إِذَا خَلَوا بِمَحَارِمِ اللهِ اِنْتَهَكُوهَا, هَذَا هُوَ الفَيْرُوسُ الذِي قَضَى عَلَى كُلِّ تِلْكَ الحَسَنَاتِ العَظِيمَة, إنَّهُم قَومٌ صَالِحُونَ, حَسَنَاتُهُم كَثِيرَةٌ, لَيسَتْ كَجَبَلٍ أَوِ اثْنَانِ, وَإِنَّمَا كَسِلْسِلَةِ جِبَالِ تِهَامَة, بَلْ هُمْ مِنْ قُوَّامِ اللَيلِ, الذِيْنَ يُحْيُونَ لَيْلَهُمْ تَالِيْنَ لِآيَاتِ الكِتَابِ الحَكِيْمِ, يَصُفُّونَ أَقْدَامَهُم لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ, لَكِنَّهُم يَنْتَهِكُونَ مَحَارِمَ اللهِ إِذَا غَابَتْ عَنْهُمْ أَعْيُنُ البَشَرِ...
الحَمْدُ للهِ المُطَّلِعِ عَلَى الغَيْبِ والشَهَادةِ, أَمَرَ عِبَادَهُ بِالتَقْوَى والعِبَادَةِ, وَوَعَدَهُمْ أُجُورًا عَظِيمَةً وَسَعَادَةً, (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يونس: 26], وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ المُتَصِفُ بِالعِلْمِ والرَّحْمَةِ والإِرَادَةِ.
الحَمدُ لِلَّهِ عَلى تَقديرِهِ *** وَحُسنِ ما صَرَّفَ مِن أُمورِهِ
الحَمدُ لِلَّهِ بِحُسنِ صُنعِهِ *** شُكراً عَلى إِعطائِهِ وَمنْعِهِ
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِهِ فَأَقْبَلَتْ قُلُوبُ المُؤْمِنِيْنَ لَهُ مُنْقَادَةً, وَبَيَّنَ مَعَالِمَ الدِّينِ وكَانَ حُسْنُ الخُلُقِ عِمَادَهُ.
يَا أَحْمَدًا يَا حَاشِرًا يَا عَاقِبًا *** أَفْدِيْكَ رُوحِيْ مُهْجَتِي وَإِزَارِي
صَلَّى عَلَيكَ اللهُ خَيْرَ صَلَاتِهِ *** مَا نَاحَ قُمْرِيٌّ عَلَى الأَشْجَارِ
صُبْحًا مَسَاءً غُدْوَةً وَعَشِيَةً *** عَدَدَ الرِّمالِ وَقْطْرَةَ الأَبْحَارِ
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: تَخَيَّلُوُا مَعِيَ هَذَا المَوْقِفَ, رَجُلٌ قَضَى عَامَهُ كُلَّهُ فِي الكَدِّ وَالتَعَبِ, يَخْرُجُ مِنَ الصَّبَاحِ البَاكِرِ مَعَ أَسْرَابِ الطَّيْرِ يَطْلُبُ مَعَهُمُ الرِّزْقَ, وَوَفَقَهُ اللهُ لِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الرِّزْقِ يُدِرُّ عَلَيهِ دَخْلَاً طَيِّبًاً, يَجْمَعُ القِرشَ عَلَى القِرْشِ, وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ الرَّاحَةَ فِي سَبِيْلِ مَايَرْجُو مِنَ الرَّاحَةِ فِي النِّهايَةِ.
وَفِي نِهَايَةِ العَامِ وَعِنْدَمَا أَتَى لِحِسَابِ المِيْزَانِيَةِ السَنَوِيَةِ فَرِحَ واسْتَبْشَرَ لَمَّا وَجَدَ إِيْرَادَاتَهُ والأَمْوَالَ التِي تَعِبَ فِي تَحْصِيلِهَا وافِرةً كَثِيْرَةً, تَلِيقُ بِحَجْمِ النَصَبِ والتَعَبِ الذِي أفنَى أيَامَهُ وَلَيَالِيهِ فِي رَجَائِهِ, لَكِنَّهُ تَفَاجَأَ فِي المُقَابِلِ أَنَّ عَلَيهِ دُيُونًا لَم يَكُنْ يَحْسِبُ لَهَا حِسَابًا, دُيُونٌ قَلِيلةٌ فِي أَفْرَادِهَا, لَكِنَّهَا فِيْ مَجْمُوعِهَا اِسْتَغْرَقَتْ كَامِلَ رَأْسِ المَالِ والأَرْبَاحِ, فأَصْبَحَ مَدِيْنًا مُفْلِسًا حَزِيْنًا, وَلَمْ يَكُنْ يَحْسِبُ لَهَا حِسَابًا.
تَخَيَّلْ مَعِي هَذَا المَوْقِفَ, وتَصَوَّرْ مَدَى الحُزْنِ وَالأسَى والنَّدَمِ الذِي حَلَّ بِهَذَا التَاجِرِ الذِي أمْسَى في عِدادِ المُطَالَبِينَ بالسِجْنِ بَعْدَ هَذِهِ المُحَاسَبَةِ, هَذَا المَوقِفُ مُؤْلِمٌ أَشَدَّ الألَمِ وَهُوَ فِي حِسَابَاتِنَا الدُنْيَوِيَةِ!.
هَل تَتَصَوَرُ أنَّ فِي الآَخِرَةِ كَثِيرٌ أَمْثالَ هَذَا التَاجِرَ؟ يَأتُونَ بِحسَناتٍ كَالجِبالِ, أَفْنَوا عُمُرَهُمْ فِي تَحْصِيلِهَا, فَيَجْعَلُهَا اللهُ هَباءً مَنْثُورًا بِسَبَبِ ذُنُوبٍ لَمْ يَحسِبُوا لَهَا حِسَابًا.
مَنِ اِنْكَسَرَ مِنَ التُّجَارِ فِي الدُّنيَا فَأَمَامَهُ فُرَصٌ كَثِيْرَةٌ لِلنُهُوضِ, أَمَّا كَسْرُ الآخِرَةِ فَإنَّهُ لَايُجْبَر, فَهِيَ آخِرَةٌ لَفظًا وَمَعنًى, (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)[فاطر: 37].
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: حَدِيْثٌ مُخِيْفٌ مِنْ أَحَادِيثِ البَشِيرِ النَّذِيرِ الذِيْ لَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-, هَذَا الحَدِيثُ يُصَوِّرُ حَالَ أَمثَالَ هَذَا التَّاجِرَ لَكِنْ فِي الحَسَناتِ والسَّيِئاتِ, أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟" قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: "إِنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَناتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".
يَا الله!! يَأتِي بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ, فَهُوَ مُحَافِظٌ عَلَى صَلَواتِهِ, مُواظِبٌ عَلَى صِيامِهِ, ومُؤَدٍ لِزَكَاتِهِ, لَكِنَّهُ يُطْرَحُ فِي النَّارِ؟!.
لَقَدْ تَسَاهَلَ فِيْ حُقُوقِ النَّاسِ؛ فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ, وَتَنَاوَل أَعْرَاضَهُمْ, يَغْتَابُ هَذَا, وَيَتَنَدَرُ بِذَاكَ, وَيَتَعَدَّى عَلَى الضُعَفَاءِ بِالضَرْبِ, يَظُنُّ أَنَّ الضَعِيفَ لَنْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ, وَنَسِيَ قَولَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ)[البلد: 5], فَيأتِي كُلُّ هَؤُلَاءِ خُصُومًا لَهُ يَومَ القِيَامَةِ وَيُجَرِدُونَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ, حَتَّى يُطْرَحَ فِي النَّارِ, وَهُوَ المُصَلِّي الصَّائِم.
حَدِيثٌ آخَرُ مُخِيفٌ, يَصِفُ حَالاً تَتَبَخَرُ فِيهِ الحَسَنَاتُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ الإِنْسَانُ, رَوَى ابْنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ مَولَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَومَ القِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بَيْضَاءَ، فَيَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُورًا" قَالَ ثَوبَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: يَا رَسُولَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ لَا نَكُونُ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ, قَالَ: "أَمَا إِنَّهُم إِخْوَانُكُم، وَمِنْ جِلْدَتِكُم، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُم قَومٌ إِذَا خَلَوا بِمَحَارِمِ اللهِ اِنْتَهَكُوهَا"؛ إِذَا خَلَوا بِمَحَارِمِ اللهِ اِنْتَهَكُوهَا, هَذَا هُوَ الفَيْرُوسُ الذِي قَضَى عَلَى كُلِّ تِلْكَ الحَسَنَاتِ العَظِيمَة.
إنَّهُم قَومٌ صَالِحُونَ, حَسَنَاتُهُم كَثِيرَةٌ, لَيسَتْ كَجَبَلٍ أَوِ اثْنَانِ, وَإِنَّمَا كَسِلْسِلَةِ جِبَالِ تِهَامَة, بَلْ هُمْ مِنْ قُوَّامِ اللَيلِ, الذِيْنَ يُحْيُونَ لَيْلَهُمْ تَالِيْنَ لِآيَاتِ الكِتَابِ الحَكِيْمِ, يَصُفُّونَ أَقْدَامَهُم لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ, لَكِنَّهُم يَنْتَهِكُونَ مَحَارِمَ اللهِ إِذَا غَابَتْ عَنْهُمْ أَعْيُنُ البَشَرِ, قَال َابنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "وَمَا أَسَرَّ عَبْدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهَا عَلَانِيَةً، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ, وَإِنْ شَرًا فَشَرٌّ".
سَمِعَ الإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- أَبْيَاتًا وَهُوَ فِي مَجْلِسِ العِلْمِ, فَأَثَّرَتْ فِيهِ وَدَخَل دَارَهُ وأغْلَقَ بَابَهُ عَلَيهِ وَهُوَ يُرَدِدُهَا:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ ***خَلَوتُ وَلَكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيْبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّهَ يَغْفَلُ سَاعَةً *** وَلَا أَنَّ مَا تُخْفِيهِ عَنْهُ يَغِيْبُ
قَالَ ابنُ الـمُبَارَكِ لِرَجُلٍ: "رَاقِبِ اللهَ -تَعَالَى-", فَسَأَلَهُ الرَّجُلُ عَنْ تَفْسِيرِهَا فَقَالَ: "كُنْ أَبَدًا كَأَنَّكَ تَرَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-".
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَيْطَانِ الرَّجِيْمِ: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)[العلق: 14].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى خَيْرٍ, وَيَعْتَبِرُ نَفْسَهُ مُحَافِظًا, لَكِنَّهُ يَرْتَكِبُ بَعْضُ الـمَعَاصِيْ وَيُدَاوِمُ عَلَيْهَا, هُوَ لَا يَفْعَلُ الكَبَائِرَ, لَكِنَّهُ يُدَاوِمُ عَلَى الصَّغَائِرِ, فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الـمِثَالِ يَسْتَمِعُ إِلَى مَا لَا يَحِلْ, وَيَحْلِقُ لِحْيَتَهُ, وَيُسْبِلُ ثَوبَهُ, وَيَتَسَاهَلُ فِي النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ, كُلُّ ذَلِكَ بِحُجَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ (مُطَوعًا) كَمَا يُقَالُ!.
هُوَ عَلَى خَيْرٍ, نِيَّتُهُ طَيِّبَةٌ, وَقَلْبُهُ سَلِيمٌ عَلَى الـمُسْلِمِينَ, وَيَتَصَدَّقُ عَلَى الفُقَرَاءِ, وَيُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ فِي الـمَسْجِدِ, وَيَتَوَرَّعُ عَنِ الـمَكَاسِبِ الخَبِيثَةِ, لَكِنْ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحْسُوبًا عَلَى فِئَةِ الـمُتَدَيِنِينَ فَإِنَّهُ لَا بَأْسٍ لَدَيهِ أَنْ يَفْعَلَ بَعْضَ الـمَعَاصِيْ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الشَّكْلِيَاتِ وَالصَّغَائِرِ التِي لَنْ تُؤَثِرَ إِنْ شَاءَ اللهُ, وَالدِّينُ فِي القُلُوبِ وَلَيسَ بِالمَظَاهِرِ.
اِسمَعَ مِعِيَ إِلَى هَذَا الحَدِيثِ, اِسْمَعْهُ بأُذُنِكَ, وَتَأَمَّلْهُ بِقَلْبِكَ: رَوَى السُيُوطِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِيَّاكُم وَمُحقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ, كَرَجُلٍ كَانَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَحَضرَ صَنِيْعُ القَومِ, فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالعُودِ حَتَّى جَمَعُوا مِنْ ذَلِكَ سَوَادًا وَأَجَّجُوا نَارًا فَأَنْضَجُوا مَا فِيْهَا".
وَرُويَ عَنْ سَعْدِ بْنِ جُنَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مِنْ حُنَيْنٍ نَزَلْنَا قَفْرًا مِنَ الأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا شَيٌء, فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "اِجْمَعُوا, مَنْ وَجَدَ شَيئًا فَلْيَأْتِ بِهِ ، وَمَنْ وَجَدَ عَظْمًا أَوْ سِنًّا فَلْيَأْتِ بِهِ"، قَالَ: فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَةً حَتَّى جَعَلْنَاهُ رُكَامًا, فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَرَونَ هَذَا؟ فَكَذِلَكَ تُجمَعُ الذُّنُوبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْكُمْ كَمَا جَمَعْتُم هَذَا، فَلْيَتَقِ اللهَ رَجُلٍ فَلَا يُذْنِبْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً؛ فَإِنَّهَا مُحْصَاةٌ عَلَيْهِ"(صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ).
فِي مَوقِفِ الحِسَابِ قَدْ يَتَفَاجَأُ الإِنْسَانُ بِأَنَّ هَذِهِ الـمَعَاصِي التِي َلْم يَكُنْ يَحسِبُ لَهَا حِسَابًا, تَجُرُّهُ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ جَرًا, فَتُلْقِيْهِ فِيهَا -وَالعِيَاذُ بِاللهِ-, (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[النور: 15].
قَالَ ابْنُ الجَوزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "يَا مَنْ سَوَّفَ بِالـمَتَابِ حَتَّى شَابَ، يَا مَنْ ضَيَّعَ فِي الغَفْلَةِ أَيَّامَ الشَّبَابِ، يَا مَطْرُودًا بِذُنوُبِهِ عَنِ البَابِ، إِذَا كُنْتَ فِي الشَّبَابِ غَافِلاً، فِي الـمَشِيبِ مُسَوِّفًا، مَتَى تَقِفُ بِالبَابِ؟! كَمْ عُومِلْتَ عَلَى الوَفَاءِ! مَا هَكَذَا فِعْلُ الأَحْبَابِ، الظَّاهِرُ مِنْكَ عَامِرٌ، وَالبَاطِنُ -وَيْحَكَ- خَرَابٌ، كَمْ عِصْيَانٍ كَمْ مُخَالَفَةٍ، كَمْ رِيَاءٍ, كَمْ حِجَابٍ! وَلَّى طَيِّبُ العُمُرِ فِي الخَطَايَا، يَا تُرَى تَعُودُ إِلَى الصَّوابِ!".
فَلِلَّهِ عَبْدٌ خَائِفٌ مِنْ ذُنُوبِهِ *** تَكَادُ حَشَاهُ مِنْ أَسَىً تَتَقَطَّعُ
إِذَا جَنَّهُ اللَّيلُ البَهِيمُ رَأَيْتَهُ *** وَقَدْ قَامَ فِي مِحْرَابِهِ يَتَضَرَّعُ
يُنَادِي بِذُلٍ يَا إِلَهِي وَسَيِّدِي *** وَمَنْ يَهْرُبُ العَاصِيْ إِلَيهِ وَيَفْزَعُ
فَجُدْ لِيْ بِعَفْوٍ وَامْحُ ذَنْبِي وَنَجِّنِي *** مِنَ النَّارِ يَا مَوْلَى يَضُرُّ وَيَنْفَعُ
فَاللَّهُمَ اِغْفِرْ ذُنُوبَنَا وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا, وَعَامِلْنَا بِلُطْفِكَ وَعَفْوِكَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم, اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-, وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، قَالَ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي