سبحان الله، ما الذي تغيّر؟! هل لهم كتاب غير كتابنا؟! أم أرواح غير أرواحنا؟! أم لهم أرض غير أرضنا؟! لا والله، لكن قلوبنا تغيرت، ونفوسنا أمِنَتْ، وأجسادنا تنعّمت، غيرتها الذنوب، وقيدتها المعاصي، حتى أصبحنا لا نرى هذه الصور الإيمانية، ولا النفوس القرآنية، أين إخبات الصالحين؟! أين خشوع المؤمنين؟! أين دموع التائبين؟! أو أنين الخائفين؟!...
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: إن النفوس البشرية يصيبها الملل والسآمة والفتور، لكن ما أن يحدوها الحادي، ويذكِّرها الذاكر سِيَرَ أولئك الأفذاذ، الأتقياء الصالحين الناسكين، إلا وتنشط ويبدأ عملها من جديد، فإذا الفتور يصبح حماسًا والكلل يصير عملاً، ولذلك قال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-: "سِيَر الصالحين أحب إلينا من كثير من الفقه"؛ فما أحوجنا لسِيَر الصالحين وآدابهم، واتباع سيرهم، والاقتداء بسمتهم ودلّهم.
واليوم نتحدث عن سيد من سادات التابعين -وكلهم سادة-، إنه علم من أعلام الصالحين، وإمام من أئمتهم، ورجل من رجالتهم، ما أن يذكر اسمه إلا ويذكر الزهد، وما أن يذكر الزهد إلا ويذكر اسمه. قال عنه الإمام الذهبي -رحمه الله-: "كان سيد أهل زمانه علماً وعملاً"؛ فمن هو هذا الجبل يا ترى؟! إنه الحسن البصري -رحمه الله-.
كان أبوه عبدًا من سبي ميسان بالعراق، ومولى لزيد بن ثابت الأنصاري -رضي الله عنه-، فأبوه عبد من العبيد، والابن سيد من سادات التابعين، إنه دين الله، ذلك الذي يرفع الله به مكانة الرجل أو يضعها، تلك هي المعايير التي كان يقاس بها الرجال، لا النسب ولا الحسب ولا المال ولا الجاه، إنه الدين: (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة:11].
لقد كانت حياته تطبيقًا عمليًّا لما يقول وينصح به الناس، إن الذي رفع قدر الحسن هو عمله بعلمه وليس علمه فقط، كان على درجة من الفطنة والذكاء، والخشية والإنابة والعقل والورع، والزهد والتقوى، ما جعله يشبه الصحابة الكرام، بل قال عنه علي بن زيد: "لو أدرك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وله مثل أسنانهم ما تقدّموه".
كان -رحمه الله- عالمًا عاليًا رفيعًا، فقيهًا ثقة مأمونًا، عابدًا ناسكًا، كبير العلم فصيحًا، جميلاً وسيمًا. قال عنه أحد الصحابة: "لو أدرك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لاحتاجوا إلى رأيه".
كانت أمه خيرة مولاة لأم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان مولده قبل نهاية خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بسنتين، وكانت أمه تخرج إلى السوق أحيانًا، فتدعه عند أم سلمة، فيصيح جوعًا، فتلقمه أم سلمة ثديها لتعلله به، إلى أن تجيء أمه، وإذا برحمة الله تنزل على الثدي، فيدر لبنًا، فيرضع الطفل حتى يرتوي، فإذا هو يرتوي حكمة وفصاحة وتقى؛ فما أن شب إلا وينابيع الحكمة تنبع من لسانه، وجمال الأسلوب ورصانة العبارة وفصاحة اللسان تتحدر من كلامه.
الإمام الحسن البصري نشأ في المدينة النبوية، وحفظ القرآن في خلافة عثمان، وكانت أمه -وهو صغير- تخرجه إلى الصحابة فيدعون له، وكان في جملة من دعا له عمر بن الخطاب، فقال: "اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس". فكان الحسن بعدها فقيهًا، وأعطاه الله فهمًا ثابتًا لكتابه، وجعله محبوبًا إلى الناس.
لازم أبا هريرة وأنس بن مالك، وحفظ عنهما أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان كلما سمع حديثًا عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ازداد إيمانًا وخوفًا من الله، إلى أن أصبح من نسّاك التابعين ومن أئمتهم، ومن وعاظهم ودعاتهم، وصار يُرجع إليه في مشكلات المسائل، وفيما اختلف فيه العلماء؛ فهذا أنس بن مالك -رضي الله عنه-، سُئل عن مسألة فقال: "سلوا مولانا الحسن"، قالوا: يا أبا حمزة: نسألك وتقول: سلوا الحسن؟! قال: "سلوا مولانا الحسن، فإنه سمع وسمعنا، فحفظ ونسينا".
وقال قتادة: "وما جالست رجلاً فقيهًا إلا رأيت فضل الحسن عليه".
وكان الحسن مهيبًا يهابه العلماء قبل العامة؛ قال أيوب السختياني: "كان الرجل يجالس الحسن ثلاث سنين ما يسأله عن مسألة؛ هيبة منه".
وكان الحسن البصري إلى الطول أقرب، قوي الجسم، حسن المنظر، جميل الطلعة. قال عاصم الأحول: قلت للشعبي: لك حاجة؟! قال: نعم، إذا أتيت البصرة فأقرئ الحسن مني السلام، قلت: ما أعرفه، قال: إذا دخلت البصرة فانظر إلى أجمل رجل تراه في عينيك، وأهيبه في صدرك، فأقرئه مني السلام. قال: فما عدا أن دخل المسجد فرأى الحسن والناس حوله جلوس، فأتاه وسلّم عليه.
وكان الحسن صاحب خشوع وإخبات ووجل من الله، قال إبراهيم اليشكري: "ما رأيت أحدًا أطول حزنًا من الحسن، وما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة".
وقال علقمة بن مرثد: "انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، فأما الحسن البصري فما رأينا أحدًا من الناس كان أطول حزنًا منه".
وكان يقول -أي الحسن-: "نضحك ولا ندري لعل الله قد اطّلع على بعض أعمالنا فقال: لا أقبل منكم شيئًا، ويحك يا ابن آدم، هل لك بمحاربة الله طاقة؟! إن من عصى الله فقد حاربه، والله لقد أدركت سبعين بدريًّا، لو رأيتموهم قلتم: مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب".
قال مطر الوراق: "الحسن كأنه رجل كان في الآخرة ثم جاء يتكلم عنها وعن أهوالها، فهو يخبر عما رأي وعاين". وقال حمزة الأعمى: "وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي، فأسمع بكاءه ونحيبه، فقلت له يومًا: إنك تكثر البكاء، فقال: يا بني: ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ؟! يا بني: إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكيًا فافعل، لعله -تعالى- أن يرحمك. ثم نادى الحسن: بلغنا أن الباكي من خشية الله لا تقطر دموعه قطرة حتى تعتق رقبته من النار".
ما أطهر هذه القلوب، وما أزكى هذه النفوس، بالله عليك قل لي: هل أرواحهم خلقت من نور؟! أم اطَّلعوا على الجنة وما فيها من الحور؟! أم عايشوا النار وما فيها من الدثور؟! أم أنه الإيمان يكسى ويحمل فيكون كالنور؟! (نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)[النور:35].
سبحان الله!! ما الذي تغيّر؟! هل لهم كتاب غير كتابنا؟! أم أرواح غير أرواحنا؟! أم لهم أرض غير أرضنا؟! لا والله، لكن قلوبنا تغيرت، ونفوسنا أمِنَتْ، وأجسادنا تنعّمت، غيرتها الذنوب، وقيدتها المعاصي، حتى أصبحنا لا نرى هذه الصور الإيمانية، ولا النفوس القرآنية، أين إخبات الصالحين؟! أين خشوع المؤمنين؟! أين دموع التائبين؟! أو أنين الخائفين؟!
أيها المسلمون: كان الحسن البصري صاحب مواعظ وتذكير، ولكلامه أثر في النفوس وتحريك للقلوب. قال الأعمش: "ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها". وكان أبو جعفر الباقي إذا ذكره يقول: "ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء".
ومن كلامه -رحمه الله-: "إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة، رجاء الرحمة، حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة".
وقال له رجل: إن قومًا يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلاً -أي يتصيدون الأخطاء- فقال: "هون عليك يا هذا، فإني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطمعتها في النجاة من النار فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم؛ فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم؟!".
هذه -يا عباد الله- بعض أقواله، وذاك الذي سبق ذكره عنه حاله وعمله، فانظروا -رحمني الله وإياكم- كيف تطابق القول والعمل.
أما حاله مع المال فكان يقول: "والله ما أعَزّ أحدٌ الدرهم إلا أذلّه الله". وقال بعض السلف: سمعت الحسن يقول: "بئس الرفيقان: الدينار والدرهم، لا ينفعانك حتى يفارقانك".
هذا هو الفقه والعقل والنظر السليم، فالمال لا ينفع الإنسان إلا إذا فارقه، فذهب في يد فقير محتاج لا يجد ما يسد به رمقه ورمق عياله، أو غير ذلك من المحتاجين.
فذلك المال -أيها المؤمنون- الذي ينفع صاحبه، وما سوى ذلك فيموت صاحبه ويخلفه لورثة، الله أعلم بما هم فيه عاملون.
أيها المسلمون: توفي الإمام الحسن البصري وعمره 88 سنة، ولما مات -رحمه الله- جاء رجل إلى محمد ابن سيرين فقال: مات الحسن، فترحم عليه محمد، وتغير لونه وتوقف عن الكلام، فما تكلم حتى غربت الشمس. قال الذهبي: وما عاش ابن سيرين بعد الحسن إلا مائة يوم.
ومات أول رجب، وكانت جنازته مشهودة، صلوا عليه عقيب الجمعة، فشيعه الخلق، وازدحموا عليه، حتى إن صلاة العصر لم تُقَم في الجامع.
رحمه الله رحمة واسعة، وأدخله فسيح جنانه، وجمعنا وإياه في دار كرامته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المسلمون: هذه سيرة رجل من رجالات هذه الأمة، وما أكثرهم، وإمام من أئمتها، وما أعظمهم، جبل من جبالها، ومنارة من مناراتها، أضاءت به الدنيا حينًا، وارتوت من معين علمه وخلقه ودينه؛ فلله كم لهذه الأمة من قمم شامخة فأين المقتدون؟! ولله كم لهذه الأمة من منارات هدى فأين المهتدون؟!
لكن البلاء -معاشر المؤمنين- أننا ما عدنا نعرف القدوة الصالحة من القدوة السيئة، وما عدنا نفرق بين البطولة والبطالة، إننا اليوم نعيش أزمة قدوات، لكنها -والله- أزمة مفتعلة، ننظر إلى قدوات ما هي إلا سراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، أما القدوات الحقيقية التي تستحق النظر والتأسي فهي حبيسة التعتيم والتجهيل، وأما تلك القدوات السيئة فإنها تُفرض على هذه الأمة على أنها القدوة التي تستحق التقدير والإجلال؛ من فنان فاسق، أو لاعب كرة أو مغن ماجن، وهكذا ..
نعم؛ تلك هي قدوات شبابنا اليوم، وليت الأمر وقف عند قائمة من المسلمين، بل لقد تعدى ذلك لتصبح القدوة من بلاد الكفرة أعداء الدين.
لماذا يعرف اليوم شبابنا الكثير عن سيرة لاعبي الكرة، والكثير عن سيرة من يسمون بالفنانين والفنانات، والمغنين والمغنيات، الأحياء منهم والأموات، وتراهم يجهلون الكثير من رجالات هذه الأمة من العلماء العاملين والدعاة الناصحين، بل ومن الصحابة والتابعين، يجهلون سيرتهم وبطولاتهم، وما قدموه لهذا الدين من تضحيات، بل ويجهلون أسماء الكثير منهم؟!.
إن هذا الفصام النكد الذي تعيشه الأمة بين ماضيها وحاضرها، وبين رجال الأمس ورجال اليوم، سبب كبير -ضمن أسباب أخرى- أدت إلى ضعف الأمة الإسلامية، وضياع مجدها وعزها السابق.
نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي