مالك رحمه الله

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. تأملات في نشأة الإمام مالك رحمه الله .
  2. أثر مدينة رسول الله على شخصيته .
  3. منهج الإمام مالك في الفتيا .
  4. ورع الإمام مالك وزهده وخشيته .
  5. من مواعظ الإمام مالك .
  6. وفاة الإمام مالك .

اقتباس

لقد صبغت هذه الكلمة حياة مالك حقيقة لا قولاً، وواقعًا لا خيالاً، فغدا مدرسة في الأدب ينهل طلابه من هيئته وسمته، وتقتبس الأمة من سيرته. قال مالك لفتى من قريش: "يا ابن أخي، تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم"، وقال ابن وهب: "الذي تعلمنا من أدب مالك أكثر مما تعلمناه...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: الحديث عن العظماء من العلماء ليس أمرًا سهلاً، فمهما اجتهدت لتستوعب حياة أحدهم فسيعجز قلمك، ويقصر علمك، بل قد يغيب عنك الأهم دلالة والأبلغ تأثيرًا.

سيرة العظماء من العلماء الأوائل هي القدوة المثلى، وإبرازها؛ تحفيز لفتياننا وفتياتنا للإفادة منها، ولئلا يلتفتوا لقدوات هزيلة هابطة لا وزن لها في الحياة ولا قيمة لها في التاريخ، وحديثنا عن العلماء ليس تعصبًا لأحد منهم، فكل إنسان يُؤخذ منه ويُردّ إلا المعصوم.

عظيمنا إمامٌ نشأ في طيبة الطيبة، ونهل من معينها، وارتفع ذكره، وملأ الأرض علمه، جلس للتدريس في جنبات هذا المسجد النبوي الشريف حتى إذا قيل: "عالم المدينة أو إمام دار الهجرة لا ينصرف إلا إليه".

وُلد الإمام مالك بن أنس في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونشأ محبًا للعلم مغترفًا منه، على الرغم من فقره وقلة حاله. أمُّ الإمام مالك أحسنت توجيه ابنها، فقالت له: "اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه"، هذه المرأة عرفت دورها في الحياة، ورسالتها في التربية وإعداد الجيل، وأن الأدب قرين العلم، ولا قيمة للعلم بلا أدب، والأدب في ابتداء العلم وأثناء العلم، فصنعت هذه المرأة رجلاً صنع أمة.

ليست مهمة الأم تغذيةَ الجسد والعمل على وقايته من الأمراض فحسب، بل رسالتها أجلُّ وأكبر وأعظم.. رسالتها تقوية الإيمان، وبناء الشخصية، وتنمية العقل، وحفز الهمم نحو المعالي، ولن تبلغ ذلك حتى تذوي كل الهموم الدنيوية أمام هم التربية الأكبر.

لقد صبغت هذه الكلمة حياة مالك حقيقة لا قولاً، وواقعًا لا خيالاً، فغدا مدرسة في الأدب ينهل طلابه من هيئته وسمته، وتقتبس الأمة من سيرته. قال مالك لفتى من قريش: "يا ابن أخي، تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم"، وقال ابن وهب: "الذي تعلمنا من أدب مالك أكثر مما تعلمناه من علمه"، وقد تعلموا منه علمًا كثيرًا. وقال يحيى بن يحيى التميمي: "أقمت عند مالك بن أنس بعد كمال سماعي منه سنة أتعلم هيئته وشمائله؛ فإنها شمائل الصحابة والتابعين".

وإذا فُصل بين العلم والأدب فمهما كان المخزون العلمي والثراء المعرفي فإنك واجد ضعفًا شديدًا في أثر العلم على الأخلاق والسلوك، وتزكية الأعمال وصلاح القلوب؛ ولا خير في علم امرئ لم يُكسبه أدبًا ويُهذبه خُلقًا.

الجفوة بين العلم والأدب تفرز أعراضًا مرضية، منها: التهجم على العلماء، والتطاول على الفضلاء، وسوء الأخلاق، وشذوذ السلوك، وعقوق الوالدين، والتقليد الأعمى في الهيئة واللباس، مع اعتداء على المعلمين والمربين بالأقوال والأفعال.

أيها المسلمون: كان لطيبة الطيبة أثر ملموس في بناء شخصية الإمام مالك، فقد كانت تعج بالعلماء والتابعين، تحتضنهم الجامعة الكبرى، والمدرسة الأولى؛ مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، على رأس كل حلقة من حلقات العلم في هذا المسجد النبوي يجلس عالم، وعلى الذين يرومون تربية صالحة لأبنائهم توفير محاضن آمنة دينًا صالحة خلقًا؛ لينشأ الفتى نقي السيرة سليم السريرة.

ومن نافلة القول: إن البيئة السيئة تهدم ولا تبني، ماذا يبقى بعد أن يُلقن الابن صباحًا القيم الإسلامية، ثم يأوي مساءً إلى جلساء السوء يفسدون ما أصلحه الوالدان؟! وماذا يبقى بعد أن يُلقن الولد الأدب لسنوات ثم يحمله والداه إلى أجواء ملوثة في دول لا تدين بالإسلام وهو ما زال غضًا طريًا؛ لتُنخَر عقيدته، ويضعف إيمانه وتزلزل قيمه وأخلاقه؟!.

عباد الله: لم يجلس الإمام مالك للفتيا حتى شهد له سبعون شيخًا من أهل العلم أنه أهل لذلك، وفرق بين من يزكي نفسه ويصدِّرها ومن يصدره أهل العلم والفضل، يقول الإمام مالك: "وليس كل من أحبّ أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل؛ فإن رأوه أهلاً لذلك جلس، وما جلستُ حتى شهد لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني موضع لذلك".

وقد وضع الإمام مالك -رحمه الله- منهجًا وسطًا بين من يتعصب للأئمة ويقلد تقليدًا أعمى، ويرفض الأدلة الصحيحة، وبين من يرفض أقوال الأئمة الأعلام ويقول: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا رأيي فما وافق السنة فخذوا به". ويقول: "هم رجال ونحن رجال، وشتان ما بين رجال ورجال، شتان ما بين رجال خلد الله ذكرهم على مر القرون وهم أموات، ورجال لا وزن لهم ولا ذكر وهم أحياء، أولئك تحيا القلوب بذكرهم، وهؤلاء تموت القلوب بمجالستهم".

كتب إلى الإمام مالك أحد عُبّاد عصره يحضه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك -رحمه الله-: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، وآخر فتح له في العلم، ونشرُ العلم من أفضل الأعمال، وقد رضيت بما فُتِح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر". انتهى كلامه.

فأصحاب الصدقات والعباد والزهاد على خير، والباذلون في سبيل الله أوقاتهم والمنفقون أموالهم على خير، والوعاظ والدعاة والعلماء والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر على خير، والذين يخدمون الدين بتخصصاتهم العلمية وشهاداتهم العالمية كلهم على خير إن أخلصوا النية لله رب العالمين لا شريك له، وفي الأمة أفراد يملكون قدرات عظيمة ومواهب فذة لو سخروها واستثمروها لنفع مجتمعهم وخدمة أمتهم لكان لهم ولها شأن آخر.

كان مالك إذا سئل عن المسألة قال للسائل: "انصرف حتى أنظر فيها"، فينصرف ويتردد فيها، فقلنا له في ذلك، فبكى وقال: "إني أخاف أن يكون لي من السائل يوم وأي يوم".

سأله رجل من أهل المغرب عن مسألة كلفه بها أهل المغرب أن يسأل الإمام مالكًا، فكان جواب الإمام مالك: "لا أدري، ما ابتلينا بهذه المسألة في بلدنا، وما سمعنا أحدًا من أشياخنا تكلم فيها، ولكن تعود"، وفي اليوم التالي عاد الرجل فقال له الإمام مالك: "سألتني وما أدري ما هي"، فقال الرجل: يا أبا عبد الله، تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك فقال الإمام مالك: "لا أحسن".

وسأله أحدهم عن مسألة وطلب وقتًا للنظر فيها، فقال السائل: هذه مسألة خفيفة، فرد الإمام مالك: "ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله -تعالى-: (إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)[المزمل:5]؟!"، وقال بعضهم: "لكأنما مالك -والله- إذا سُئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار".

هؤلاء العلماء الذين ملئوا الدنيا بعلمهم وعملهم، يقول أحدهم أحيانًا: "لا أدري"، وإنك لتعجب أشد العجب من أقوام ليس لهم حظ يذكر من العلم الشرعي يؤهلهم للفتيا، ثم يتقحمون حمى الشريعة فيخوضون تحليلاً وتحريمًا، وقد تُطرح مسألة شرعية في منتدى أو مجلس فلا ينقضي المجلس حتى يُفتي الجميع على اختلاف فئاتهم وتخصصاتهم، هذا يقول: في ظني، وذلك: في اعتقادي، وآخر يجزم بالتحليل والتحريم، فسبحانك ربي هل غدا التحليل والتحريم والتوقيع عن رب العالمين مرتعًا للجهل والظنون والأوهام؟!.

لو خرج إلى الناس مهندس فأخذ يمارس الطب ويصف الدواء للمرضى، ماذا تقولون عنه؟! وبم تصفونه؟! وما مصيره؟! فكيف بمن يتقحم حمى الشريعة ويسوِّد صفحات الكتب والصحف بالتحليل والتحريم، وهو ليس من أهل الشريعة، فضلاً عن أن يكون من أهل الفتيا، خاصة في نوازل الأمة التي لو نزلت على عُمر لجمع لها أهل بدر؟!.

لقد غدت الفتوى في عصرنا الحاضر مجالاً فسيحًا يتسابق فيه من يريد الشهرة أو من يلتمس رضى الناس بسخط الله.

إن على الأمة أن تكِل النظر في مسائل العلم إلى أهله من العلماء العاملين، ويعطوا القوس باريها، وأن لا يدخلوا فيما لا يُحسنون في أي مسألة من الحلال والحرام؛ لأن هذا قطع في حكم الله، يقول مالك -رحمه الله-: "من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب".

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

عباد الله: قد ينقدح في بعض الأذهان أن هؤلاء الأئمة العلماء لا يجيدون إلا مسائل الخلاف، ومناقشة الأقوال العلمية، وتخلو مجالسهم من أحاديث الوعظ والرقائق التي تلامس شغاف القَلوب وتذكر الجنة والنار.

ولإبراز شمول حِلقهم لشتى فنون العلم نشنِّف الآذان بموعظة بليغة يذكِّر فيها الإمام مالك -رحمه الله- أخًا له في الله فيقول: "ذكِّر نفسك غمرات الموت وكُربه، وما هو نازل به منك، وما أنت موقوف عليه بعد الموت من العرض على الله، ثم الحساب، ثم الخلود بعد الحساب إلى الجنة أو إلى النار، وأعِدَّ له ما يسهل عنك به عنت أهوال تلك المشاهد وكربها، فإنك لو رأيت أهل سخط الله وما صاروا إليه من أهوال العذاب وشدة نقمة الله وسمعت زفيرهم في النار وشهيقهم مع كلوح وجوههم لا يبصرون ولا يتكلمون.. يدعون بالثبور، وأعظم من ذلك حسرة إعراض الله -تعالى- عنهم بوجهه، وانقطاع رجائهم في إجابته إياهم حيث: (قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ)[المؤمنون:108]".

مرض الإمام مالك اثنين وعشرين يومًا، وبلغ من عمره حين وفاته سبعًا وثمانين سنة، وقيل: بلغ تسعين سنة، وعن ابن نافع: توفي مالك وهو ابن سبع وثمانين سنة، وأقام مُفتياً بالمدينة بين أظهرهم ستين سنة، رحم الله مالكًا فقد كان يقول: "أدركت ناسًا بالمدينة لم تكن لهم عيوب، فتكلموا في عيوب الناس فأحدث الناس لهم عيوبًا، وأدركت ناسًا بالمدينة كانت لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس فسكت الناس عن عيوبهم".

هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي