لا تحسبوه شرا لكم

منصور محمد الصقعوب
عناصر الخطبة
  1. الأمور لا تُقاس بمبادئها .
  2. وراء كل محنة منحة .
  3. الإيمان بالقدر من أركان الإيمان .
  4. أقدار الله كلها خير .
  5. تأملات في حادثة قتل المصلين في نيوزيلاندا .
  6. دروس وعبر من المحن والبلايا. .

اقتباس

والحق أن من وراء كل محنة منحة، ومن نظر بعين البصيرة تجلى له ذلك حتى في أحداث المسلمين اليوم، فكم من حدثٍ يحزننا ويبكي المسلمون لأجله دماً، ولله من وراءه حِكَماً، فلا تأتي فاجعة على المسلمين إلا ويعقبها خيرٌ كبيرٌ..

الخطبة الأولى:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

مسلَّمةٌ من مُسلَّمَات القدَر، قرَّرها القرآن، وأكَّدتها حوادث الزمان، هي أن الأمور لا تقاس بمبادئها، وأن المنح تأتي في طيات المحن، وأن الخير قد يأتي حيث ظنّ الناس شرّاً، فكم من بلاءٍ ظنه الناس شراً، ولكن الحكيم العليم قدّر وقضى أن هذا البلاء خيراً، وفي التنزيل: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)[النور:11].

لعله لا يخفاك يا مبارك أن هذه الآيةَ نزلت في أعقاب حادثةٍ من أشدِ حوادث السيرة صعوبةً على رسولنا -عليه الصلاة والسلام-؛ حيث اتُهمت زوجه، وكانت حادثةُ الإفكِ صعبةً على المؤمنين، اشتد عليهم الكرب، حتى بكت عائشة وبكى أبو بكر، وظل المصطفى -عليه الصلاة والسلام- يعاني الألم وفجيعة القلب في أمر عائشة، فيسأل فيها خادم بيتها تارة، وعليّاً أخرى، وأسامةَ بن زيد ثالثة، وأزواجَه رابعة، وأخيراً يذهبُ إلى عائشة نفسِها ويقول لها: "إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه".

في حين أن المنافقين فرحين بالحدث، ولكن شاء ربنا أن تنزل البراءة بعد ذلك سماوية، ويفتتح الله الآيات بهذه المُسَلَّمَة الربانية في قضايا القدر ليقول: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)[النور:11]؛ فحسبُ العقول الكاملة أن تستدل بما عرفت من حكمته على ما غاب عنها، وتعلم أن له حكمة في كل ما قدّره.

عباد الله: إن سادس أركان الإيمانِ: الإيمانُ بالقدر، خيره وشره، ومقتضاه أن ترضى بما قدر ربك عليك، وما أمرك به، وتعلم أن في شرعه الحكمة، وفي قضائه الرحمة.

لقد قرَّر الله هذا المعنى في القرآن في موضعين؛ أحدهما عند ذِكْر الطلاق، وهو مصيبةٌ زوجية تعصف بالبيت والأسرة فقال: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)[النساء:19].

والثاني عند ذكر الجهاد وهو تشريع فيه مشقة وإزهاق أنفس فقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[البقرة:216].

قال ابن القيم معلقاً على الآيتين: "فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية، والثانيةُ في النكاحِ الذي هو كمالُ القوةِ الشهوانية؛ فالعبدُ يكره مواجهةَ عدوه بقوّتِه الغضبية خشيةً على نفسه منه، وهذا المكروه خيرٌ له في معاشه ومعاده، ويحبُ الموادعةَ والمتاركةَ، وهذا المحبوبُ شرٌّ له في معاشه ومعادِه، وكذلك يكره المرأةَ لوصفٍ من أوصافها؛ وله في إمساكها خيرٌ كثير لا يعرفه، ويحب المرأة لوصف من أوصافها؛ وله في إمساكها شرٌّ كثير لا يعرفه، فالإنسان -كما وصفه خالقه- ظلومٌ جهولٌ، فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه وميلِه وحبه، ونفرتِه وبغضه؛ بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه.

فأنفعُ الأشياءِ له على الإطلاق طاعةُ ربِه بظاهره وباطنه، وأضرُّ الأشياء عليه على الإطلاق معصيتُه بظاهره وباطنه، فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصاً له فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيراً له، وإذا تخلّى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوبٍ هو شرٌ له، فمن صحت له معرفة ربه، والفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهاتِ التي تصيبه، والمحنَ التي تنزل به، فيها ضروبٌ من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب.

فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارِّها وأسبابَ هلكتها في محبوباتها؛ فانظر مثلاً إلى الأب الشفيق على ولده، العالمِ بمصلحته؛ إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بَضع جلده، وقطع عروقه، وأذاقه الألم الشديد.

وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه؛ كل ذلك رحمةً به، وشفقة عليه، وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يُعطه ولم يوسع عليه؛ لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه، وكذلك يمنعه كثيراً من شهواته حمية له ومصلحة لا بخلاً عليه.

فأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأعلم العالمين، الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم، ومن آبائهم وأمهاتهم إذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيراً لهم من أن لا يُنزِله بهم؛ نظراً منه لهم، وإحساناً إليهم، ولطفاً بهم، ولو مُكِّنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علماً وإرادة وعملاً، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته – أحبوا أم كرهوا – فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته فلم يتهموه في شيء من أحكامه، وخفي ذلك على الجهال به وبأسمائه وصفاته فنازعوه تدبيره، وقدحوا في حكمته، ولم ينقادوا لحكمه، وعارضوا حكمته بعقولهم الفاسدة، وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة! فلا لربهم عرفوا، ولا لمصالحهم حصلوا".

وقال القرطبي عند قوله -تعالى-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)[البقرة:216]: "(عسى) من الله إيجاب، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خيرٌ لكم في أنكم تَغلبون، وتَظفرون، وتَغنَمون، وتؤجرون، ومن مات مات شهيداً، وعسى أن تحبّوا الدعة وترك القتال وهو شرٌّ لكم، في أنكم تُغلبون، وتُذلُّون، ويذهب أمركم".

قلت: وهذا صحيحٌ لا غبار عليه؛ كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد، وجبُنوا عن القتال، وأكثروا من الفرار؛ فاستولى العدو على البلاد، وأي بلاد؟! وأسر وقتل وسبى واسترقّ، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته!

وقال الحسن في معنى الآية: "لا تكرهوا الملماتِ الواقعة؛ فلرب أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تحبه فيه عطبك"، وأنشد أبو سعيد الضرير:

رُبَّ أمرٍ تتّقِيهِ جرَّ أمراً تَرتَضِيهِ *** خَفِيَ المحبوبُ منه وبَدَا المكروهُ فيهِ

عباد الله: وفي حوادث الزمن ما يؤكد هذه المسلَّمة الربانية، ففي معركة بدر، حيث خرج المسلمون ليعترضوا القافلة، ويغنموا ويسلموا، فشاء الله بحكمته أن تكون الواقعة، ويقابلوا جيش قريش المتهيء بالسلاح والعتاد (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)[الأنفال:7-8]؛ لقد أراد الله -وله الحكمة والاختيار- أن تكون ملحمةً لا غنيمة، وأن تكون موقعةً بين الحقّ والباطل؛ ليحق الحق ويثبته، ويبطلَ الباطلَ ويزهقه، وأراد أن يقطع دابر الكافرين.

وفي غزوة أُحُد؛ حيث كاد المسلمون ينتصرون، ثم بهفوة وثغرة من بعض الصحابة، يشاء الله أن ينقلب النصر إلى هزيمة، فَيُقتل من الصحابة أقوامٌ، وتكسر رباعية النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتحصل على الناس مصيبة، ولكن كم من حكمةٍ وراء تلك المصيبة!، وفي القرآن ذكر الله هذه الواقعة فقال: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)[آل عمران:167].

وقال -تعالى-: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)[آل عمران:140-141]، بل، لك أن تتأمل في صلح الحديبية الذي ظنّه البعض إعطاءً للدنية، وتذهبُ الأيام وإذا به عينُ الخيرة والعزة للإسلام، ولقد كان ربك عليماً حين سماه فتحاً مبيناً؛ (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)[الفتح:27].

قال القرطبي في قوله -تعالى-: (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا): "أي علم ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم، وذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- لما رجع مضى منها إلى خَيْبر فافتتحها، ورجع بأموال خيبر، وأخذ من العدة والقوة أضعافَ ما كان فيه في ذلك العام، وأقبل إلى مكة على أهبةٍ وقوةٍ وعُدَّة بأضعاف ذلك".

يا كرام: والحق أن من وراء كل محنة منحة، ومن نظر بعين البصيرة تجلى له ذلك حتى في أحداث المسلمين اليوم، فكم من حدثٍ يحزننا ويبكي المسلمون لأجله دماً، ولله من وراءه حِكَماً، فلا تأتي فاجعة على المسلمين إلا ويعقبها خيرٌ كبيرٌ..

قضية قتل المصلين في الجمعة الماضية في إحدى الدول النصرانية أقضت المضاجع وأحزنت كل مسلم، نتج عنه قتلُ خمسين مصلٍ، وجرحُ آخرين، ومع هذا فقدَر الله خير، فلقد نتج عنه بشائر عديدة، حدثني أحد الدعاة هناك أنه أسلم من بعد الواقعة في الأيام الثلاثة الأولى أكثر من ثلاثمائة وخمسين شخصاً عندهم، عدا من يأتون للتعرف على الإسلام، حتى نفدت كل الكتب التي تعرف بالإسلام هناك، هذا غير من أسلم في غير تلك الدولة، علاوة على نشر صوت الأذان في جامعاتهم، ونقل أذانِ الجمعة اليومَ على الإذاعات الرسمية، وقراءة القرآن في برلمانهم.

وهذا أمرٌ يكفي منه أن صوت الإسلام يسمع في كل تلك البلاد، وهذا كله غير ما حصل في غير تلك الدولة من تنادٍ إلى التعرف بالإسلام، ما لو أننا دفعنا الملايين لتحقيق ما نتج جراء هذا الحدث ما كفاه.

أراد امروٌ أن يُسْكِت صوت الإسلام في مسجدٍ فنشره الله في كل البلد، أما من مات فتُرْجَى له الشهادة، وفي بيت من بيوت الله، ويكفيهم مَنْقَبَة أن نشر الله بهم الإسلام في أماكن كثيرة، وصدق ربنا (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ)؛ فاللهم اغفر لمن مات، وانصر دينك وكتابك.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده..

إن مُسَلَّمَة (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) لتفيد المؤمن ثمراتٍ عديدة؛ فهي تربّي المؤمن على الصبر على قدر ربه ولو كرهه، وتحمّل البلايا ولو شقّت؛ لأنها من ربِّه، وربُّه يريد به الخير، وما الأقدار المؤلمة إلا لحكمة، قال ابن القيم: "إنّ كل قدر يكرهه العبد ولا يلائمه لا يخلو إما أن يكون عقوبة على الذنب؛ فهو دواء لمرض لولا تدارك الحكيم إياه بالدواء لترامى المرض إلى الهلاك، أو يكونَ سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه؛ فالمكروه يرتفع ويتلاشى، وما يترتب عليه من النعمة دائم لا ينقطع، فإذا شهد العبد هذين المشهدين انفتح له باب الرضى عن ربه في كل ما يقضيه له ويقدره".

عباد الله: والقلب يطمئن ويأنس، وهو يرى أنه يسير بتدبير اللطيف الخبير، العالم ببواطن الأمور. والمرء حين تأتيه الأقدار على خلاف مراده تجعله يؤوب لربه، فربما كان بسبب ذنب أصابه، وفي هذا قال ابن القيم: "إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن؛ فإنْ ردّه ذلك الابتلاءُ والمحن إلى ربه، وجمعَهُ عليه، وطرحَه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به، والشدة بتراءُ لا دوام لها وإن طالت، فتُقلِعُ عنه حين تقلع وقد عُوِّض منها أجلّ عِوض، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه، وإقبالُه عليه بعد أن كان نائياً عنه، وانطراحُه على بابه بعد أن كان معرضاً، وللوقوف على أبواب غيره متعرِّضًا وكانت البلية في حق هذا عين النعمة، وإن ساءته، وكرهها طبعُه، ونفرت منها نفسُه؛ فربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سبباً ما مثله سبب.

وإن لم يردّه ذلك البلاءُ إليه، بل شرد قلبُه عنه، وردّه إلى الخلق، وأنساه ذكر ربه، والضراعَة إليه، والتذللَ بين يديه والتوبةَ والرجوع إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به، فهذا إذا أقلع عنه البلاء ردّه إلى حكم طبيعته، وسلطانِ شهوته، ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعته عند القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء، كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء، فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل، وبالله التوفيق".

عباد الله: ومُسَلَّمَة (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) تُعلِّمنا التُّؤَدة والأناة وعدم الاستعجال، فكم من أمرٍ عجل الإنسان فيه، فيصرف عنه، فيضجر، وربما تصرف بما لا يرتضيه دينه، وما درى أن الخير فيما اختار ربه.

ليس هذا على مستوى الشخص فحسب، بل حتى على مستوى الأمة من أحداثٍ وقضايا كبار، فسلِّم يا مؤمنُ لربك، فاختياره خيرٌ، وكم كان في العجلة من عطب.

ليس معنى هذا أن تركن ولا تعمل، وترضى بالذلة والمهانة وتتواكل، وتترك الأخذ بالأسباب، وإنما أن تسعى لصلاح دينك ودنياك، ونصر أمتك، فإذا اختار ربك بعد جهدك شيئاً ففي اختياره الخير.

والخير أجمع فيما اختار خالقنا *** وفي اختيار سواه اللوم والشؤم

وبعد: فأختم الحديث بدعواتٍ عظيمة كان عمر بن عبد العزيز يدعو بها، ويقول: "ما برح بي هذا الدعاء حتى أصبحت ومالي في شيء من الأمور هوى إلا في موضع القضاء". قال: "اللهم رضِّني بقضائك، وبارِكْ لي في قَدَرك؛ حتى لا أحب تعجيل ما أخَّرت ولا تأخير ما عجلتَ".

وصلوا وسلموا...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي