية: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم...".

وفي رمضان من العام الثامن من الهجرة كانت محطة فارقة ونقطة فاصلة في حياة الأمة، عندما فتحت جيوش الصحابة بقيادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكة، وأعلنوا سقوط عاصمة الشرك والاستكبار الجاهلي، التي طالما استغل المشركون منزلتها وفضلها في التحريض ضد الإسلام والمسلمين، وأعلنوا تحرير بلد الله الحرام من أدران الشرك والأوثان، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة الأمة اتحدت فيها بلاد الحرمين، الأصل والمهجر، وأعلن عن قيام الدولة الإسلامية على حدود جديدة.

أيها المسلمون عباد الله: عندما قاد المعتصم العباسي جيشًا جرارًا أوله من منابت الزيتون وآخره على أبواب عمورية، وذلك في رمضان سنة 223هـ، بعد أن تجبر طاغية الروم توفيل بن ميخائيل، واستغل انشغال المسلمون بقتال بابك الخرمي في فارس، وهجم بمائة ألف صليبي على حدود الدولة الإسلامية، وأوقع بأهل زبطرة في الأناضول مذبحة مروعة، فقتل الكبير والصغير، فجدع الأنوف وسمل العيون، واستاق الحرائر، حتى إن امرأة هاشمية صاحت بعد أن لطمها كلب رومي فقالت: "وامعتصماه"، وطارت الأخبار للخليفة المعتصم وهو في إيوان قصره، فلما طرقت الصرخة الحزينة مسامع الأسد الهصور "المعتصم العباسي" أسرع مهرولاً في قصره وهو يقول مثل الإعصار: "النفير النفير".

وقد خرج بكل ما لديه من جيوش، وأقسم ليهدمن أعز مدينة عند الرومان، وقد كتب وصيته ولبس كفنه وتحنط، وقسَّم ماله: ثلثًا لأهله، وثلثًا للمجاهدين، وثلثًا لمنافع المسلمين، ولم يهدأ له بال ولم يستقر له حال حتى أناخ بساحة عمورية بأكثر من مائة ألف مجاهد من ثلاث جهات، ودخل عمورية -وهي أشرف مدن النصارى، وهي العاصمة الدينية لهم- في السادس من رمضان سنة 223هـ، فهدمها بالكلية، وتركها قاعًا صفصفًا، وأدّب أعداء الأمة تأديبًا هائلاً، ارتدعوا به فترة طويلة، واستعادت الأمة كرامتها.

وكان رمضان منطلَقًا بالأمة إلى العالمية؛ حيث وثب فيه المسلمون وثبتهم الكبرى إلى قلب أوروبا، وقد خرجوا من حدود الجزيرة العربية إلى العالمية، حيث حملوا رايات التوحيد إلى قلب العالم النصراني والوثني، وذلك مبكرًا جدًّا عندما فتح المسلمون جزيرة رودوس سنة 53هـ، ثم وثب المسلمون أكبر وثباتهم وفتحوا الأندلس في معركة وادي لكة الشهيرة سنة 92 هـ، وأصبح غرب القارة الأوروبية مسلمًا يتردد الأذان في جنباته، ثم فتح المسلمون جزيرة صقلية سنة 212هـ، عندما قاد القائد الفقيه المحدث أسد بن الفرات جيوش المسلمين لمعركة سهل بلاطة في التاسع من رمضان سنة 212هـ؛ ليفتح أكبر جزر البحر المتوسط، ويصبح المسلمون على بعد خمسة أميال فقط من إيطاليا؛ حيث مقر النصرانية العالمية.

ثم واصل المسلمون انطلاقهم إلى العالمية لنشر التوحيد بين ربوع المعمورة، وفتح العثمانيون -بقيادة سليمان القانوني- بلجراد عاصمة الصرب في رمضان سنة 927هـ، وأصبحت بلجراد مدينة إسلامية، وانتشرت فيها المساجد، حتى بلغ تعدادها 250 مسجدًا قام الصرب بإحراقها جميعًا بعد سقوط الدولة العثمانية.

وفي رمضان 1094هـ وقف العثمانيون بمائتي ألف مقاتل على أبواب ?ينا -أشهر المدن الأوروبية وعاصمة الدولة الرومانية المقدسة- حتى كادوا أن يفتحوها.

أيها المسلمون: عندما انتصر المسلمون بقيادة سيف الدين قطز على جحافل التتار في الخامس والعشرين من رمضان سنة 658هـ وقضوا على أسطورة التتار الجيش الذي لا يهزم، وكانت تلك الأسطورة قد روعت الناس في كل مكان، حيث بلغ من شدة خوفهم ورعبهم من التتار أن الجندي التتري الواحد يدخل السرداب وفيه مائة رجل فيقتلهم جميعًا وحده بعد أن قتلهم الخوف والفزع من لقاء التتار.

كما حطم المسلمون في حرب أكتوبر سنة 1973م، العاشر من رمضان سنة 1393هـ أسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يقهر، وحطموا سور بارليف الذي قال عنه الصهاينة: إنه أحصن وأقوى أسوار العالم، وعرف الصهاينة مرارة الهزيمة، وأخذت شمطاء يهود جولدا مائير تصيح وتولول وتستغيث بالأمريكان: أدركونا فإسرائيل تنهار.

كما حطم المسلمون الأفغان أسطورة الجيش الروسي الذي كان يوصف بأنه أقوى جيوش العالم، وأجبره على الانسحاب وهو يجر أذيال الخيبة والهزيمة الثقيلة في رمضان سنة 1408هـ.

عباد الله: عندما ضرب المسلمون أروع الأمثلة في بيان صدق معدنهم وحقيقة إيمانهم عندما صمدوا وحققوا انتصارات رائعة هي بالمقاييس المادية شبه مستحيلة، يرفضها العقل، وتردها الحسابات الأرضية، فقد كشفوا عن صدق معدنهم في الثاني عشر من رمضان سنة 13هـ، عندما استطاع ثمانية آلاف مسلم بقيادة البطل المثنى بن حارثة أن ينتصروا على مائة وخمسين ألفًا من الفرس المتكبرين المغرورين في معركة البويب في غرب العراق.

وقد كشفوا عن صدق معدنهم في الثالث والعشرين من رمضان سنة 528هـ في معركة "إفراغة" في الأندلس، عندما انتصر أهل مدينة إفراغة في جنوب شرق الأندلس على جحافل الصليبين بقيادة ألفونسو المحارب، الذي جمع الرهبان والقساوسة وأقسم على الإنجيل أن لا يغادر أسوار إفراغة حتى يفتحها ويذبح أهلها جميعًا، ولكن قسمه صادف إرادة حديدية، وعزيمة فولاذية، وإيمانًا راسخًا، تطيش معه الجبال، وانتصر أهل إفراغة، وقتل ألفونسو المحارب تحت أسوار إفراغة.

وقد كشفوا عن صدق معدنهم أيضًا في معركة يلختير في رمضان سنة 1294هـ، عندما انتصر العثمانيون بقيادة أحمد مختار باشا -وكانوا أقل من خمسين ألف مقاتل-، انتصروا على الروس القياصرة -وكانوا أكثر من سبعمائة ألف مقاتل-، في واحدة من أساطير المعارك الدولية بين الروس والعثمانيين في أواخر القرن التاسع عشر ميلادي.

فالله نسأل في عليائه أن يعيد علينا أمثال هذه الانتصارات والكرامات العظمي، وأن يقر أعيننا برؤية نصر الأمة على أعدائها ومن خالفها. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، وصلاة وسلامًا على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله وعلى من والاه، صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى قيام الساعة.

أما بعد: هكذا رأينا -عباد الله- كيف كان شهر رمضان هو شهر الانتصارات الرائعة لأمة الإسلام، وهي الانتصارات التي ضربت أروع الأمثلة على صدق معدن المسلمين، وكيف أنهم قد انطلقوا خلال هذا الشهر المبارك إلى العالمية، ووثبوا بإسلامهم إلى قلب القارة الأوروبية، وحطموا كل الأساطير القديمة والحديثة عن أعداء الأمة، وحطموا معها الأوهام وكسروا حاجز الخوف.

ويبقى -عباد الله- أن نعرف أن كل واحد منا يستطيع أن يجعل لنفسه من شهر رمضان شهرًا للانتصارات، نعم، إذا كان جهاد أعداء الأمة قد حقق للمسلمين انتصارات رائعة في رمضان، فإن جهاد النفس وترويض الشهوات يحقق لكل واحد منا انتصارات رائعة في رمضان، لا تقل روعة عن انتصارات السلف؛ ذلك أن السلف لم يحققوا الانتصارات الرائعة في ميادين القتال وساحات الوغى، إلا بعد أن حققوا الانتصار أولاً على أنفسهم وهواهم وشهواتهم، كما قال الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].

فلنجعل هذا الشهر شهر انتصار على الأحقاد والحسد والكراهية وفساد ذات البين، لنجعله شهر انتصار على قطيعة الأرحام والعجز والكسل والغفلة، لنجعله شهر انتصار على الشيطان ووساوسه وكيده، لنجعله شهر انتصار على الذنوب والمعاصي وتسويف التوبة، شهرًا للانتصار على خذلان المستضعفين وترك المظلومين.

عندها نصل إلى ما وصل إليه الأولون، ونحقق مثل انتصاراتهم وأمجادهم.
 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي