حقيقة الدنيا كما وصفها الله

خالد بن عبدالله الشايع
عناصر الخطبة
  1. بعض صفات الدنيا في القرآن .
  2. حال النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الدنيا وزهده فيها .
  3. بعض أوصاف الدنيا في الأحاديث النبوية .
  4. التعامل المطلوب مع الدنيا بالنسبة للأغنياء والفقراء .

اقتباس

حصر الله الدنيا في هذه الأشياء الخمسة: لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر، وتكاثر، ثم مثلها بمثل الغيث إذا نزل على الأرض الميتة، ثم أنبتت ثم اصفر نباتها، ثم تحطم وصار هشيما تذروه الرياح، وختم القول ببيان من هذه حاله بأنه متاع الغرور..

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا أيها الناس: اتقوا الله -جل وعلا- وراقبوه، وشكروا نعمه التي تترا عليكم كل حين ووقت، واحذروا من المعاصي فإنها تذر الديار بلاقع، وتجهزوا من هذه الدار للحياة الحقيقية الدار الآخرة التي هي نعيم أبدي أو عذاب سرمدي.

أيها المؤمنون: لا ينقضي عجب المرء من فتنة الدنيا لأهلها مع علمهم بخداعها لهم، ومع جزمهم بنهايتها العاجلة، وأنها مجرد شهوة يعقبها حسرة، ولقد وصف الله الدنيا بأبلغ عبارة لم تبق للمرء شك في حقارة الدنيا، وأنها غرور وسراب زائل، قال الله -تعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد: 20].

فهل بعد هذا الوصف يحتاج المسلم للتحذير من الدنيا؟ فقد حصر الله الدنيا في هذه الأشياء الخمسة: لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر، وتكاثر، ثم مثلها بمثل الغيث إذا نزل على الأرض الميتة ثم أنبتت ثم اصفر نباتها ثم تحطم وصار هشيما تذروه الرياح، وختم القول ببيان من هذه حاله بأنه متاع الغرور، يعني زاد المغرورين المنخدعين.

قال القرطبي في تفسيره: "لعب كلعب الصبيان ولهو كلهو الفتيان وزينة كزينة النسوان وتفاخر كتفاخر الأقران وتكاثر كتكاثر الدهقان. وقيل: المعنى أن الدنيا كهذه الأشياء في الزوال والفناء. وعن علي -رضي الله عنه- قال لعمار: "لا تحزن على الدنيا، فإن الدنيا ستة أشياء؛ مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال".

عباد الله: إن الناظر في حالنا في هذه الدنيا، يجد الاغترار بالدنيا ظاهرا على الجميع إلا من رحم الله، وإن الواجب على المسلم أن يتأمل حياته، وتقلبه فيها، وما هو مصيره غدا؟

ولقد حذر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من الدنيا والاغترار بها بقوله وفعله، أخرج الترمذي في سننه من حديث عبد الله قال: نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء؟ فقال: "ما لي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".

سبحان الله! ما أعظمه من وصف يبين حقارة الدنيا وتسارعها، وأنه لا ينخدع بها إلا مغرور، الدنيا كلها كاستراحة تحت شجرة وقت القيلولة، وكأن الدنيا مثل الحلم حيث شبهها بالنوم.

ولهذا كان عيش النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا عيش المساكين، لم يركن لها، ولو شاء لصار ملكا من ملوكها، ولكنه رفض ذلك، وعاش عيش الزهاد في الدنيا بل هو إمامهم -صلوات ربي وسلامه عليه-، كان زهده صلى الله عليه وسلم زهد من علم فناء الدنيا وسرعة زوالها، وبقاء الآخرة وما أعدّه الله لأوليائه فيها من نعيم مقيم وأجر عظيم، فرفض صلى الله عليه وسلم الأخذ من الدنيا إلا بقدر ما يسدّ الرمق، فآثر حياة الزهد،  وخيَّره ربه بين أن يكون ملِكا رسولا أو عبدا رسولا، فاختار أن يكون عبدا رسولا، يشبع يوما ويجوع يوما، حتى لقي الله -عز وجل-، زهدا في الدنيا وترفعا على متاعها، أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة ـرضي الله عنهـ قال: "جلس جبريل إلى النبي ـصلى الله عليه وسلم- فنظر إلى السماء، فإذا ملَك ينزل، فقال له جبريل: هذا الملك ما نزل منذ خُلِق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك، أملِكا أجعلك أمْ عبدا رسولا؟ قال له جبريل: تواضع لربك يا محمد"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بل عبدا رسولا".

وإذا تأملنا بيت وحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- رأينا عجبا، فبيته من طين، متقارب الأطراف، داني السقف، ينام فيه على الحصير حتى أثّر في جنبه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، وربما عرف أصحابه أثر الجوع في وجهه، وهو رسول الله وصفوته من خلقه، أخرج البخاري في صحيحه من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما شبع آل محمد ـصلى الله عليه وسلمـ من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

وأخرج الشيخان في صحيحهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إنما كان فراش رسول الله ـصلى الله عليه وسلم- الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف"، وأخرجت رضي الله عنها كساءً ملبداً وإزاراً غليظاً، فقالت: "قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذين".

معاشر المسلمين: هذه حال من عرف الدنيا فلم يغتر بها، وهكذا كانت حياة أصحابه من بعده -رضوان الله عليهم-.

اللهم لا تفتنا وأحسن خاتمتنا يا رب العالمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر...

الخطبة الثانية:

أما بعد: فيا أيها الناس: أخرج مسلم في صحيحه قول عمر -رضي الله عنه-: "دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع على حصير فجلست، فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ومثلها قرظا في ناحية الغرفة، وإذا أفيق معلق، قال: فابتدرت عيناي، قال صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا ابن الخطاب؟!" قلت: يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصفوته وهذه خزانتك؟! فقال: "يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا" قلت: بلى".

وأخرج مسلم في صحيحه من حديث عمر قال: "لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يظل اليوم يلتوي ما يجد دَقَلا يملأ به بطنه".

وأخرج الترمذي في سننه من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير".

وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لابن أختها عروة حال بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم- فتقول: "والله يا ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نار، قال: قلت يا خالة فما كان يُعيشكم؟! قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيران من الأنصار وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ألبانها فيسقيناه".

وتدخل امرأة وابنتاها بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يشكون الجوع فماذا وجدوا في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-؟، أخرج البخاري في صحيحه من حديث عائشة -رضي الله عنها: "دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئا غير تمرة، فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- علينا فأخبرته، فقال: "من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار".

وفي صحيح البخاري: "أنه يطرق ضيف باب بيته صلى الله عليه وسلم فلا يجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يضيفه به، فيرسل إلى بيوته يسأل نساءه، فلا يجد عندهن سوى الماء، فلم يجد صلى الله عليه وسلم بدَّا من الطلب من أصحابه أن يضيِّفوه".

ومع ذلك كله؛ فقد كان يدعو الله قائلا: "اللهم ارزق آل محمد قوتا".

قال ابن حجر في "فتح الباري": "شرحه ابن بطال فقال: فيه دليل على فضل الكفاف وأخذ البلغة من الدنيا، والزهد فيما فوق ذلك رغبة في توفر نعيم الآخرة، وإيثارا لما يبقى على ما يفنى. فينبغي أن تقتدي به أمته في ذلك. وقال القرطبي: معنى الحديث أنه طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعا".

أيها المؤمنون: قد يقول قائل: أين حالنا مما ذكرت وهل تريد منا أن نسكن الطين ونزهد في الدنيا؟

والجواب: كلا، ولكن مالا يدرك كله لا يترك جله، فليكن ما سمعنا من حال نبينا –صلى الله عليه وسلم- داعيا لنا لاستخدام الدنيا فيما يرضي الرب من طاعته وبذلها في وجوهها المشروعة، هذا لمن فتح الله عليه أبواب الرزق.

وأما من قدر عليه رزقه فلا يلهث في الدنيا طلبا لحطامها وليحمد الله على ما قدر فلعله لو رزق لطغى، وليستغن بالتوكل على الله، ولا يسلك طرق الحرام لنيل الدنيا، فرزق الله لا يجلبه حرص حريص، ولا يطلب بمعصية الله.

اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي