تواضع للفقير والمسكين، ولا يستخفنك الشيطان تقول هذا عامل، هذا جاهل، هذا حِرفي، لا -يا أخي- كلنا عباد الله، أغنياؤنا وفقراؤنا، رؤساؤنا ومرؤوسونا، كلنا عباد الله سواء، أكرمُنا عند الله أتقانا لله، وأعظمنا أكثرنا تعظيماً لله؛ فالله لا...
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن من الخصال الحميدة التي حث عليها الإسلام؛ خلق التواضع, فالتواضع صفة حميدة، وخصلةٌ كريمةٌ, ينال بها العبد -بعد رضا الله- رضا الناس عنه، فالمتواضع يحبه الناس ويألفونه ويطمئنون إليه.
والتواضع حقيقته ترك التعالي والتكبر على عباد الله، والمسلم حقاً يحب إخوانه المسلمين، وينظر إليهم نظرة الاحترام والتقدير، وإن تفاوتت المنازل من غنىً إلى فقر، أو ضعف أو علم أو غير ذلك، هو ينظر إليهم مهما كانت الفوارق في الجاه أو في المنزلة أو في المكانة الاجتماعية، كل هذه الأمور لا تُذهب التواضع عنه، بل تؤصل التواضع في نفسه.
أيها المسلم: أمر الله بالتواضع في كتابه، وأمر به نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ اسمع الله يقول في كتابه العزيز مخاطباً نبيه: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الحجر:88]، وقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)[الفرقان:63]، وقال -جل وعلا-: (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً* كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً)[الإسراء:37-38]. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد".
أيها المسلم: إن التواضع خلق أنبياء الله ورسله كما بين الله ذلك في كتابه، فهذا موسى كليم الرحمن يذكر الله عنه موقفه من تلك الفتاتين اللتين أرادتا السقيا فعجزتا، قال -جل وعلا-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا)[القصص:23-24]، فسقى لهما وأعانهما على سقيهما. ثم هو -عليه السلام- لما خطب من صاحب مدين ابنته جعل مهر ابنته أن يرعى غنم مدين ثماني أو عشر سنين، كل ذلك من التواضع الذي يتخلق به -عليه السلام-.
ويقول الله عن عيسى في قوله: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ)[مريم:30]، فتواضع لله بأنه عبد لله، والعبد خاضع لمالكه وسيده.
أيها المسلم: ومحمد بن عبد الله سيد الأولين والآخرين، أفضل خلق الله على الإطلاق، كان التواضع خلقه وصفته في حضره وسفره، ومع أصحابه وأعدائه، والتواضع خلقه مع الأغنياء والفقراء، مع الصغار والكبار.
كان تواضعه ظاهرا في كل أخلاقه، ركب الحمار وأردف عليه، والعرب في كبرياء نفوسهم لا يرون ذلك لذوي الزعامة والشأن منهم؛ أجاب دعوة الداعي الذي دعاه إلى إهالة سنِخة وخبز من شعير فأجاب، يغشى الأنصار في بيوتهم فيسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم -صلوات الله وسلامه عليه-، توقفه الأَمَة حتى يقضي حاجتها، صلوات الله وسلامه عليه.
كلَّمه رجل يوم فتح مكة وأصاب ذلك الرجل رعدة احتراماً وتقديراً لرسول الله، فقال: "هَوِّنْ عَلَيْكَ! إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد"، تُسأل عائشة: ماذا كان حاله في بيته؟ قالت: "كان يشسع نعله، ويرقِّع ثوبه، وكان في حاجة أهله، فإذا أذَّن المؤذن خرج إلى الصلاة". صلوات الله وسلامه عليه.
والتواضع خلق المسلمين، يقول الله عن أصحاب نبيه: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الفتح:29]، هكذا المسلمون: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)[التوبة:71].
أيها المسلم: ولخلق التواضع فوائده وثمرات عظيمة يجنيها المسلم, فمنها: محبة الله لذلك المتواضع، يقول الله -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه)[المائدة:54].
ومن فوائد التواضع: أنه رفعةٌ للمؤمن، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ومن تواضع لله رفعه".
وأنه من أسباب دخول الجنة: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص:83].
أيها المسلم: إذا أردت أن تتحلى بهذا الخلق الفاضل, فهناك أمور تعينك على ذلك, منها: أن تتذكَّرْ نفسَكَ ومصدر تكوينِك: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى)[القيامة:37]، تذكَّر فقرك إلى الله وكمال غنى الله عنك وأنك فقير إلى الله بذاتك مهما عظُم مالك وجاهك: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر:15]، تذكر ضعفك وعجزك والأمراض والأسقام عليك وأنت لا تستطيع أن تدفع عن نفسك ضرَّا ولا تحقق لها نفعاً إلا بتوفيق الله، فتواضع لذي العزة والجلال.
تذكَّرْ عظمة الله وكمال أسماءه وصفاته وكمال علمه واطلاعه عليك وكمال عظمته وكبرياءه فتواضع له فذاك زيادة في مقامك.
ومما يعينك -عبدَالله- على التواضع: تذكَّرْ رحيلك من الدنيا، فمهما طال عمرك فلا بد من مفارقتها، إذاً فلا بد من تواضُعٍ لله، وعملٍ صالح.
ذكِّر نفسك سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- أكمل الخلق وأفضلهم، لِيَكُنْ نِبراساً لك في حياتك، اِصحَب الفقراء والمساكين وتواضع لهم لعل الله أن يزيد ذلك في درجاتك.
كن متواضعاً في أمورك كلها لتكون من المتقين، ولا يستحوذ عليك الشيطان فيصور التواضع ذلاً وضعفاً وعجزاً، بل هو عز وكرم وشرف لك إذا قصدت بذلك وجه الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أخي المسلم: تواضَعْ لله ذي العزة والجلال، تواضع لله في قلبك، وليعلم الله منك ذلك: (لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)[النساء:172]. وتواضعك لله يدعوك للالتزام بأوامره واجتناب نواهيه، وألا تعارض أوامره بهواك ورأيك؛ بل تكون خاضعاً مستجيباً لله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)[الأنفال:20-21].
تواضَعْ لِنَبِيِّكَ -صلى الله عليه وسلم-، فعظِّمْ سُنَّتَه، وأَحْيِ سنته، وادع إلى العمل بها، ولْيَكُنْ قوله عندك مقدماً على قول أي إنسان كائناً من كان.
أيها المسلم: تواضع للأم الكبيرة، وتواضع للأب الكبير، وأحْسِنْ صحبتهما، واختم حياتهما ببرك وإحسانك، فعسى دعوة صالحة تصعد إلى الله فتسعد بها في دنياك وآخرتك.
أيها الأب الكريم: تواضع للأولاد والبنات بالتربية الصالحة، والتوجيه القيم، وليعلموا منك خلق التواضع ليتخلقوا به في أنفسهم.
يا من منحك الله العلم والمعرفة: لِيَكُنْ علمك سبباً لتواضعك، وسبباً للِين جانبك، واحذر أن يكون علمُكَ سبَبَاً لغرورك وتيهك وكبريائك وتعاليك على عباد الله.. تواضع لعباد الله، علِّم الجاهل، واهْدِ الضالَّ، وبصِّرْ الإنسان، استقبل سؤال السائل ولا تحملنه على كمال عقلك وعلمك؛ فترد سؤاله ولا تستجيب له، اسمع سؤاله، وافهم خطابه، علِّمْه إن كان جاهلا، واهده إن كان ضالاً.
أيها الداعي إلى الله، أيها الآمر بالمعروف، أيها الناهي عن المنكر: ليكن التواضع خلق لنا، ندعو إلى الله على علم وبصيرة، لا نغلق أبواب الرجاء أمام المخالفين، ولا نيئِّسهم من رحمة الله، ولا نقنِّطهم من روح الله، بل نفتح لهم أبواب الرجاء، ونرغبهم في الخير، نحذرهم من الشر، ولا نُيَئِّس الناس، ولا نقول هلك الناس وضلوا، لا، ادع إلى الله بالعلم والبصيرة، ومُرْ بالمعروف، وانْهَ عن المنكر بعلم وبصيرة.
إياك أن تحتقر العاصي! إياك أن تخاطبه بالخطاب السيئ! زلت به القدم، وأغواه الشيطان، فهو اليوم يحتاج إلى من يأخذ بيده، وإلى من يبصره، وإلى من يرشده إلى الطريق، لا إلى من يؤنبه ويعنفه ويبعده عن الخير؛ فالعاصي عصا وزلت قدمه، فهل نعاتبه ونوبخه ونحتقره ونلقي عليه الكلمات القاسية؟! النبي -صلى الله عليه وسلم- حدَّ رجلاً بالخمر، فقال رجل: لعَنَهُ الله! ما أكثر ما يؤتى به! قال: "لا تعين الشيطان عليه، ألا تعلم أنه يحب الله ورسوله؟".
أيها المسؤول في إدارته: اتق الله، وتواضع مع عباد الله، اقْبل كل ما أتاك فيه صاحب الحاجة، وارحم صاحب الحاجة، ولا تقل هذا إنسان لا يفهم، وهذا جاهل، لا، هو صاحب حاجة يرى أنه على حق، ويرى أن مطلبه حق؛ لكن إذا قابله ذلك المسؤول المتواضع استطاع أن يقنعه فيبين له خطأه من صوابه، وإن استطاع نفَعه بما لا يخالف الأصول الشرعية، فلا بد من تواضع ليجد هذا المحتاج بغيته عندك.
أيها القاضي الكريم: أنت في قضائك يأتيك الخصوم على اختلاف اتجاهاتهم وطبائعهم وأخلاقهم، فانظر لهم نظرة الرحمة والإحسان، كل يدعي الحق لنفسه، فلا بد من سماع الطرفين بتواضع ورفق بهم حتى تستطيع أن تقنع الخصم المخالف بما وفقك الله به من هذا التواضع والخلق الكريم، فيرجع وقد اقتنع أن الحق عليه، وهكذا يكون قضاة المسلمين في تواضع وحسن ورفق، وتقبُّلٍ لكل المشاكل.
أيها المسلم: تواضع للفقير والمسكين، ولا يستخفنك الشيطان تقول هذا عامل، هذا جاهل، هذا حِرفي، لا -يا أخي- كلنا عباد الله، أغنياؤنا وفقراؤنا، رؤساؤنا ومرؤوسونا، كلنا عباد الله سواء، أكرمُنا عند الله أتقانا لله، وأعظمنا أكثرنا تعظيماً لله، فالله لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أموالنا ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فكم من شخص تستخف به وتنظر إليه بعين الاحتقار وهو أكرم عند الله منك ومن ملايين! (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات:13]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ)[الحجرات:11].
لا تتكبر على أحد لأجل مرضه، أو لضعف جاهه، أو ضعف منزلته، اعلم أن الذي أهَّلك قادر على أن يؤهله، فتواضع لله، واحذر أن يسلب الله عنك نعمته لتكبرك وطغيانك وغطرستك، فتواضع لعباد الله، هكذا يكون المسلمون في أعمالهم كلها. فلنتواضع لله تواضعاً يدعونا إلى الدعوة إلى الخير، والتحذير من الشر.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي