المساجد ينتابها فئامٌ من الناس، ويرتادها أشكالٌ وأجناس مختلفون في أعمارهم متفاوتون في بُلدانهم مفترقون في ثقافاتهم، متنوعون في مذاهبهم وأخلاقهم وطباعهم وأسنانهم؛ لذا وجب القيام بحق المصلي وتجنّب الخطأ الجلي، والقيام بذلك من أعظم أسباب الخشوع والسكون والراحة والطمأنينة وحُسن أداء هذه العبادة.
الحمد لله؛ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[الفاتحة:2-4]، جعل حقوقًا للمصلين على المصلين، وأشهد أن لا إله إلا الله أكرمَ المصلين بما لهم من الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبَّه المصلين بحقوق المصلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون! اصبروا وصابروا، ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، استعدوا لما أمامكم غدًا يوم تُوفَّى النفوس ما عملت، ويحصد الزارعون ما زرعوا إن أحسنوا؛ أحسنوا لأنفسهم، وإن أساؤوا فبئس ما عملوا.
أيها المسلمون: المسلم الحق هو الذي يقوم بالحق للحق وحقوق الخلق، المسلم هو الذي يؤدي ما يُطلَب منه كما يُحب أن يؤتى إليه فيؤدي حقوق الناس كما أمَر بها إله الناس، ومن هذه الحقوق حقٌ عظيم له أهميته وقَلَّ من يتفطن له ويتنبَّه لذكره وهو حقٌّ تلابسه وتُمارسه في اليوم والليلة، وهو حق المصلين على المصلين.
المصلون يجتمعون في صلواتهم يوميًا خمس مرات؛ فلبعضهم على بعضٍ حقوق، فمعنا الحلقة الأولى الحقوق –أيها المسلمون- قسمتها ثلاثة:
– حقوق المصلين على المصلين.
– حقوق المصلين على الإمام.
– حقوق الإمام على المصلين.
وفي هذه العُجالة واللحظات السريعة نتناول الحق الأول وهو: حقوق المصلين على المصلين، والمعنى أن من أتى إلى المسجد وغيره ليصلي، عليه مراعاة إخوانه المصلين والأدب معهم بالأدب المتين، وبالخُلق الجميل، والسَّمت النبيل.
المساجد ينتابها فئامٌ من الناس، ويرتادها أشكالٌ وأجناس مختلفون في أعمارهم متفاوتون في بُلدانهم مفترقون في ثقافاتهم، متنوعون في مذاهبهم وأخلاقهم وطباعهم وأسنانهم؛ لذا وجب القيام بحق المصلي وتجنّب الخطأ الجلي، والقيام بذلك من أعظم أسباب الخشوع والسكون والراحة والطمأنينة وحُسن أداء هذه العبادة.
الأول من الحقوق: اجتناب الروائح الكريهة التي تؤذي المصلين، وتُفسد عبادة الصالحين: كالدخان، والكراث، والبصل وكذا مثله وجود العرق ورائحة الخُفين؛ لطول مكثهما على الرجلين أو في النعال والجرموق والخُف.
ومن ذلك: رائحة الإبط والألبسة الداخلية مما يؤذي المصلين، وينقص بذلك خشوع المسلمين. في الصحيحين عن جابر –رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً، فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ"، وفي مسلم: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الإِنْسُ".
وفيه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهَا". قال النووي -رحمه الله-: "قال العلماء: ويلحق بالثوم والبصل والكراث كل ما له رائحةٌ كريهة من المأكولات وغيرها". انتهى.
ومن هؤلاء من يعملون في المهن ذات الرائحة: كأصحاب الأغنام والإبل والبقر، وعمال النظافة، وأصحاب الورش: كالميكانيكي ونحوها من أصحاب المهن والروائح الكريهة، فعلى هؤلاء أن يعدوا أو يُعَدّ لهم ملابس خاصة بالصلاة وثيابٌ نظيفةٌ مُطيَّبة يلبسونها إذا أرادوا الصلاة، فهؤلاء إذا تنظفوا ولبسوا أحسن ما يجدوا أدوا حق الله في الوقوف بين يديه، وأدوا حقوق إخوانهم المصلين فلا يتضرروا ولا يتأذَّوا.
وثمة مسألة: وهو أن من أكل ثومًا أو بصلاً أو شرب دخانًا أو وُجِدَ منه رائحةٌ منتنةٌ كريهةٌ هل له التخلف عن الجُمع والجماعة؟ قال الخطابي -رحمه الله-: "إنما أمره باعتزال المسجد عقوبةً له وليس هذا من باب الأعذار التي تبيح للمرء التخلف عن الجماعة: كالمطر والريح العاصف". انتهى.
وفصَّل ابن عثيمين -عليه رحمة رب العالمين- بقوله: "إن قصَد بأكل البصل ألا يصلي مع الجماعة، فهذا حرامٌ ويأثم بترك الجمعة والجماعة، وأما إذا قصد بأكله البصل التمتع به وأنه يشتهيه فليس بحرام. وأما بالنسبة لحضوره المسجد فلا يحضر لا لأنه معذور؛ بل دفعًا لأذيته؛ لأنه يؤذي الملائكة وبني آدم". انتهى.
ولا يجوز له التحايل على أكلٍ أو شربٍ أو نحو ذلك عند حضور الصلاة؛ ليتخلف عن الصلاة.
ومن حقوق المصلين على المصلين: تجنب الجشاء وهو تنفس المعدة عند الامتلاء، فبعض الناس يُكثِر التجشؤ فيؤذي جاره ومن بجواره، وكذا إخراج النخامة والبصاق، وتنظيف الأنف وإدخال الأصابع في الأنف، والبزاق والتنخم، وهذا علاوةً على أن فعله ليس من أدب الصلاة؛ فإن تركه مراعاةٌ لمشاعر المصلين وأدبٌ مع رب العالمين.
ولما تجشأ رجلٌ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ"(رواه الترمذي).
وفي البصاق قال -عليه الصلاة والسلام-: "البُزَاقُ فِي المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا" (متفقٌ عليه).
ومن أصابه ما لا يستطيع دفعه فعليه دفع الأذى قدر المستطاع كالمنديل، وخفض الصوت، وكتم الأذى.
ومن ذلك ما قاله الإمام أحمد في الجشاء: "إذا تجشأ وهو في الصلاة فليرفع رأسه إلى السماء؛ حتى تذهب الريح، فإذا لم يرفع رأسه أذى من حوله من ريحه"، وقال: "إذا تجشأ ينبغي أن يرفع وجهه إلى فوقه؛ لكيلا يخرج من فيه رائحةٌ يؤذي بها الناس".
ومن الحقوق: احترام المصلين بحسن اللباس وجماله؛ مراعاةً لهم، وحياءً منهم كأن يأتي بلباس البيت، وقميص النوم أو ملابس رياضية، أو سراويل قصيرة، أو فانيلةً علاقية، أو ألبسةً عاريةً تُبرز الفخذين وتُخرج المنكبين، أو ملابس متسخة قد سُوِّدت من طول ما لُبِست.
ومن ذلك: أن يُكثر الحركة، فعلى المصلي أن يحذر كثرة الحركة وإشغال جاره بحركاته وعبثه إما بساعته أو غُترته أو ثوبه أو أنفه أو لحيته أو شعره مما يشوش على المصلين ويؤذي عباد الله المؤمنين.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي لكم وللمؤمنين.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه كما يحب ربنا ويرضى.
ومن الحقوق: الحذر من رفع الأصوات، وكثرة الكلام وإيذاء المصلين والتشويش عليهم في صلاتهم ودعائهم، حتى ولو أن الإنسان يقرأ قرآنًا أو يذكر الله ويُسبِّحه فلا يجوز له إيذاء الجالسين والمصلين بحجة أنه يتلو الكتاب المبين.
وقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة وهو في خطبةٍ له، فكشف الستور، وقال: "إنَّ كلَّكم مُناجٍ ربَّهُ فلا يؤذِيَ بعضُكم بعضًا، ولا يرفعْنَّ بعضُكم على بعضٍ بالقراءةِ أو قالَ: في الصَّلاةِ"(رواه أحمد وأبو داود وغيرهما).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: "ليس لأحدٍ أن يجهر بالقرآن لا في الصلاة ولا في غير الصلاة إذا كان غيره يُصلي في المسجد وهو يؤذيهم بجهره"، وقال-رحمه الله-: "ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد أو فعل ما يُفضي إلى ذلك مُنِع من ذلك". انتهى.
وأعظم من ذلك ويزداد الإثم بذلك إذا كان الحديث أو الكلام في أمور الدنيا؛ سواءً الإنسان مع نفسه في هاتفه وجواله أو مع غيره، أو يفتح المقاطع حتى ولو كانت دينية، فالواجب خفض الصوت؛ لئلا يُخلِّط ويُغلِّط على مصلٍّ أو جالسٍ أو داعٍ.
ومن ذلك: خفض الصوت في العُطاس وتغطية ذلك بثوبٍ أو غُترةٍ أو شماغٍ أو منديلٍ؛ لئلا يؤذي بصوته وما يخرج من عُطاسه من فمه وأنفه.
ومن الحقوق: ما حدث في هذه الأزمان وهو وجود الهاتف الجوال، فالواجب إغلاقه وجعله صامتًا عند الدخول للمسجد وإقباله على ربه، ويزداد المرض علة إذا أشغل المصلين والجالسين بنغماته ورناته، وتعظم المصيبة أكبر إذا كانت النغمات أصواتًا موسيقية غنائية محرَّمة، فيزداد الأمر شناعةً وقبحًا وتحريمًا.
إذا كان هذا في بيوت الله، وأحب البقاع إلى الله، فالحذر من قطع الصلاة، والتشويش على المصلين، وليُغلق جواله، سرعان ما يُتصَل عليه في حينه ولا يتركه يرن حتى ينقطع اتصاله بحجة الخشوع أو كثرة الحركة.
وكذا الحذر من رفع الأصوات في المكالمات وإظهار النغمات. يقول ابن عبد البر -رحمه الله-: "إذا لم يجز للتالي المصلي رفع صوته؛ لئلا يُغلِّط ويخلِّط على مصلٍّ إلى جنبه، فالحديث في المسجد مما يخلِّط على المصلين أولى بذلك وألزم وأمنع وأحرم، وإذا نُهي المسلم عن أذى أخيه المسلم في عمل البر وتلاوة الكتاب، فأذاه في غير ذلك أشد تحريمًا". انتهى.
وليحذر المصلي والجالس من إيذاء المصلين في تقليب النظر إليهم، ومتابعة الخارجين والداخلين، فيُشغِل نفسه وغيره مما لا فائدة فيه، ويشوش على المصلين والجالسين والمنتظرين.
وكذا بعض الناس يرفع صوته وهو يصلي، فيشوش على من بجانبه ويشوش على إمامه، فتسمع همسات صوته وعبارات لفظه في القراءة والدعاء والتشهد أثناء صلاته، فسواءً التشويش من مصلٍّ لمصلٍّ أو من جالسٍ لمصلٍّ أو من مصلٍّ لجالسٍ فكِلا هذه الحالات الواجب خفض الأصوات، ومراعاة المصلين والصلاة.
ويدخل في ذلك: رفع الصوت أثناء الدخول أو حال إدراك الركعة بالتكبير والتهليل والذكر والحوقلة، أو إكمال مكالمةٍ هاتفية والمصلي يُصلي.
هذه بعض الحقوق التي على المصلين للمصلين، وللحديث بقية سيأتي ذكره بإذن الله في جمعةٍ قادمةٍ إن كان في العُمر بقية.
هذا واعلموا –عباد الله- أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيكم (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
إن طال شوقُ العالمينَ لبعضهم *** فالشوق نحوكَ لا يُحاط مداهُ
صلّى عليكَ اللهُ ما رُفِع الندا *** وتحركتْ بالباقياتِ شفاهُ
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي