إن الحسرة لتقطع قلوبنا، ونحن نرى أحوال الغالبية منا، لا يظهر منها الخوف من الموت ومن سوء العاقبة، أعمالها أعمال من كتب لها الخلود في هذه الحياة، أو من بُشِّرت بحسن العاقبة في الآخرة!.
الحمد لله الذي له العزة والبقاء، أحمده سبحانه وأشكره حمداً وشكراً تنال به الكرامة في دار البقاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وأفعاله وفي صفاته اللائقة به والأسماء، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله سيد المرسلين وخاتم النبيين وإمام الأتقياء، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أهل الصدق والوفاء، وعلى من اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وراقبوه في العلانية والخفاء، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، قال سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل [عمران:102].
عباد الله الموت حق كتبه الله على كل نفس، فكل نفس ذائقة الموت ثم المرجع إلى الله جل في علاه، قال سبحانه (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [العنكبوت:57]، ومن حكمة الله عز وجل أنه أخفى ساعة الموت وزمانه على عباده، فلا تعلم نفس متى تموت وبأي سبب تموت وفي أي مكان تموت، قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [ لقمان:34].
قال أحدهم:
فما تزوَّدَ مما كان يجمعُه *** سوى حنوط غداة البين معْ خِرَقِ
وغير نفحة أعواد تشبّ له *** وقَـلَّ ذلك من زاد لمنطلـِــق
لا تأسيَنَّ على شيء فكل فتىً *** إلى منيتـه سيــار في عنُـق
وكل من ظن أن الموت يخطئه *** معلّلٌ بأعاليلٍ من الحمَــق
بأيّما بلــدة تقضى منيتـه *** إنْ لا يسير إليها طائعاً يُسَق
وما ذاك إلا من أجل أن يستعد المؤمن للموت في كل لحظة من لحظات حياته، فلا يجعل ساعة واحدة أو دقيقة واحدة تذهب في غير ما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولا يجعل وقته يذهب عليه سُدى، بل إنه ينتظر داعي الله في كل لحظة، فلا يأتيه الداعي إلا وهو مستعد له تمام الاستعداد، فلا وقت عنده للهو المحرم واللعب الآثم، لأنه لا يدري متى يطرق الداعي بابه عليه، فهو يرى بأم عينيه، ويسمع بأذنيه، من فجأه الموت وهو صحيح قوي لا يشتكي من علة، قد غفل عن ذكر الموت، ولم يخطر على باله، ظانا أن الموت لا يأتي إلا أهل العلل والأسقام، أو كبار السن متقدمي الأعوام، أو من يتعرضون للمخاطر والمهالك، ونسي أن الموت يأتي أهل الصحة والنشاط، كما قيل:
فكم من صحيح مات من غير علة
وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
ونسي أو تناسى أن الموت يأتي الشباب والأطفال، فكم من شاب وأطفال ماتوا، ونسي أو تناسى أن الموت أتى كثيراً من الناس وهم على فرشهم لم يتعرضوا للمخاطر والمهالك، إن من أشد الأمور وقعا على الناس، أن يأتي الموت قريبهم فجأة وهو سليم صحيح نشيط قوي، ما خطر على بالهم موته، قطع على الميت لذاته، وحال بينه وبين شهواته، فالعاقل اللبيب والحازم الأريب، من يستعد للموت قبل نزوله، فتكون جميع أوقاته في طاعة ربه وخالقه وإلهه، ومصلحا لأفعاله وأقواله، حتى إذا جاءه الموت ونزل به، يكون قد أحسن العمل وأتقنه، فلا غرو عباد الله، أن يأتي من البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما فيه توجيه لنا بأن نكون على استعداد تام للموت قبل نزوله بنا.
وأريد منكم عباد الله أن تصغوا لبعض النصوص التي فيها هذا التوجيه، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله عظني وأوجز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قمت في صلاتك فصلّ صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه غداً، وأجمع اليأس مما في أيدي الناس".
فتأملوا قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع"، أي اجعل هذه الدنيا الصلاة التي تؤديها، كأنها هي آخر صلاة تصليها في الدنيا، ولن تصلي بعدها شيئاً، فقد تفجؤك المنية فيها أو بعدها، وهذا الشعور عباد الله يدعو كل واحد منا، إلى أن يكمل صلاته ويجتهد في إيقاعها على أحسن الأحوال، وذلك بأن يحاسب نفسه على كل صلاة يصليها وأن يتم جميع ما فيها من واجب وفرض وسنة، وأن يتحقق بمقام الإحسان الذي هو أعلى المقامات، بأن يستحضر –وهو فيها- أنه واقف بين يدي ربه وأنه يناجيه بما يقوله من قرآن وذكر ودعاء، ويخضع له في قيامه وركوعه وسجوده، ويستحضر في كل صلاة أنها صلاة مودع كأنه لا يصلي غيرها.
فهذا عباد الله توجيه وإرشاد، من نبي الهدى والرشاد، بالاستعداد لهادم اللذات قبل نزوله بنا، فأين الذين هم للصلاة تاركون، والذين هم عن الموت غافلون، والذين هم في معصية الله واقعون، عن هذا التوجيه الكريم.
وأخرج أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" فهذا توجيه من الرسول عليه الصلاة والسلام لكل فرد من أمته أن يحرص على أن يكون آخر كلامه هذه الشهادة العظيمة شهادة التوحيد مع الشهادة له عليه الصلاة والسلام بالرسالة، وهذا يدعونا إلى أن نكثر من هذه الشهادة وأن تكون على بالنا لأننا لا ندري متى يأتينا الموت، فنحرص أن لا يأتينا إلا وألسنتنا تلهج بهذه الشهادة العظيمة المنجية.
وأخرج الترمذي في سننه والإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن يسر: أن رجلا قال يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به –أي أتعلق به- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله". وهذا حث على الإكثار من ذكر الله في الصباح والمساء في القيام والقعود في حال الجلوس وفي حال الاضطجاع، حتى إذا جاءك الموت، تكون ذاكراً لله عز وجل، فأين أهل الغفلة من هذا، أين الذين ألسنتهم رطبة بقول السوء والفحش ليلهم ونهارهم –والعياذ بالله- ألا يخشون من أن يأتيهم الموت بغتة وهم على هذه الحال قد ختموا حياتهم بقول الفحش والسوء، كم سمعنا عن أناس جاءهم الموت وهم على معصية وسوء، -نسأل الله حسن الخاتمة، ونعوذ بالله من سوء العاقبة- أفلا نعتبر ونتعظ، وننقذ أنفسنا من سوء العاقبة، قبل أن يفجأنا الموت، إن الحسرة لتقطع قلوبنا، ونحن نرى أحوال الغالبية منا، لا يظهر منها الخوف من الموت ومن سوء العاقبة، أعمالها أعمال من كتب لها الخلود في هذه الحياة، أو من بُشِّرت بحسن العاقبة في الآخرة، فنسأل الله سبحانه أن يوقظنا من سِنَة الغفلة، وأن يرزقنا الاستعداد للموت قبل نزوله، وأن يختم لنا بالسعادة، ويرزقنا الحسنى وزيادة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بعد المقدمة: عباد الله! أخرج الشيخان في صحيحيهما، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن متّ من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به"
تأملوا –عباد الله- قوله عليه الصلاة والسلام: "واجعلهن آخر ما تتكلم به". لأن الإنسان لا يدري فلعل هذه الليلة هي الليلة الأخيرة له في الدنيا، فإذا مات من ليلته يموت على التوحيد، لأن آخر ما تكلم به هو الشهادتين، فهل نحن عباد الله على ذكر وانتباه من هذا الدعاء العظيم وهذا الذكر الجليل، قبل النوم وإسلام النفس لخالقها، أكثرنا ليس كذلك، بل ينام دون أن يذكر الله عز وجل بالأذكار التي شرعت قبل النوم، وينام على غير الوضع الذي أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من هدي السلف الصالح، بل هو من هدي أهل الغفلة والصدود، فلنكن عباد الله على استعداد للآخرة بما ينفعنا فيها يوم نلقى الله عز وجل.
وأخيرا: تعلمون عباد الله ما يتعرض له إخواننا المسلمون في كوسوفا، صغاراً وكباراً شباباً وشيباً ذكوراً ونساءً، على أيدي الصرب الكافرين وأعوانهم، من قتل وتشريد، وتمثيل وتمزيق، وغصْب وهتك أعراض، وصد عن دين الله، وتنصير وتهويد، حتى فارق أغلب المسلمين بلادهم، هائمين على وجوههم حيث الجوع والعطش، والبرد والعراء، وحيث المستقبل المجهول، فقامت هذه الدولة مشكورة بمساعدة هؤلاء المشردين المنكوبين، بالمال والأدوية وجميع مستلزمات الحياة، فأدعوكم عباد الله إلى المساهمة في هذا السبيل الخير، بأن تبذلوا من أموالكم ما تخففون به من وطأة الذل والألم على إخوانكم المسلمين، وما تنفقوا من نفقة صغيرة ولا كبيرة، فهي عند الله بمكان، وسوف تجدون على الأبواب من يقبض منكم نفقاتكم وهم من منسوبي اللجنة السعودية المشتركة لإغاثة شعب كوسوفا، ألا وصلوا وسلموا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي