أما عبيدالله بن زياد فعرف بمكْرِه ودهائِه كيف يفرِّق شيعة الكوفة؛ فأرسل إلى رؤساء القبائل وأعطاهم من الأموال ما يخذلهم عن نصرة الحسين ومسلم بن عقيل. فجعل عُبَّادُ المال ينفرون ويتفرَّقون عن مسلم بن عقيل حتى أمسى وليس معه أحد، فوقع في قبضة ابن زياد فأمر بقتله، فطلب أن يكتب للحسين يخبره بحقيقة ..
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المسلمين: دماءٌ تسيل، صراخٌ وعويل، جيوبٌ تشقَّق، وخدود تلطم، أشعارٌ ورثاء، مآتمُ وعزاء، تهديد ووعيد لمن قتل هذا الشهيدَ، وأنَّات وآهات تنادي: "يا حسين، يا حسين".
إنَّها مشاهد مكررة يُحييها الرافضة في كلِّ عام؛ إحياءً لذكرى استشهاد الحسين بن علي -رضي الله عنهما-.
فتعالوا لنقترب من الحسين وحياته، وخبره واستشهاده؛ لنعرف بذلك مَن أحقُّ الناس بالحسين؟ ومن الذي غَدَر حقًّا بالحسين؟ ثم ما موقفُ أهل السنة والجماعة من هذه القضية وتوابعها؟.
إخوة الإيمان: ها هو رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يجرُّ إزاره مسرعًا قد سَمِعَ خبرًا خفق له فؤادُه، وتحركت من أجله لواعجُ شوقه، لقد ولدت فاطمةُ بنت محمد طفلاً.
دخل الجدُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على ابنته، وحمل الوليدَ المبارك بين يديه، ثم أتى بتمرةٍ، فلاكها بريقه الشريف، وحنَّك الطفل بها، ثم التفت إلى علي، فقال: "ما أسميته؟"، قال عليٌّ: جعفرًا، فقال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "بل سمِّه الحُسين"، ولما بلغ الحسين يومه السابع، عقَّ عنه جدُّه محمدٌ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بكبشين.
عاش هذا الطفل، وترعرع في بيت النُّبوة, وامتلأ قلب المصطفى -صلَّى الله عليه وسلَّم- محبةً ورحمةً بهذا الطفل الصغير، حتى سمَّاه: "ريحانته". بل بلغ من مَحبَّته -صلَّى الله عليه وسلَّم- للحسين أنَّه كان لا يطيق سماعَ بكائه. مرَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يومًا على باب علي فسمع صوت الحسين يبكي، فنادى ابنته فاطمة: "يا زهراء، أَمَا علمتِ أنَّ بكاءه يؤذيني".
كَبر الحسين -رضي الله عنه- قليلاً، فكانت خُطُواته الصغيرة لا تخطئ مسجد النبي؛ شوقًا لرؤية جده محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم-, كان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يخطب فدخل الحسن والحسين، عليهما ثوبان أحمران يعثران من المشي، فلم يصبر النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أمام هذا المنظر -وهو بشرٌ من البشر- فقطع خطبته ونزل من فوق منبره، فأقبل نحوَهما وضمَّهما إليه، فصعد بهما المنبر، ثم قال: "صدق الله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ)" [التغابن:15]، ثم قال: "نظرتُ إلى هذين فلم أصبر"، ثم شرع في خطبته.
يكفي الحسينَ بن علي -رضي الله عنهما- شرفًا وفضلاً وفخرًا قولُ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- عنه: "الحسن والحسين سيدَا شباب أهل الجنة", وقوله: : "حسين منِّي وأنا من حسين، أحبَّ الله مَن أحبَّ حسينًا، حسين سبطٌ من الأسباط". (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
وقبل أن يفارق النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- هذه الدنيا بلحَظات يسيرات، لم ينسَ أن يودِّع الحسين وأخاه الحسن بقبلاتٍ حارَّات، ثم أوصى بهما خيرًا.
تألم الحسين -رضي الله عنه- وهو في ربيعه السادس لوفاة جده -صلَّى الله عليه وسلَّم- وحزن عليه حزنًا شديدًا, ولم يمضِ من الأيام ستة أشهر إلا والأحزان تتجدَّد في قلب ذلك الصبيِّ الصغير، لقد فُجِع بفاجعة عظيمة؛ توفِّيت أمُّه فاطمة الزهراء سيدة نساء الجنة.
لقد عاش الحسين -رضي الله عنه- بعد وفاة الجد -صلَّى الله عليه وسلَّم- حياة الإكرام واقعًا محسوسًا، فكان الأصحاب -رضي الله عنهم- من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية -رضي الله عنهم أجمعين- يحبونه ويكرمونه إكرامًا للنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
إخوة الإيمان: في سنة ستين للهجرة بُويِع يزيد بن معاوية بالخلافة، وتألم الحسين -رضي الله عنه- من هذه البيعة؛ لأنه كان يرى أن هناك مَن هو أحقُّ بالخلافة من يزيد من أصحاب محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم- فلم يبايع الحسينُ يزيدَ بن معاوية، وترك الناسَ وشأنَهم، وجاوَر مكة يتعبَّد لله –تعالى-.
سمع أهل الكوفة أن الحسين بن عليٍّ -رضي الله عنه- لم يُبايِع، وكانوا أصحاب تاريخ مليء بالفتنة والشِّقَاق، وكانوا يُظْهِرون الميل لعليٍّ وشيعته. فأرسلوا الرسائلَ والكتبَ يدعون الحسين للبيعة، وتتابعت الرسائل إلى الحسين حتى بلغت أكثر من خمسمائة كتاب، عندها أرسل الحسين ابنَ عمه مسلم بن عقيل ليستوثق الخبر.
وصل مسلم بن عقيل الكوفة، فوجد الناس يريدون الحسين، وجعل يأخذ البَيْعة للحسين في دار هانئ بن عروة حتى بايعه ثمانية عشر ألفًا من أهل الكوفة، وقيل: ثلاثون ألفًا، ثم كتب مسلم بن عقيلٍ إلى ابن عمه الحسين: "أن اقدِم فقد تمت البيعة لك".
وصلت الأخبار ليزيد بن معاوية عن بيعة أهل الكوفة، فأمر واليَه على البصرة عبيدالله بن زياد أن يضمَّ الكوفة إليه، وأمَره أن يمنع أهل الكوفة من الخروج عليه مع الحسين، ولم يأمر يزيدُ بقتل الحسين.
عَلِم مسلم بن عقيل أن عبيدالله بن زياد يريد ضمَّ الكوفة، فخرج مسلم ومعه أربعة آلاف ممن بايَعه، وتوجَّه بجيشه وحاصَر عبيدالله بنَ زياد في قصره، وشدَّد عليه الحصار.
أما عبيدالله بن زياد المحاصَر، فعرف بمكْرِه ودهائِه كيف يفرِّق شيعة الكوفة؛ فأرسل إلى رؤساء القبائل وأعطاهم من الأموال ما يخذلهم عن نصرة الحسين ومسلم بن عقيل.
فجعل عُبَّادُ المال ينفرون ويتفرَّقون عن مسلم بن عقيل حتى أمسى وليس معه أحد، فوقع في قبضة ابن زياد فأمر بقتله، فطلب أن يكتب للحسين يخبره بحقيقة خيانة شيعة أهل الكوفة، فكتب كتابًا للحسين هذا نصه: "ارجِع بأهلك، ولا يغرنَّك أهل الكوفة؛ فقد كذَبوني وكذَبوك، وليس لكاذب رأيٌ".
أما الحسين بن علي -رضي الله عنه- فلم يعلم بما حصل لابن عمه وخيانة أهل الكوفة له، فخرج من مكة ومعه سبعون من أهل بيته ظنًّا منه أنَّ البيعة قد تمت له هناك.
حاول الصحابة -رضي الله عنهم- منْع الحسين وثنيَه عن الخروج ففشلوا، بل إن عبدالله بن عمر بن الخطاب لحق به بعد ثلاث ليالٍ حتى وصل إليه فقال: "أين تريد؟" قال: "إلى العراق، وهذه كتبهم ورسائلهم وبيعتهم"، فقال له ابن عمر: "لا تأتِهم، لا تأتِهم"، فأبى -رضي الله عنه- فلما رأى ابن عمر إصرارَه ضمَّه وقال: "أستودِعك الله من قتيل".
مضى الحسين -رضي الله عنه- إلى العراق، وقبل وصوله علم بمقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، فهمَّ أن يرجع، إلا أن أبناء مسلم الذين كانوا معه طلبوا ثأر أبيهم، فنزل على رأيهم وواصل المسير، أما عبيدالله بن زياد، فقد أرسل جيوشه لمنْع الحسين من الكوفة بقيادة شمر بن ذي الجَوْشَن، وعمر بن سعد، وعددهم خمسة آلاف رجل، فالتقى الجمعان في أرض كربلاء في العاشر من محرم سنة إحدى وستين للهجرة.
رأى الحسين عدمَ التكافؤ بينه وبين خصمه؛ فعرض عليهم ثلاثة أمور:
- إما أن يتركوه أن يرجع من حيث أتى.
- أو أن ينطلق إلى ثغر من ثغور المسلمين للجهاد.
- أو أن يتركوه يذهب إلى يزيد بالشام.
فأبى عليه شمر -وقد كان بالأمس من شيعة علي- أبى إلا أن يُرْبَط أسيرًا، وينزل على حكْم عبيدالله بن زياد أو القتال, فقال الحسين: "لا والله؛ لا أنزل على حكم ابن زياد أبدًا، واصطفَّ الجيشان، وتجهَّز الجميع للقتال".
هنا رفع الحسين يديه إلى السماء ودعَا على أهل الكوفة قائلاً: "اللهم إن متعتهم إلى حين ففرِّقهم فِرَقًا، واجعلهم طرائق قِدَدًا، ولا تُرْضِ الولاةَ عنهم أبدًا؛ فإنهم دعَونَا لينصرونا، ثم عدَوْا علينا فقتلونا".
وبدأ القتال وحمي الوَطِيس، وكان يومًا عصيبًا على الحسين -رضي الله عنه- يرى أهل بيته يتساقطون بين يديه صَرْعَى واحدًا تِلْوَ الآخر حتى بقي -رضي الله عنه- وحده، فتقدم إليه شمر بن ذي الجَوْشَن، فرماه برُمحه في رقبته، ثم طعنه فسقط -رضي الله عنه- شهيدًا، وفاضت روحه الطاهرة إلى باريها، وهكذا قُتِل سيد المسلمين في عصره، قُتِل ريحانة المصطفى -صلَّى الله عليه وسلَّم- قُتِل الزاهد العابد المبشَّر بالجنة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ)[إبراهيم:42].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
إخوة الإيمان: وبعد هذا العَرْض لمقتَل الحسين -رضي الله عنه- يبقى السؤال الأهمُّ: مَن قتَل الحسين؟.
إن الحقيقة التي ينبغي أن يَعِيَها الجميع: أن قتَلة الحسين هم أهل الكوفة الذين دعوه للبيعة ثم خانوه، وحتى لا يكون الكلام تجنيًا ورجمًا بالتُّهَم نستنطق كتبَ الشيعة؛ لتؤكِّد لنا بجلاء ووضوح أن الذين دَعَوْه لنصرته ومبايعته هم الذين قتلوه، ثم ذرفوا الدموع على موته!
جاء في كتاب (أعيان الشيعة)، لمحسن الأمين: "بايَع الحسينَ عشرون ألفًا من أهل العراق، غدروا به، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه". ويقول محدِّث الشيعة عباس القُمِّي في كتابه (منتهى الآمال): "تواترت الكتب إلى الحسين حتى اجتمع عنده في يوم واحد ستمائة كتاب من عديمي الوفاء". وذكر المؤرخ الشيعيُّ اليعقوبي في (تاريخه): أنه لما دخل عليُّ بن الحسين الكوفةَ رأى نساءها يبكين ويصرخن، فقال: "هؤلاء يبكين علينَا، فمَن قتلنا؟!" أي: مَن قتلنا غيرهم؟!
عباد الله: وأما أهل السنة والجماعة فيعدُّون قتل الحسين -رضي الله عنه- فاجعةً عظيمة، وجرحًا غائرًا في جسد الأمة، وأن قاتليه هم من شرار الخلق وأفسق الخليقة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما مَن قتل الحسين أو أعان على قتله أو رضي بذلك - فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، وعزاء أهل السنة والجماعة في الحسين أنه عاش حميدًا، ومات شهيدًا، ولا يقولون إلا ما يُرضِي ربهم: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لا يضربون لهذه المصيبة خدًّا، ولا يشقُّون لها جيبًا، ولا يحيون معها معالم الجاهلية الأولى".
وإن مما ينبغي أن يَعِيَه المسلمون أن الرافضة ما حفظوا وحافظوا على هذه البدعة وإحياء شعائرها إلا لهدفين رئيسَين:
الأول: إحياء جَذْوَة التشيع في قلوب أصحابه، يقول إمامهم الخميني: "إن البكاء على الشهيد يُعَدُّ إبقاءً على اتِّقاد الثورة وتأجُّجها".
أما هدفهم الآخَر في إحياء عاشوراء: فهو شحْن القلوب وتجييش النفوس على أعداء آل البيت -زعموا- ومَن هم أعداء آل بيت؟ هم مَن لا يؤمن بولايتهم على التصور الشيعي.
ينادي الرافضة في هذا اليوم، يا لثَارَاتِ الحسين، والثأر لحقِّ آل البيت، وأين هم قتلة الحسين؟ لقد خان ابن العلقمي الخليفة العباسي واستباح بغدادَ بحجَّة الثأر للحسين، وأعمَل إسماعيل الصفوي السيفَ في أهل العراق، وأجرى فيها شلالات الدماء بحجة الثأر للحسين، وما زال الرافضة في كل زمان يسفكون دماء السنة بحجة الثأر للحسين.
وفي هذا العصر تُهْدَم المساجد في العراق وسوريا وغيرها من بلاد المسلمين وتُبْقَر البطون، وتُحْرَق الجثث وتُغْتَصَب العذارى باسم الثأر للحسين، ومع كل مُحَرَّم تزداد جرأة وشراسة الرافضة على أهل السنة؛ حتى يعلم الجميع أن شعائر عاشوراء إنما هي في الحقيقة حِقَن لشحْن نفوس الأتباع ضدَّ أهل السنة والجماعة.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي