التَّعَلُّقُ بِالآخِرَةِ يَحُثُّ عَلَى الاسْتِكْثَارِ مِنَ الْحَسَنَاتِ؛ لأَنَّهَا هِيَ الادِّخَارُ الصَّحِيحُ؛ فَالتَّسْبِيحُ غِرَاسُ الْجَنَّةِ، وَمَنْ صَلَّى السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَكَفَالَةُ الأَيْتَامِ وَالسِّعَايَةُ عَلَى الأَرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ سَبَبٌ لِمُرَافَقَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَلَّمْتُ، فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رَمْلِ حَصِيرٍ ثُمَّ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فِي الْبَيْتِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إِلا أُهَبَةً ثَلاثًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْكَ، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لا يَعْبُدُونَ اللَّهَ –تَعَالَى-؟ قَالَ: فَاسْتَوَى جَالِسًا، فَقَالَ: "أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا" فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ تَوْجِيهٌ كَرِيمٌ مِنْ نَبِيِّ الهُدَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالتَّعَلُّقِ بِالآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الاِغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا الْفَانِيَةِ!
وَلاَ يَتِمُّ وَلاَ يَسْتَقِيمُ هَذَا إِلاَّ بِأَمْرَيْنِ مُهِمَّيْنِ: الأَمْرُ الأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا بِسُرْعَةِ زَوَالِهَا، وَفَنَائِهَا، وَأَلَمِ الْمُزَاحَمَةِ فِيهَا وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغُصَصِ وَالأَنْكَادِ فِيهَا، وَآخِرُ ذَلِكَ الزَّوَالُ وَالاِنْقِطَاعُ، مَعَ مَا يَعْقُبُ مِنَ الْحَسْرَةِ وَالأَسَفِ، فَطَالِبُهَا لاَ يَنْفَكُّ مِنْ هَمٍّ قَبْلَ حُصُولِهَا، وَهَمٍّ فِي حَالِ الظَّفَرِ بِهَا، وَغَمِّ الْحُزْنِ بَعْدَ فَوَاتِهَا، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس: 24]، وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ أَخِي بَنِي فِهْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسلّم-: "مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَا يَرْجِعُ".
الأَمْرُ الثَّانِي: النَّظَرُ فِي الآخِرَةِ وَإِقْبَالِهَا وَمَجِيئِهَا وَلاَ بُدَّ، وَدَوَامِهَا وَبَقَائِهَا وَشَرَفِ مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالْمَسَرَّاتِ، فَهِيَ كَمَا قَالَ تَعَالى: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى: 17]، وَلِذَلِكَ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: "اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَةِ".
وَكَانَ السَّلَفُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَمْلِكُونَ أَشْيَاءَ مِنَ الدُّنْيَا وَيَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ، وَلَكِنَّ الدُّنْيَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَالآخِرَةَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا عَلَى خِلاَفِ كَثِيرٍ مِنَّا الْيَوْمَ الَّذِينَ مَلئُوا قُلُوبَهُمْ بِأَعْرَاضِ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَمَشَاكِلِهَا وَشَهَوَاتِهَا وَأَطْمَاعِهَا، فَأَصْبَحَ هَمُّ الآخِرَةِ فِي قُلُوبِهِمْ ضَعِيفًا.
فَالتَّعَلُّقُ بِالآخِرَةِ يَحُثُّ عَلَى الاسْتِكْثَارِ مِنَ الْحَسَنَاتِ؛ لأَنَّهَا هِيَ الادِّخَارُ الصَّحِيحُ؛ فَالتَّسْبِيحُ غِرَاسُ الْجَنَّةِ، وَمَنْ صَلَّى السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَكَفَالَةُ الأَيْتَامِ وَالسِّعَايَةُ عَلَى الأَرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ سَبَبٌ لِمُرَافَقَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْجَنَّةِ.
وَالتَّعَلُّقُ بِالآخِرَةِ وَبِعَيْشِهَا يَنْهَاكَ عَنِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ سَوَاءً فِي الدِّمَاءِ أَوِ الأَعْرَاضِ أَوِ الأَمْوَالِ؛ لأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَضُرُّ الْعَبْدَ عِنْدَمَا يَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَأْكُلُ مَا جَمَعَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ فِي الدُّنْيَا.
وَالتَّعَلُّقُ بِالآخِرَة وَبِعَيْشِهَا يَجْعَلُ الْعَبْدَ لاَ يَتَحَسَّرُ عَلَى مَا يَرَى عَلَيْهِ أَهْلَ الثَّرَاءِ ومُتْعَةِ الدُّنْيَا مِنْ نَعِيمٍ؛ لأَنَّهُ زَائِلٌ وَمَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا)[طـه: 131]، بَلْ وَلاَ يَغْتَرُّ بِمَا يَرَى عَلَيْهِ أُمَمَ الْكُفْرِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَانْفِتَاحِهَا عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ؛ لأَنَّ اللهَ جَعَلَ جَنَّتَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ، قَالَ تَعَالَى: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)[آل عمران: 196-197]
وَهَذَا الْمَتَاعُ الَّذِي تَروْنَ عَلَيْهِ أُمَمَ الْكُفْرِ الْيَوْمَ لَيْسَ جَدِيدًا، بَلْ هُوَ مَعْرُوفٌ مِنَ الْقَدِيمِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ فَارِسَ وَالرُّومِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالآخِرَةِ وَبِعَيْشِهَا: انْضِبَاطُ أَمْرِ الْغَيْرَةِ بِحَيْثُ لاَ يَغَارُ إِلاَّ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ! وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْتَصِرِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِنَفْسِهِ قَطُّ، فَإِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللهِ غَضِبَ للهِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ- بِخِلاَفِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الدُّنْيَا الَّذِينَ يَجْعَلُونَ سَخَطَهُمْ وَرِضَاهُمْ مِنْ أَجْلِ الدُّنْيَا؛ إِنْ أُعْطُوا رَضُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ.
فَيَا عِبَادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَاسْعَوْا لِلآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ وَهِيَ مَرَدُّكُمْ، وَلاَ تُلْهِيَنَّكُمُ الدُّنْيَا الْفَانِيَةُ, فَإِنَّهَا مَتَاعُ الْغُرُورِ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآيَاتِ وَالْحِكْمَةِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْمُتَعَلِّقُونَ بِالآخِرَةِ هُمُ السَّابِقُونَ فِي الدُّنْيَا إِلَى الإِيمَانِ وَالأَعْمَالِ وَالْخَيْرَاتِ، وَهُمُ السَّابِقُونَ فِي الآخِرَةِ لِدُخُولِ الْجَنَّاتِ، وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللهِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُعْطُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنْ كُلِّ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَةٍ وَزَكَاةٍ، وَصِيَامٍ وَحَجٍّ، وَطَاعَاتٍ، وَأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، وَمَعَ هَذَا قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ وَخَائِفَةٌ عِنْدَ عَرْضِ أَعْمَالِهَا عَلَى رَبِّهَا، وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ، خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُم مَرْدُودَةً عَلَيْهِمْ.
فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- وَاعْلَمُوا أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةٌ لِلآخِرَةِ؛ فَالسَّعِيدُ مَنْ زَهِدَ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَأَشْغَلَ جَوَارِحَهُ بِمُرَاقَبَةِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، وَأَلْزَمَ نَفْسَهُ الاتِّعَاظَ وَالاِدِّكَارَ، وَدَأَبَ فِي طَاعَةِ الأَوَامِرِ وَالاسْتِجَابَةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ تَغَايُرِ الأَحْوَالِ وَالأَطْوَارِ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي