وكان-رحمه الله- جواداً كريماً، كثير الصدقة في مجالات الخير من كفالة الأيتام والأسر المحتاجة وبناء المساجد وكفالة الدعاة؛ كما أنه صاحب همَّة عالية، وعزيمة قوية، وكان يفتح بيته لطلاب العلم، وأصحاب الحاجات، ولا يرد أحداً طرق بابه، ويتلقى..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]،أما بعد:
أيها المسلمون: إن التعرف على سير العظماء من الرجال لمن أعظم ما يبعث الهمة ويعين على الاقتداء بهم، والسير على منوالهم.
وإن من هؤلاء العلماء والأئمة الفضلاء الذين ينبغي أن تدرس سيرهم ويتبع أثرهم، العالم الزاهد، بقية السلف، الإمام عبدالعزيز بن عبدالله بن باز الذي جمع الله له من حميد الخلال، وكريم الخصال، مالم يجمع لغيره إلا في القليل النادر على مر الأزمان.
ولد الشيخ ابن باز في مدينة الرياض في ذي الحجة سنة 1330هـ، ونشأ يتيما فقد توفي والده وهو صغير وتولت تربيته أمه، حفظ القرآن الكريم وهو قبل سن البلوغ وفقد بصره دون العشرين، فصبر واحتسب وذكر عنه أنه قال "الحمد لله على ذلك وأسأل الله جل وعلا أن يعوضني عنه بالبصيرة في الدنيا والجزاء الحسن في الآخرة؛ فعوضه الله بالبصيرة والحفظ والفهم".
ونشأ محبا لمجالس العلم، وأخذ عن كبار العلماء من أمثال الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، وسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ حيث لازم حلقاته صباحاً ومساءً نحواً من عشر سنوات، وقرأ عليه جميع المواد التي درسها في ودرس عليه الحديث والعقيدة، والفقه، والنحو، والفرائض وغيرها.
إخوة الإيمان: فلقد كان الإمام عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله- منذ نعومة أظفاره شاباً تقياً سباقاً إلى الخير، كثير اللجوء إلى الله والافتقار إليه، والتذلل بين يديه، كثير الدعاء، والتضرع إلى الله، ملازماً للأذكار، وكان لا يدع قيام الليل حتى في السفر، وكان شديد التعظيم للسنة، مطبقاً لها في شتى أحواله؛ فلا تكاد تثبت عنده سنة إلا طبقها.
وكان-رحمه الله- جواداً كريماً، كثير الصدقة في مجالات الخير من كفالة الأيتام والأسر المحتاجة وبناء المساجد وكفالة الدعاة؛ كما أنه صاحب همَّة عالية، وعزيمة قوية، وكان يفتح بيته لطلاب العلم، وأصحاب الحاجات، ولا يرد أحداً طرق بابه، ويتلقى شكاوى الناس ومشكلاتهم وطلباتهم وشفاعاتهم، ومع ذلك لا تراه يضجر أو يمل، أو ينهر، بل يقابل الناس كلهم بالبشاشة، والترحاب وكان ديدنه العدل في الأحكام سواء مع المخالفين أو الموافقين ولا فرق في ذلك عنده بين أمير أو وزير، أو قريب أو بعيد، أو من يعرفه أو لا يعرفه، وكان مع كثرة مشاغله مهتماً بأحوال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتراه مغتماً لما يصيب المستضعفين من المسلمين، باذلاً ما يستطيع لهم.
ولما كان يحظى به -رحمه الله- من العلم والهمة والأمانة تم تعيينه في القضاء عام 1350هـ ولم ينقطع عن طلب العلم، حيث لازم البحث والتدريس ليل نهار ولم تشغله المناصب عن ذلك، ثم اشتغل بالتدريس في معهد الرياض العلمي، ثم في كلية الشريعة، حتّى أصبح رئيسا للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية عام 1381هـ، وفي عام 1395هـ صدر أمر ملكي بتعيينه في منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برتبة وزير، وظل في هذا المنصب مدة ثمانية عشر عامًا، حتى 1413هـ بالإضافة إلى أنه كان مفتيا عاما للمملكة العربية السعودية، ورئيسا لهيئة كبار العلماء حتى انتقل إلى جوار ربه.
وقد أسس حلقة للتدريس في الجامع الكبير بالرياض، وأثناء وجوده بالمدينة المنورة عقد حلقة للتدريس في المسجد النبوي، ولم يقتصر نشاطه على ما ذكر، فقد كان يكتب ويؤلف، وله عدد كبير من الكتب والرسائل وكان يلقي المحاضرات، ويحضر الندوات العلمية ويعلق عليها، بالإضافة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أصبح صفة ملازمة له .
أيها المؤمنون: ولما يتمتع به هذا الإمام من صفات عظيمة حببه الله إلى قلوب عباده، وكانت له منزلة عظيمة سامية عند الجميع كبارًا وصغارًا وفي كل مكان من أرض الإسلام، وأثنى عليه أهل الفضل من العلماء والصلحاء، وقد زاره الشيخ محمد الغزالي مرة، ولما همَّ بالخروج قال: "نحن بخيرٍ ما دام فينا هذا الرجل".
وقال عنه الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع: "ولقد تقلَّد القضاء حفظه الله في آخر شبابه ومستهل كهولته، فكان نِعْمَ القاضي العادل، ونعم القاضي العالم، ونعم القاضي المرضي، فما من حكم يصدر من سماحته في قضائه إلا هو موضع التسليم والرضى والقناعة من طرفي الخصومة، لما يتمتع به حفظه الله من القبول لدى الجميع، والقناعة به من الجميع، والاطمئنان إلى ما يحكم به من الجميع"، و "هو مجدد هذا القرن" كما يقول الإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني.
وقال عنه الشيخ العلامة عبدالرزاق عفيفي: "ابن باز طراز غير علماء هذا الزمان، ابن باز من بقايا العلماء الأولين القدامى في علمه وأخلاقه ونشاطه"، ويقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن آل بسام عضو هيئة كبار العلماء: "شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله تعالى- هو المستحق الآن للقب شيخ الإسلام والمسلمين؛ لما يبذله من مساع في خدمة الإسلام والمسلمين، فهو الداعية الكبير، وهو المفتي الأول في الداخل والخارج، وهو الموجه إلى فعل كل خير، وهو المرجع في كل شأن من شؤون الإسلام؛ لما حباه الله تعالى من إخلاص لدينه وأمته، ولما امتاز به من سعة علم، وبعد نظر، وقبول لدى المسلمين، فقد وزع وقته على خدمة الإسلام ومصالح المسلمين".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
عباد الله: تلكم نشأة الإمام ابن باز وعبق يسير من عبادته وعلمه وتواضعه وحلمه، ولله در القائل:
تموج السطور لذكر ابن باز ***ويعلو على هامة الحرف نور
حياة تسامت بنور اليقين *** وعلم أضاء بكل الدهور
كفيف وابصر جسر النجاة ***وكم من بصير اضاع الجسور
أيها المسلمون: بعد أن تعرفنا على سيرته العطرة المملوءة بالخير والإيمان والبر والإحسان، والهمة في تحصيل العلم وتعليمه، وعظيم المتابعة للنبي-صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله؛ والدعوة إلى سبيله ومنهاجه؛ تعالوا لنقف مع رحيله ووفاته.
فقد كانت وفاته -رحمه الله- قبيل فجر يوم الخميس الموافق 27/1/1420هـ، ولم يشهد العصر جنازة كجنازة الشيخ ابن باز؛ حيث ازدحم الناس على تشييع جِنازته، وقَدِموا من أقاصي البلاد وخارجها إلى حيث يُشيَّع، وصُلِّيَت عليه صلاة الغائب في مشارق الأرض ومغاربها، وأخذت وسائل الإعلام من مقروءٍ ومسموعٍ ومشاهَدٍ تحكي سيرتَه وخِلالَه ومناقِبَه.
إن هذا الشيخ المودِّع تمكَّن بفضله وعمله وتقواه من قلوب العباد حتى دخلها، أصلح ما بينه وبين الله تعالى؛ فأصلح الله له الخَلْق، وبثَّ له القَبول في الأرض؛ فحملته قلوب الخَلْق قبل أن تحمله أعناق الرجال.
فلم يكن -رحمه الله- صنيعة إعلامٍ زائفٍ، ضلل الناس بشخصية لا تستحقُّ التبجيل، ولم تَلِجْ محبته قلوب الناس بسبب دِعاية كاذبة، كلا؛ بل عرفه كلُّ مَنْ أتاه، وعَلِمَ صدقَه وإخلاصه، كلُّ مَنْ سمعه، هكذا نحسبه والله حسيبه.
ولم يبلغ تلك المنزلة بنَسَبٍ ولا اشترى محبَّة الناس بمالٍ كان يملكه، ولا بجاهٍ وَرِثَه كابرًا عن كابر، ولا بمنصبٍ كان يسعى إليه؛ بل كان المال يأتيه فيَزْهد فيه، ويفرِّقه على مستحقِّيه، وظلَّ الجاه يلاحقه؛ فأمسكه بيديه ولم يَلِجْ قلبه؛ فسَّخره في خدمة الإسلام، ومعونة الضعفاء، ونصرة المستضعفين.
فطاب حيًّا وميِّتًا، وتواصلت دروسه ومآثره قبل وفاته وبعدها، وما خلَّف من علمٍ سيبقى إلى ما شاء الله تعالى، وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها: "علمٌ يُنتفع به".
عباد الله: بمثل هؤلاء يقتدي المؤمن ويتشبه، وإلى سيرة هؤلاء يوجه أبناء المسلمين.
فاللهم ارحمه رحمة واسعة وأسكنه الفردوس، واجزه خيرا على كل ما قدمه للإسلام والمسلمين.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي