ومن تأمل ما قص الله -تعالى- في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب؛ فما حفظت نعمة الله بشيء...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70، 71]، أما بعد:
أيها المسلمون: إن من سنن الله الكونية سنةُ التغيير؛ فما مفهوم التغيير وحقيقته وأنواعه، هذا ما سيكون حديثنا في هذه الخطبة، وقبل ذلك: لماذا نتحدث عن التغيير؟!.
عباد الله: نتحدث عن التغيير لأسباب منها:
أن التغيير من جملة ما أمرنا الله -تعالى- به بقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آل عمران: 104]؛ فالله -تعالى- أمر بتغيير المنكر وإزالته.
ومن الأسباب: اليأس الشديد الذي دب إلى قلوب كثير من المسلمين اليوم من تغيير الواقع السيئ الذي نعيشه؛ وذلك عند النظر إلى بُعد المسلمين عن كتاب ربهم -تبارك وتعالى- وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وضعفهم وتفرقهم، وفي المقابل قوة العدو وتماسكه وفتكه بالمسلمين.
ومن الأسباب: حدوث لبس عند البعض في مفهوم التغيير، لهذه الأسباب وغيرها نتحدث عن هذا المفهوم في هذه الخطبة إن شاء الله -تعالى-.
أيها المؤمنون: "السنة: السيرة حسنة كانت أو قبيحة. والأصل فيه الطريقة والسيرة حميدة كانت أو ذميمة، والجمع سنن"، وسنة الله في التغيير "هي: الطريقة المتبعة في معاملة الله -تعالى- للبشر، بناء على سلوكهم وأفعالهم، وموقفهم من شرع الله وأنبيائه، وما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا والآخرة".
وحقيقة التغيير وضحها ابن تيمية -رحمه الله- حين قال: "إن لفظ التغير لفظ مجمل؛ فالتغير في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث؛ فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت أنها قد تغيرت، ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى أنه تغير، ولا يقولون إذا طاف وصلى وأمر ونهى وركب أنه تغير إذا كان ذلك عادته، بل إنما يقولون تغير لمن استحال من صفة إلى صفة؛ كالشمس إذا زال نورها ظاهراً لا يقال أنها تغيرت، فإذا اصفرت قيل تغيرت، وكذلك الإنسان إذا مرض أو تغير جسمه بجوع أو تعب قيل قد تغير، وكذلك إذا تغير خلقه ودينه، مثل أن يكون فاجراً؛ فينقلب ويصير براً، أو يكون براً فينقلب فاجراً؛ فإنه يقال قد تغير، وفي الحديث: رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متغيراً؛ لما رأى منه أثر الجوع. ولم يزل يراه يركع ويسجد؛ فلم يسم حركته تغيراً.
وكذلك يقال فلان قد تغير على فلان إذا صار يبغضه بعد المحبة؛ فإذا كان ثابتاً على مودته لم يسم هشته إليه وخطابه له تغيراً، وإذا جرى على عادته في أقواله وأفعاله؛ فلا يقال أنه قد تغير، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد: 11]، ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة يقولون ويفعلون ما هو خير لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم؛ فإذا انتقلوا عن ذلك فاستبدلوا بقصد الخير قصد الشر، وباعتقاد الحق اعتقاد الباطل، قيل قد غيروا ما بأنفسهم، مثل من كان يحب الله ورسوله والدار الآخرة فتغير قلبه وصار لا يحب الله ورسوله والدار الآخرة، فهذا قد غير ما في نفسه".
عباد الله: يبين لنا المولى -سبحانه- سنة كونية في التغيير حتى نكون على بينة، وحتى لا نبتعد عن الجادة ونتوه عن الصواب، يقول -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال: 53]؛ فالله لن يغير حال قوم من وضع مرضي مريح إلى وضع ضنك مذموم أو العكس؛ إلا إذا غير هؤلاء القوم ما في قلوبهم؛ فإذا وجهوا قلوبهم إلى مولاهم وامتثلوا أوامره وابتعدوا عن نواهيه غيّر الله حالهم إلى أحسن حال.
فالله -سبحانه- غيّر حال أقوام من الضعف إلى القوة ومن الذل إلى العز لما رجعوا إليه واتقوه، يقول -تعالى- ممتنا على المهاجرين من أصحاب رسول الله الذين فارقوا ديارهم وضحوا بأموالهم في سبيل دينهم، يقول -سبحانه-: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الأنفال: 26]، قال قتادة: "كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاه عيشًا، وأجوعه بطونًا، وأعراه جلودًا، وأبينه ضلالاً، من عاش منهم عاش شقيًا، ومن مات منهم ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، واللّه ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلاً منهم، حتى جاء اللّه بالإسلام، فمكّن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكًا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى اللّه ما رأيتم، فاشكروا اللّه على نعمه؛ فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من اللّه".
عباد الله: وإذا توجهت قلوب الناس إلى الشهوات وارتكست أنفسهم في حمأة الرذيلة غيّر الله حالهم إلى أسوأ حال، كما قال -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا)[طه: 124-125].
عباد الله: إن من أسباب التغيير من الخير إلى الشر؛ ضعف العقيدة، والانحراف عن منهج السلف الصالح، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة".
ومنها: المعاصي والذنوب؛ قال الله -تعالى (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)[النساء: 79]، (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30]، وقال -تعالى-: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ)[الأنعام: 6]، وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)[يونس: 13].
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: "يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها؛ إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم؛ إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله؛ إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم؛ فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"، وقال علي -رضي الله عنه-: "ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة".
قال ابن القيم: "وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته؛ فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)[الرعد: 11].
ومن تأمل ما قص الله -تعالى- في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب.
فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه؛ فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس، ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له".
ومن الأسباب: الظلم: قال الله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود: 102]، وقال -تعالى-: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا)[النساء: 160]، وقال -سبحانه-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112]، وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)[الرعد: 11]، قال الطبري: "يقول -تعالى- ذكره: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ) من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم، (حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) من ذلك بظلم بعضهم بعضا، واعتداء بعضهم على بعض فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره".
وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود: 102].
ومن الأسباب: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال الله -تعالى-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة: 78-79]، وقال -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الأنفال:25].
وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة؛ فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها؛ فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به، فأخذ فأسا؛ فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه؛ فقالوا: ما لك؟. قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء. فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم".
وعن زينب بنت جحش -رضي الله عنها- قالت: استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- من النوم محمراً وجهه يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه - وعقد سفيان تسعين أو مائة- قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم إذا كثر الخبث"، وعن جرير قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا؛ إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا".
وعن عمر بن عبد العزيز قال: "كان يقال: إن الله -تعالى- لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا كلهم العذاب". وعن بلال بن سعد قال: "إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تغير ضرت العامة".
ومن ذلك: التنافس على الدنيا؛ فعن المسور بن مخرمة قال: قدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة؛ فوافت صلاة الصبح مع النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فلما صلى بهم الفجر انصرف؛ فتعرضوا له؛ فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهم وقال: "أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء"، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: "فأبشروا وأمّلوا ما يسركم؛ فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم". قال ابن حجر: "قوله: "فتنافسوها التنافس" من المنافسة، وهي الرغبة في الشيء ومحبة الانفراد به والمغالبة عليه، وأصلها من الشيء النفيس في نوعه، قوله: "فتهلككم" لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه؛ فتمنع منه فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك".
قال ابن بطال: "فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها، فلا يطمئن إلى زخرفها، ولا ينافس غيره فيها، ويستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى؛ لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى، والغنى مظنة الوقوع في الفتنة التي قد تجر إلى هلاك النفس غالبا، والفقير آمن من ذلك".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها المسلمون: لقد دلنا الله -تعالى- على سبل النجاة والتغيير إلى الأفضل، فمن ذلك: التوبة والرجوع إلى الله: قال الله -تعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور: 31]، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)[التحريم: 8].
ومنها: الاعتصام بالكتاب والسنة أفراداً وجماعات؛ قال الله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي".
ومن ذلك: الاجتماع والتعاون على البر والتقوى؛ قال الله -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة: 2]، وقال -تعالى-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال: 46].
ومنها: الصبر: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200]، وقال -تعالى-: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 46] ، وقال -تعالى-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة:155-157].
ومنها: التقوى؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً".
ومن ذلك: الدعاء؛ قال الله -تعالى-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر: 60] وقال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186]، وعن ثوبان رضي الله عنه الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الله عليه وسلم: "ولا يرد القدر إلا الدعاء".
أيها المؤمنون: إن الله -سبحانه- يغير من حال الخوف والذل إلى حال الأمن والتمكين إذا عرف الناس ربهم وعبدوه وأقاموا شعائر دينهم، يقول -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور: 55]؛ فهذا وعد إلهي من الله لا يتخلف أبدا، ويقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب"(رواه أحمد).
هكذا -إخوة الإيمان- لا تكون السعادة ولا تكون الحياة الطيبة، ولا يكون الجزاء الحسن يوم القيامة إلا بالالتجاء إلى الله، وبالاعتصام بدينه، والتمسك بحبله، والاتباع الصادق لنبيه -عليه الصلاة والسلام-.
اللهم غير أحوالنا إلى خير حال، وأسعدنا بفضلك في الدنيا والمآل.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه؛ فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي