ذلك هو عمر المختار أسد هصور، وبطل مسلم، بدّد بحفنة من الرجال جيوش الإمبراطورية الإيطالية، وجعلها تفر هاربة تاركة عتادها ومؤنها، ولو لم يكن الرجل من أصل كريم ومعدن نفيس لما كان بهذه القوة النادرة، كان كل ما حوله ينذر بالهزيمة، ويقيم الدليل على أن المعركة غير متكافئة، وأن النتيجة هي...
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: إن الأمة الإسلامية مرت عبر تاريخها بفترات ضعف وذلة لأعدائها، ولكن الله يهيئ لها علماء ربانيين يقومون فيها بواجب الدعوة والإصلاح، واستنهاض طاقتها للجهاد والتضحية. ولنتعرف في هذه الجمعة، على أحد هؤلاء العلماء، وجهاده أمام ضد استعمار بلاده؛ إنه العالم المجاهد عمر المختار.
ولد عمر المختار عام 1858م في بلدة بمنطقة برقة بليبيا، وقد توفي والده في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج، فذاق مرارة اليتم في صغره، ثم ذهب لإتمام دراسته إلى منطقة الجغبوب، وبقي بها ثمانية أعوام، وأظهر من الأخلاق العالية ما حبّب فيه شيوخ السنوسية، والسنوسية دعوة إسلامية أسسها الشيخ محمد بن علي السنوسي في تلك البلاد، فتمتع بعطفهم ونال ثقتهم.
وفي عام 1897م عيّن المختار شيخاً لزاوية القصور بالجبل الأخضر، وانتقل إلى السودان الغربي سنة 1312هـ، ليشارك في القتال ضد الفرنسيين في المناطق الجنوبية، واستمر المختار هناك وقتاً طويلاً يعلم أبناء المسلمين، وينشر الإسلام في هذه البقاع النائية.
أيها المسلمون: ولما فاجأت إيطاليا الدولة العثمانية بإعلان الحرب عليها، عام 1911م، وقام الأسطول الإيطالي بإطلاق قذائفه على موانئ طرابلس وبرقة، وقع على السنوسيين عبء الدفاع عن البلاد التي نشأت فيها دعوتهم، فاحتشدت جموعهم في ميادين القتال مع العثمانيين خصوصاً في برقة، وبدأ كفاح صارم استمر مدة ثلاثين عاماً، خطّ السنوسيون قصة كفاحهم بدمائهم، وأقاموا الدليل بعد الآخر على أن الشعوب التي تعتز بعقائدها وتاريخها لا يمكن فناؤها مهما تضافرت ضدها القوى المادية، التي تعتمد على البندقية والمدفع، وإزهاق الأرواح.
واستنفر السنوسيون شيوخ الزوايا للجهاد، وكان في مقدمة هؤلاء السيد عمر المختار، فأمر قبيلة العبيد المنتسبة لزاوية القصور الاستعداد للحرب، وخرج بنجدة كبيرة، ثم تبعه بقية شيوخ الزوايا، وتتابعت المعارك، واستمر السنوسيون يضيقون الخناق على العدو، بيد أن الصعوبات الشديدة سرعان ما أحاطت بالمجاهدين من كل جانب لانقطاع الموارد عنهم من أسلحة وذخائر ومؤن.
وانسحب العثمانيون من المعركة، وصمد السنوسيون وحدهم في وجه الطليان، وتولى عمر المختار قيادة "الجبل الأخضر" ثم أُسندت إليه القيادة العامة للمجاهدين، فشكل جيشاً موحداً جعل من خطته التربص بالعدو، فأوقعوا بهم شر مقتلة، وغنموا منهم أسلاباً كثيرة أمدتهم بأكثر الأسلحة والعتاد، مما كانوا في حاجة إليه.
وظل الحال على هذا المنوال حتى نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914م، وازدادت الأمور سوءاً فاضطر الأمير السنوسي محمد إدريس إلى مغادرة البلاد عام 1923م إلى مصر، وقبل أن يرتحل عن بلاده عهد بالأعمال السياسية والعسكرية في برقة إلى الشيخ عمر المختار، كما نظم الجهاد في طرابلس وجعل القيادة العامة على الجميع للمختار، إلا أن الأقدار أرادت أن يتوقف الجهاد بطرابلس، ومعنى ذلك أن الثورة قد انتهت فعلاً، وأن الأمر قد استتب للطليان في طرابلس أخيراً، وأن برقة وحدها هي التي أصبحت تحمل على عاتقها عبء الجهاد منفردة ضد العدو، فوقع بذلك العبء كله على السيد المختار، وكان البطل أهلاً لذلك.
وبدأ كفاح جديد في عامي 1924م و 1925م، ووقعت معارك عدة، ولمع اسم المختار وسطع نجمه كقائد بارع يتقن أساليب الكرّ والفرّ، ويستمتع بنفوذ عظيم، وأخذت القبائل العربية تنضم إلى صفوف المجاهدين، ولم يكن في استطاعة الطليان في هذه المرحلة أن يقوموا بنشاط حربي ملحوظ في منطقة الجبل الأخضر، فقصروا جهودهم على احتلال المركز السنوسي العتيد في الجغبوب، وأعدوا لهذا حملة عسكرية كبيرة من الجنود والسيارات المصفحة والمدافع الرشاشة، وبسقوط مركز الجغبوب أضيفت متاعب جديدة للمختار، ثم لجأ الطليان إلى محاولة بذر بذور الشقاق بين المجاهدين، وحاولوا استمالة السيد عمر المختار نفسه وعرضوا عليه عروضاً سخية من الأموال الطائلة، ومنّوه بالجاه العريض في ظل حياة رغدة ناعمة، ولكنهم لم يفلحوا.
واستطاع الطليان بعد احتلال الجغبوب عام 1927م أن يقطعوا السبل بين المجاهدين في الجبل الأخضر وبرقة وبين مصر من الناحية الشرقية، وبين مراكز السنوسية الباقية في الجنوب فوضعوا المختار والمجاهدين في عزلة تامة في الشمال. فهل وهن المختار وضعف ووجد اليأس إلى قلبه سبيلاً؟
كلا، بل إن الأحداث لم تنل منه شيئاً، وكان يبتسم ابتسامة الواثق بربه المؤمن برسالته، ويواصل الجهاد مهما تكن الظروف والنتائج. وفي خلال هذه الظروف الصعبة ظل يشن الغارة بعد الغارة على درنة وما حولها، حتى أرغم الطليان على الخروج بجيوشهم لمقابلته، فاشتبك معهم في معركة شديدة استمرت يومين، كان النصر فيها حليفه.
ذلك هو عمر المختار أسد هصور، وبطل مسلم، بدّد بحفنة من الرجال جيوش الإمبراطورية الإيطالية، وجعلها تفر هاربة تاركة عتادها ومؤنها، ولو لم يكن الرجل من أصل كريم ومعدن نفيس لما كان بهذه القوة النادرة.
كان كل ما حوله ينذر بالهزيمة، ويقيم الدليل على أن المعركة غير متكافئة، وأن النتيجة هي استيلاء إيطاليا في النهاية على ليبيا بأكملها، فما جدوى القتال والكفاح؟
كان هذا هو منطق الحوادث والواقع، ولكنه ليس بمنطق الأبطال، الراغبين في الشهادة الذين يقاتلون مهما كانت النتائج؛ لأنهم يؤمنون بشيء واحد هو أن يموتوا شهداء، أو يعيشوا أعزة أحراراً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المسلمون: وحدثت جملة مفاوضات بين السلطات الإيطالية، والسيد المختار؛ لتهدئة الأحوال، وكثرت العروض المغرية لشخص المختار، ولكنه رفض كل العروض، وبيّت الطليان النيّة على الإيقاع بالمختار وأسره، وتم الاتفاق على عقد هدنة لمدة شهرين تبين للمختار بعدها أنها مجرد مراوغة من إيطاليا لكسب الوقت، وأنها ترمي إلى القضاء على كل حركة تعمل لتحرير ليبيا من الغزاة.
وجاء جرازياني إلى برقة حاكماً عليها، وكان مزوداً بتعليمات صريحة بضرورة القضاء على المقاومة في برقة، فأنشأ المحكمة الطائرة عام 1930م، وكانت هذه المحكمة تنتقل على متن الطائرات من مكان إلى آخر لإصدار الأحكام السريعة ثم تنفيذها في الحال، وبدأ ينفذ سياسة عزل الأهالي عن المجاهدين، فحشدهم في معتقلات كبيرة.
واستمر هجوم المجاهدين على مراكز الطليان، ونشبت معارك كثيرة، كانت 263 معركة في خلال عشرين شهراً فقط، وزحف الطليان لاحتلال الكفرة، فاشتبكوا مع المجاهدين في معركة استخدموا فيها الطائرات، واحتلوا الكفرة، وكان لسقوطها أعظم الأثر في موقف المختار في الجبل الأخضر، ذلك أن جرازياني استطاع بذلك إغلاق الحدود المصرية إغلاقاً تاماً بمد الأسلاك الشائكة على طولها، ومع ذلك فقد ظل المختار في الجبل يقود المعارك ويقاوم الطليان.
ولما أراد الله أن يختم له بالشهادة ذهب كعادته في نفر قليل يقدر بأربعين فارساً، يستكشف مواقع العدو، ويتفقد مراكز إخوانه المجاهدين، ومرّ بواد صعب المسالك، وعلمت به القوات الإيطالية بواسطة جواسيسها، فأمرت بتطويق الوادي، فما شعر المختار ومن معه إلا وهم وسط العدو، ودارت معركة، وعلى الرغم من كثرة عدد العدو واحتياطاته تمكن المجاهدون من خرق صفوفه، ووصلوا إلى غربي سلطنه، ففاجأتهم قوة طليانية أخرى، وكانت ذخيرتهم على وشك النفاد.
فاشتبكوا في معركة جديدة قتل فيها جميع من بقي مع المختار، وقتل حصانه أيضاً، وظل يقاوم وحده إلى أن جرح في يده، ثم تكاثر عليه الأعداء وغلب على أمره، وأسروه وهم لا يعرفون من هو، ثم عُرف وأُرسل إلى سوسة، ومنها أرسل إلى بنغازي حيث أودع السجن.
وأكد المختار للإيطاليين أن وقوعه في الأسر لا يضعف شيئاً من حدة المقاومة؛ إذ أنه قد اتخذ من التدابير ما يكفل انتقال القيادة من بعده إلى غيره، وختم المختار قوله بكلمات خالدة: "إن القبض عليه، ووقوعه في قبضة الطليان إنما حدث تنفيذاً لإرادة المولى -عز وجل-، وأنه وقد أصبح الآن أسيراً بأيدي الحكومة، فالله -سبحانه- وحده يتولى أمره"، ثم أشار إلى الطليان، وقال: "وأما أنتم، فلكم الآن وقد أخذتموني أن تفعلوا بي ما تشاؤون، وليكن معلوماً أني ما كنت في يوم من الأيام لأُسلم لكن طوعاً!".
وجاء الطليان بأسد الصحراء عمر المختار إلى المحكمة مكبّلاً بالحديد، وكانت محاكمة صورية استغرقت من بدئها إلى نهايتها ساعة واحدة، وكانوا قبل بدء المحاكمة قد أعدوا "المشنقة" وانتهوا من ترتيبات الإعدام، وصدر الحكم إعدامه، فقابل ذلك بقوله: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
وجمعوا حشداً عظيماً لمشاهدة التنفيذ، لا يقل عن عشرين ألفاً، وذلك وفي صباح يوم الأربعاء 11 سبتمبر 1931م ونفذ الطليان حكم الإعدام شنقاً في الشيخ عمر المختار.
لقد كان الشيخ الجليل يتهلهل وجه استبشاراً بالشهادة، وارتياحاً لقضاء الله وقدره، وصعد حبل المشنقة في ثبات وهدوء، بخطى ثابتة، ويداه مكبلان بالحديد، وعلى ثغره ابتسامة راضية، وقد سمعه بعض المقربين منه وهو يؤذن بصوت هادئ آذان الصلاة، وعندما وضع الجلاد حبل المشنقة في عنقه كان يتلو: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)[الفجر:27-28].
أبيت والسيف يعلو الرأس تسليماً *** وجدت بالروح جود الحر أن ضيما
لله يا عمر المختار حكمته *** في ان تلاقي ما لاقيت مظلوما
إن يقتلوك فما إن عجلوا أجلا *** قد كان مذ كنت مقدوراً ومحتوما
إن المختار ليس أوّل من جاهد، ولا أول من استشهد، إنما هو أحد أولئك الأبطال القلائل الذين يواصلون القتال رغم اليأس من نتيجة المعركة. إنه من أولئك: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آلعمران:173].
ومن العبر الهامة في سيرة المختار: أن الله لا يضيع جهاد المجاهدين، ولا إيمان المؤمنين، إذا علم منهم صدق النية، فها هم أهل ليبيا جاهدوا طويلاً، وتغلبت إيطاليا عليهم، حتى عام 1942م، ثم أراد الله أن يحق الحق، ويبطل الباطل، فجاءت الحرب العالمية الثانية، وكانت سبباً في نصر المظلومين، فعادوا إلى أوطانهم بعد أن أُخرجوا منها ظلماً.
والعبرة الأخرى: أن الرجل لم يسع إلى الشهرة؛ لأن المخلصين لا يبحثون عنها، فتكفل الله برفع ذكره في الدنيا قبل الآخرة.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي