أم سلمة رضي الله عنها

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. نسب أم سلمة رضي الله عنها .
  2. إسلامها ومضايقة قريش لها .
  3. الهجرة إلى الحبشة والمدينة .
  4. من مناقب وفضائل أم سلمة رضي الله عنها .
  5. مواقف من حياة أم سلمة رضي الله عنها .

اقتباس

لقد كانت أم سلمة -رضي الله عنها- من أرجح النساء عقلا وأكملهن دينا وخلقا، تزوجت من ابن عمها عبدالله بن عبد الأسد بن هلال المخزومي، المعروف بأبي سلمة -رضي الله عنهما-، وقد كانا من أوائل الناس إسلاما، فلمّا شاع إسلامهما هاجت قريش وماجت، وجعلت تصب عليهما من نكالها ما يزلزل الصخور، رجاء...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

معاشر المؤمنين: يحفل التاريخ الإسلامي والسيرة النّبوية، بشخصيات عظيمة، سطّرت بسيرتها أجمل السير، وسجلت بمواقفها أنبل المواقف، حاديها فيها قوة الايمان، وجلالة اليقين، وعزم مكين، وجلد المتقين، ومن هؤلاء العظام يروي لنا تاريخنا المشرق سيرة صحابية فاضلة، عرفت برجاحة عقلها، وقوّة عزمها، وسداد رأيها، وثباتها على دينها، ضحت بأرضها ودارها، فنالت شرف هجرتين عظيمتين، هجرة الحبشة وهجرة المدينة، إنها إحدى أمهات المؤمنين، وزوج النبي الكريم-صلى الله عليه وسلم-.

إنها أم سلمة هند بنت أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم كان أبوها -رضي الله عنها- من أكرم رجال قريش؛ حتى أنه كان لعظيم جوده يسمى بين العرب زاد الراكب، وكانت أمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن عبد المطلب، أخوالها لأبيها عبد الله وزهير ابنا عمَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

لقد كانت أم سلمة -رضي الله عنها- من أرجح النساء عقلا وأكملهن دينا وخلقا، تزوجت من ابن عمها عبدالله بن عبد الأسد بن هلال المخزومي، المعروف بأبي سلمة -رضي الله عنهما-، وقد كانا من أوائل الناس إسلاما، فلمّا شاع إسلامهما هاجت قريش وماجت، وجعلت تصب عليهما من نكالها ما يزلزل الصخور، رجاء رؤيتهما يرتدان عن الدين الحنيف، فما زادهما ذلك إلا جلدا وثباتا، حتّى قررا الفرار بدينهما إلى أرض الحبشة.

وبقيا في الحبشة حتى تتابعت الأخبار والإشاعات أن قريشا قد دخلت في الإسلام، فعادت مع أبي سلمة إلى مكة، وبقيا فيها تمضي أيامهما بين اضطهاد وتعذيب، على يد كفار قريش؛ حتى أذن الله للمستضعفين من المسلمين في مكة بالهجرة إلى المدينة النبوية، ورغبهم رسول الله –عليه الصلاة والسلام في ذلك؛  لما سينالونه في من السعة والمصالح  الدنيوية والأخروية، قال تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً...)[النساء:100].

قالت أم سلمة وكان أبو سلمة قد أعد لي بعيرا وحملني عليه، وجعل سلمة في حجري، ومضى يقود البعير، فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه، فقالوا:  أرأيت صاحبتك هذه؟ فعلام نتركك تسير بها في البلاد؟  فنزعوا خطام البعير من يده، وأخذوني منه قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة، فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة قالت: ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي؛ حتى أمسى سنة أو قريبًا منها".

ومكثت أم سلمة -رضي الله عنها- بمكة على هذه الحال محزونة على فراق زوجها وولدها حتى أذن الله لها بالفرج؛ حيث مر بها  رجل من بني المغيرة- فرأى ما بها فرحمها، وقال لبني المغيرة: ألا تُخْرِجون هذه المسكينة، فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها، فقالوا الحقي بزوجك إن شئت.

ولما أردت الهجرة إلى المدينة أعاد بنو عبد الأسد إليها ولدها فأخذته وجعلته في حجرها ثم خرجت؛ ولم يكن معها أحد من خلق الله تتبلَّغ به لتصل إلى زوجها حتى وصلت إلى التنعيم فلقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، فقال لها: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت له: أريد زوجي بالمدينة قال: أَوَمَا معكِ أحد؟ فقالت: لا والله إلاَّ الله وبُنَيَّ هذا، فقال: والله ما لك مِن مترك فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قطُّ، أرى أنه كان أكرم منه كان إذا بلغ المنزل أناخ بي  ثم استأْخَر عنِّي  حتى إذا نزلتُ استأخر ببعيري  فحطَّ عنه  ثم قيَّده في الشجرة  ثم تنحَّى وقال: اركبي فإذا ركبتُ واستويتُ على بعيري؛ أتى فأخذ بخطامه فقاده حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلمَّا نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقُبَاء، قال: زوجك في هذه القرية -وكان أبو سلمة بها نازلاً- فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعًا إلى مكة فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبًا قطُّ كان أكرم من عثمان بن طلحة" (سيرة ابن هشام: ص407).

أيها المؤمنون: وبعد رحلة أم سلمة العصيبة مذ أسلمت قلبها لله، وما تعرضت له من المصائب والآلام، لم تستقر أُمنا طويلا بالمدينة حتى نزلت بها فاجعة جديدة؛ حيث استشهد زوجها في غزوة أحد -رضي الله عنه- وقد جاء في الرواية "أنها كانت تقول من خير من أبي سلمة صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت تردد هذا الدعاء: "إنا لله وإنا اليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي و اخلف لي خيرا منها"، فأكرمها الله بخير مما أخذ منها وتزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

أيها المسلمون: امتن الله على أم سلمة بالمناقب الجليلة، والفضائل الكثيرة، ومن ذلك ما يلي:

أنها من السابقات إلى الإسلام، ومن أوائل المهاجرين والمهاجرات إلى الحبشة والمدينة، وقد كانت من الذين امتدحهم الله، من السابقين في الإسلام والهجرة، وأخبر برضاه عنهم، ووعدهم بجنته، فقال عز من قائل: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة:100].

ومما حازته من الفضائل أنها إحدى أمهات المؤمنين اللاتي فُضِلن على نساء العالمين في التقوى والمنزلة، قال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ)، كما أنها زوج النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم-  في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا)[الأحزاب:53]، يقول السعدي في تفسير هذه الآية: "فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، والزوجية باقية بعد موته، فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده، لأحد من أمته".

وقد كانت -رضي الله عنها- تختلف عن باقي نساء النبي، فقد انتُزع من صدرها الغَيرة؛ حيث اعترفتْ للنبي بغَيرتها، وذلك عند خطبته لها، فدعا لها النبي  بذهاب الغَيرة من نفسها. (ابن كثير: السيرة النبوية 3/175).

وقد كانت للسيدة أم سلمة -رضي الله عنها- مكانتها عند النبي ؛ فعن زينب ابنة أمِّ سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله  كان عند أمِّ سلمة -رضي الله عنها- فجعل حَسَنًا في شقٍّ، وحُسَيْنًا في شقٍّ، وفاطمة في حجره، وقال: "رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ". وأنا وأمُّ سلمة -رضي الله عنها- جالستان، فبكت أمُّ سلمة -رضي الله عنها- فنظر إليها رسول الله، وقال: "مَا يُبْكِيكِ؟" قالت: يا رسول الله، خصصتهم وتركتني وابنتي. قال: "أَنْتِ وَابْنَتُكِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ".

ولمَّا كان النبي  يدخل على نسائه كان يبتدئ بأمِّ سلمة رضي الله عنها، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله  إذا صلَّى العصر دخل على نسائه واحدة واحدة، يبدأ بأمِّ سلمة -رضي الله عنها- لأنها أكبرهن، وكان يختم بي" (الطبراني: المعجم الكبير:18/19).

ومن مناقبها -رضي الله عنها- أن كانت عالمة فقيهة حافظة؛ فقد روت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثمائة وثمانين حديثًا، فرضي الله عنها وأرضاها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

عباد الله: لقد ضربت أم سلمة -رضي الله عنها- أروع الأمثلة للمرأة الصالحة المجاهدة المربية العابدة، فتعالوا بنا نتأمل بعض مواقفها العظيمة -رضي الله عنها- التي تدل على رجاحة عقلها وحكمتها، ومن ذلك:

ما أشارت به على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية، حين دخل عليها يشكوا ما لقي من الناس، فقد أمرهم بنحر الهدي، والحلق، فلم يفعلوا، حتى  كرر ذلك ثلاث مرَّات، فقالت أمُّ سلمة -رضي الله عنها-: "يا نبي الله أتحبُّ ذلك؟ اخرج ثم لا تكلِّم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بُدْنَك وتدعو حالقك؛ فخرج فلم يكلِّم أحدًا منهم، حتى نحر بُدْنه، ودعا حالقه فحلقه، فلمَّا رأَوْا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا". قال ابن حجر: وإشارتها على النبي  يوم الحديبية تدلُّ على وفور عقلها، وصواب رأيها.

ومن مواقفها العظيمة التي سطرها التاريخ: موقفها يوم معركة الجمل، لما أتت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- حين أرادت الخروج إلى البصرة، فقالت لها: إنك سُدَّة بين رسول الله وأُمَّته، وحجابك مضروب على حرمته، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه -توسعيه- من وراء هذه الأمة" فقد حثتها على البقاء وعدم الخروج إلى البصرة.

ومن مواقفها -أيضاً-: نصحها وتوجيهها لأمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حين دخلت عليه وقالت له: "مالي أرى رعيتك عنك نافرين، ومن جناحك ناقرين؛ لا تُعَفِّ طريقا كان رسول الله  لَحَبَهَا، ولا تقتدح بزند كان أكباه، وتوخَّ حيث توخَّى صاحباك -أبو بكر وعمر- فإنهما ثَكَمَا الأمر ثَكْمًا، ولم يظلمَا، هذا حقُّ أمومتي أَقْضِيه إليك، وإن عليك حقَّ الطاعة، فقال عثمان -رضي الله عنه-: أمَّا بعد، فقد قلتِ فوعيتُ، وأوصيتِ فقبلتُ".

عباد الله: إنّ المقام لا يسع لذكر المزيد من سيرة أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها-  ومواقفها الخالدة، لكننا نختم سيرتها بذكر موعد فراقها، ورحيلها إلى باريها وجوار خير البرية وأزكى البشرية -صلى الله عليه وسلم-، حيث توفيت في عهد يزيد بن معاوية -رضي الله عنهما- ولها من العمر أربع وثمانون عاما، ودُفنت بالبقيع -فرضي الله عنها وأرضاها- وجعل الفردوس مستقرّها ومأواها.

أيها المسلمون: لقد كان في سيرة أم سلمة -رضي الله عنها- مثالاً يحتذى به في التضحية والحكمة ورجاحة العقل وسداد القول والعلم والعمل والصلاح فرضي الله عنها وأرضاها.

هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي