فالبناتُ يرحمهنّ ذو القلبِ الرحيم، ويشفِق عليهنّ ذو الخُلُق الطّيِّب، ويحسِن إليهنّ صاحِب المروءَةِ والإحسان، لا ينظر إلى ما يَرجوه منهنّ، وإنما يرجو من الله الفضلَ والإحسانَ، في الحديث: "من كفَل ثلاثَ بنات أو ثلاثَ أخوات كنَّ سِترًا له من النار"، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يرغِّب فيقول أيضًا: "من أعالَ جاريتَين حتى يبلغا جاء يومَ القيامة أنا وهو كهاتين". وجمع بين أصابعه.
أمّا بعد:
فيا أيّها النّاس: اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله: حِكمةُ الرّبِّ -جَلّ وعلا- اقتضَت أن يَكونَ جِنس بَني آدمَ رجالاً ونِساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً) [النساء:1]، هذه حكمةُ الرّبِّ -جلّ وعلا-، خلَق آدمَ مِن تُرابٍ، خَلَق حوّاء من ضِلعِ آدَم: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) [النساء: 1]، كوَّن جنسَ البشَر مِن والنساء والرجالِ؛ ليبقَى النوعُ الإنسانيّ، وتَعمر الدّنيا وينفذ قضاءُ الله وقدَره.
وأخبرنا -جلَّ جلالُه- أنّه قسّم العبادَ نحوَ هذا أقسامًا، فمِن عباده من جعل ذرّيَّته إناثًا، ومن عباده من جعل ذريّتَه ذكورًا، ومِن عباده من منحَه الجنسَين الذكورَ والإناث، ومِن عباده من جعَله عَقيمًا لا يولَد له، وكلّ ذلك بحِكمتِه وعدله ورحمتِه وكمالِ عِلمه، قال تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [الشورى:49، 50]، فهو عليمٌ بهذه الأصناف كلِّها، وهو القادِر على إيجادِها، تعالى وتقدَّس: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء:23].
أيّها المسلِم: لقد كانت جاهليّةُ العرَب قبلَ الإسلام -وذاك معروفٌ عندهم-، فقد كانوا قبل الإسلام في جَهالةٍ جهلاء وضلالةٍ عمياء، لا يعرفون معروفًا ولا ينكِرون منكرًا، كانوا في جاهليَّتِهم يكرَهون البنات، ويصِفون مَن ليس عنده إلاّ بنات بأنه أبتَر الذِّكر، ولِذا وصَفوا نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- بذلك لما رأَوا مَوتَ أطفالِه وبقاءَ بناتِه فقالوا: إنّه الأبتَر، فردَّ الله عليهم بقوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) [الكوثر:3]، فذكرُه باقٍ -صلى الله عليه وسلم-.
كانوا في جاهليَّتِهم يكرهون البناتِ كراهيّةً شديدة، وإذا بشِّروا بالبنات ضَجروا وتأثَّروا وظهَر ذلك باسوِداد وجوهِهِم وتغيُّر ألوانهم كراهيةً للبنات واستِثقالاً لهنّ: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [النحل:58، 59]، يختفِي عن الناسِ حياءً مِنهم، ويفَكِّر: أيدسُّه في التراب؟! (يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).
فإن أمسَك البنتَ أمسكها وهو محتقِرٌ لها، متسخِّط من وجودها، آيِس من نَفعها؛ لا يريد إلاّ ولَدًا ينفَعه ذهابًا ومجيئًا، (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ)، فكان من أخلاقهم وأدَ البنات، ولِذا قال الله: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير:8، 9]، يأخُذُها ويحفِر لها الحفرة ويهيل التّراب عليها قسوةً في قلبِه وكراهيّة لها، تتعلَّق به ولكن قسوة القلبِ وسوء التربية جعلَه يقسو عليها ويدفنها ويئِدها ويكرَهها ويستثقلها. هكَذا في جاهليّتهم.
فجاء الإسلام بالخَير، وجاء الإسلام بالرّحمة، وجاء الإسلام بالعَدل، وجاء الإسلام بمكارمِ الأخلاق وفضائلِ الأعمال، وجاء الإسلام بما يَملأ القلبَ رحمةً وحنانًا وشفَقة، جاء الإسلام بكلِّ خير، وانتشَلَهم من ذلك الظلم والطغيان إلى ساحلِ الأمان والاستقرار، فجاءَ الإسلام بكتابه وسنّة رسولِه ليوضح ما للبناتِ مِن فضل ومكانةٍ في المجتمع المسلِم.
فأوّلاً وقبل كلِّ شيء رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في كفالةِ البناتِ والإحسانِ إليهنّ وتربيتهنّ والقيام بحقهنّ، وأنَّ وجودَهنَّ خَير للعبدِ في دينه ودنياه، سعادة له في دنياه، وسعادة له يوم لقاءِ ربِّه. تذكر عائشة -رضي الله عنهما- أنَّها أتتها امرأةٌ تسألها معها ابنتان لها، تقول عائشة: فلم تجِد عندي سوَى تمرتين فقط، تقول عائشة أمّ المؤمنين: لم يكن عندي في بيتِ رسول الله شيءٌ أطعِهما به سِوى تمرتين فقط، فأعطَت الأمَّ التمرتين، فأعطت كلَّ واحدةٍ تمرةً ولم تطعَم منها شيئًا، أتَى النبيّ بيتَه فأخبرته عائشة بما رأت، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أعالَ جارِيَتين حتى يبلُغا كانتا له حِجابًا من النار"، وفي بعض الألفاظِ أنها أعطَتها ثلاثَ تمرات، فدَفعت لكلِّ بنتٍ تمرة، فأكَلَت البنتان التمرتين، وأرادتِ الأمّ أن تأكلَ الثالثة فاستطعمتها البنتان فأعطتهما ولم تأكل شيئًا، فصنيعُها أعجَب عائشةَ، فأخبرت بها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنَّ الله أوجَب لها بهنَّ الجنة وأعتقها بهنّ منَ النار".
فكونُها آثَرت البنتَين على نفسِها وأطعمَتهما وبقِيت جائعةً جعَلَها الله سَببًا للعِتق من النّار والفوزِ بدخول الجنّة، وفي الحديث: "الرّاحمون يرحمهم الرحمن، ارحَموا من في الأرضِ يَرحمكم من في السماء".
أيّها المسلم: لا تضجَر من وجود البنات، ولا تستثقِلِ البنات، واقصِد بذلك وجهَ الله والدارَ الآخرة، ربِّهِنّ فأحسِن التربية، وعُد عليهن بالخير، ألِنِ الجانبَ لهن، أنفِق عليهنّ، وابذُل جهدَك فيما يسعِدهنّ؛ فحسناتٌ مدَّخرة لك يومَ القيامة، قال بعض السّلف: "البنون نِعمة، والبَنات حسَنات، والله يحاسِب على النّعمة ويُجازِي على الحسَنات".
قال بعضُ السّلَف في قولِه: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا) [الشورى:49]، بدَأ بهنّ ليبيِّنَ للعرب ما كانوا عليه من فسادِ الأخلاق في وَأد البناتِ، فجاء بِذكرهنّ حتى يُعلَم أهميَّتُهن في ذلك.
والله -جلّ وعلا- أعطى أبانا إبراهيمَ ذكورًا ولم يعطِه إناثًا، وأعطى لوطًا -عليه السلام- البناتِ ولم يعطه ولدًا، وأعطى محمّدًا -صلى الله عليه وسلم- ذكورًا وإناثًا، لكن ماتَ إبراهيم آخِرُ أبنائِه في حياتِه، وماتَت بعضُ بناتِه بعدَ موته، صلوات الله وسلامه عليه إلى يَوم الدّين.
أيّها المسلم: فالبناتُ يرحمهنّ ذو القلبِ الرحيم، ويشفِق عليهنّ ذو الخُلُق الطّيِّب، ويحسِن إليهنّ صاحِب المروءَةِ والإحسان، لا ينظر إلى ما يَرجوه منهنّ، وإنما يرجو من الله الفضلَ والإحسانَ، في الحديث: "من كفَل ثلاثَ بنات أو ثلاثَ أخوات كنَّ سِترًا له من النار"، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يرغِّب فيقول أيضًا: "من أعالَ جاريتَين حتى يبلغا جاء يومَ القيامة أنا وهو كهاتين". وجمع بين أصابعه.
أيّها المسلم: إذا علمتَ هذا الأمرَ واستقرَّ في فكرك أنَّ تربيةَ البنات نعمةٌ، وأنَّ وجودهنّ نعمة لك من اللهِ ورحمة من الله لك ليظهرَ كمال رضاك بقضاءِ الله وقدره، قال قتادةُ -رحمه الله-: "إنَّ الله بيَّن للعرب سوءَ أخلاقهم وسوءَ أفعالهم في كراهيّتهم البنات، فلَرُبَّ جاريةٍ خير من غِلمان، وربَّ غلام صار سببًا لهلاك أهلِه ومصائبهم".
وقال -رحمه الله-: "كان العربُ في الجاهليّة يغذِّي الرجل كلبَه ويقتل ابنتَه". لأنهم يكرهون البنات في مجتمَعهم، فجاء الإسلام بعكس قلوبهم القاسيَة، جاء بالرحمة والشفقة والإحسان.
هذا محمّد -صلى الله عليه وسلم- كان رقِيقًا مع البناتِ، محسنًا إليهنّ، رفيقًا بهنّ، كان يحمِل بنتَ بنتِه أمامه في صلاته، إذا قام رفعها، وإذا سجد وضعها، وكان يكرِم بناته ويرفق بهنَّ، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يومِ الدين.
أسرَّ إلى فاطمةَ في آخر حياته فبَكت، ثم أسرَّ إليها فضحِكت، تقول عائشة: أحِبّ أن أسأَلَها فاستحيَيتُ حتى مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا فاطمة، أسرَّ لك الرسول فبكيتِ، وأسرّ لك فضحكتِ، قالت: أمّا الآن فنَعَم، أسرَّ لي فبكيتُ بأن أخبَرني بقربِ رحيله من الدّنيا، فبكيتُ عليه، وأسرَّني بأنِّي سيّدةُ نساء العالمين في الجنّة فضحِكتُ. فرضي الله عنها وأرضاها.
أيّها المسلم، أيّتها المسلمة: إنَّ إكرامَ البناتِ نِعمة، وإنّه حسناتٌ يسوقها الله لمن شاءَ من عباده.
أيّتها الأمّ الكريمة: اعتني بالبناتِ العنايةَ الصحيحة، واهتمّي بشأنها؛ فهي الأمّ مستقبَلاً، هي الأمّ ومربّيَة الجيل، فإذا ربِّيَت تربيةً صالحة وأنشِئَت نشأة خيريّة ظهر أثَر تربيتها على بَيتها، على أبنائِها وبناتها، فأعدِّيها للمستقبَل الإعدادَ الصحيح، أعدِّيها لأن تتحمَّل مسؤوليّتها وأن تكونَ راعية في بيت زوجها، تحسِن الرّعاية والقيادة، ولا تجعَليها كلَّةً عليك، فغدًا تفقِد هذه الأمور، ربّيها تربية صالحةً، نشِّئيها على الخير، على العفّة والصيانة والحِشمة، على البُعد عن الرذيلة، على القيام بشأن المنزل، على التدبِير النافع، حتى إذا انتقَلَت إلى زوجها فهي الفتاةُ المربّاة المعدَّة، التي يسعَد بها زوجها بتوفيقٍ من الله، فتربِّي البنين والبناتِ التربية الصالحةَ النافعة.
أيّها الأب الكريم: إنَّ حقوقَ البنات عليك كثيرةٌ، فأوّل حقٍّ عليك أن تشكرَ الله إذ وهب لك البناتِ، وتعلم أنّ قضاءَ الله لك وقسمَه لك خير من رأيِك لنفسك، فالله أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
أيّها الأب الكريم: إنَّ مِن حقوق بناتك عليك أوّلاً أن تزوِّجَهنّ إذا تقدَّم لهنّ الكفء الذي ترضَى دينَه وأمانته، يقول نبيّك -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتاكم من ترضَونَ دينَه وأمانتَه فزوِّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير". أجَل فتنة وفساد كبير، وكم من رجالٍ منعوا بناتهن الزواجَ، لماذا؟! البنتُ موظَّفَة ولها راتب، ويريد الأب أن يمتصَّ ذلك الراتب ويستولِي عليه، ولا يهمُّه البنت، صارت عانسًا أم غير عانس، كلّ ذلك لا يؤثِّر في نفسيّة هذا الأبِ اللئيم.
ومنهم من يقول: أريد أن أقتَصَّ منها قدرَ ما أنفقتُ عليها قبلَ أن تتوظَّف، إذًا فهو لم يعمَل عملاً خالصًا لله، ولم يكن صادقًا في تعامُله.
أيّها الأب الكريم: صداقُ الفتاةِ إذا دفِع إليها هو حقٌّ لها وملك لها: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [النساء:4]، إذًا فصداقُها حقّ لها، وإن أخذتَ شيئًا فاتَّق الله في الأخذ، لا تأخُذ ما يضرّها ويضعف من مكانَتِها.
في عهدِ النبي -صلى الله عليه وسلم- توفِّيَ رجل وترك ابنتَيه وزوجتَه، فاستولى عمُّ البنتَين على المالِ ولم يعطِهما شيئًا، جاءَت الأمّ تقول لرسول الله: توفِّي سعد بن الربيع، خلَّف بنتَين استولى العمّ على المال، لا يمكِن أن تزوَّجا وليس لهما مال، فأنزل الله آيةَ المواريث، فأمرَه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن يُعطيَ الزوجة الثمنَ والبنتَين الثلثَين ويأخذ ما بقِي، هكذا شرعُ الله.
أيّها الأب الكريم: اختَر لها الصالح ممّا يغلب على ظنِّك أهليتُه لها ومناسبَته لها؛ لأن هذه أمانة في عنقِك، فلا تتساهل بالمسؤوليّة، والبعضُ قد يتقصَّى حقًّا للبِنت التي أمّها معه، ويتساهَل في بنتٍ أمّها ليست مع الزّوج، فلا تنظر لهذا، ولكن حقِّق الأمرَ بما يعود على الفتاةِ في خيرِها حاضرًا ومستقبلاً على قدرِ استطاعتك، والله يقضي ما يشاء.
أيّها الأب الكريم: كم من أبٍ جعل زواجَ ابنته مصدَرًا لثرائِه، فهو لا يزوِّجها حتى يشرَط له قسمٌ خاصّ به، فيتحمَّله الزوج ولا مصلحةَ له من ذلك، يقول: الفتاة مهرُها أربَعون وأنا أريد نِصفَ المهر، أو أريد أربعينَ مثلَ تلك الأربعين، لماذا؟! يقول: لا يمكن أن تذهبَ الفتاة منّي بلا شيء، لا بدَّ أن أقتطِع من صداقِها أو يعطيني زوجُها مثلَ ما أعطاها، هذا كلُّه خطأ يفعله أحمقُ جاهل؛ لأنّه يريد الاستغلالَ ولا يريد الخيرَ والصلاح.
أيّها الأب الكريم: إذا طلِّقَت الفتاة ثم أرادتِ العودةَ إلى زوجها -والطلاقُ أقلّ من الثلاث- فلا تحل بينها وبين ذلك، فالله يقول: (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) [البقرة:232].
أيّها الأب الكريم: إنَّ المرأة تُستأذَن في زوجٍ خطبها، وتخبَر بحالِ مَن تقدَّم لخطبتها، ويُشرَح الأمرُ لها ويوضَح الأمر أمامها؛ حتى تكونَ الصّورة واضحةً لها؛ ولذا كانوا في جاهليَّتهم يزوِّجون الفتياتِ على الأهواء لا على مرادِ الفتاة، فإنّ الحياة الزوجيّةَ تشقَى بها البنت والزوج دون الأمّ والأب، إذًا فسنّة محمّد -صلى الله عليه وسلم- تقول: "لا تنكَح الأيّم حتى تستأمَر، ولا البِكر حتى تستأذَن"، قالوا: وما إذنها يا رسول الله؟! قال: "أن تسكتَ".
أيّها الأب الكريم: إنَّ البعضَ من الناسِ ربما منَعوا البناتِ الميراثَ، ويقولون: البنت تقتطِع من مالنا ما تذهَب به إلى أولادِ الآخرين، فلا يورثونها، فجاء الإسلام بهذه الآيات: (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) [النساء:11]، (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) [النساء:32].
أيّها الأب الكريم: في الجاهلية الباطلة الضالّةِ كانت المرأة إذا توفِّي عنها زوجُها يلقِي عليها أحدُ أقاربِه ثوبَها فيحجِزها عن كلّ أحَد، فجاء الإسلام ليمنعَ ذلك، وليجعل الأمرَ باختِيَارها.
في جاهليّتهم أيضًا كانوا يتَّخِذون البنات وزواجَ البنات لمصلحة زواج الآباءِ أو الأولياء، فإذا خُطِب من أحدِهم ابنته لا يزوِّجها حتى يزوِّجوه هو، وقد يكون غيرَ مناسبٍ لتلك الفتاة الأخرى؛ ولذا جاء الإسلام فنهى عن نكاح الشِّغار، فيقول عبد الله بن عمر: إن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عن نكاح الشغار وقال: "لا شِغارَ في الإسلام". والشغارُ أن لا يزوِّج الفتاةَ الأبُ حتى يزوِّج الخاطِب منه بنته أو أخته، فإذا لم يفعل لم يفعَل، وهذا من الخطأ؛ لأنَّ الأمرَ لا يرجَع فيه لمصالح الأب والأم، وإنما ينظَر فيه لمصالح الفتاة، فلا تخضِع زواجَها لمصلحتك الخاصّة، وإنما انظر لمصلحتها فوق كل اعتبار.
أيّها الأب الكريم: إنَّ العنايةَ بتربيّة البنات والقيامَ على ذلك خيرَ قيام مسؤوليّة الأب ومسؤوليّةُ الأم جميعًا، فيا أيّتها الأم: رغِّبي البنت في الخير، وحثِّيها على التستُّر، وامنعيها من السّفور وترك الحجاب، وقولي لها: إنّ هذا خلُق جاهليّ والحِجاب خلقٌ إسلاميّ، والله يقول: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب:33]. مريها بالستر، وربِّيها على الحجاب، وحُثّيها على ذلك ورغّبيها، وكوني قدوةً صالحة لها في طاعة الزّوج وفي التستّر والعفّة والبعد عن رذائل الأمور، فتنشَأ الفتاة ترى أبًا صالحًا وأمًّا طيّبَة وبيتًا سعيدًا، فتنشأ النّشأةَ الطيّبَة، أمّا إذا كان الأب مستهتِرًا أو الأمّ مستهترة -وربما كانا متساهِلين في الأخلاق لا يبالون- فربما نشأ النشء على هذا الخلق السيّئ، فيكون الأب خائنًا لأمانتِه، والأمّ خائنة لأمانتها.
أيّتها الأمّ الكريمة: احرصي على التوفيقِ بين الزّوج والفتاة، ولا تكوني سببًا للتفريقِ بينهما، وكلما شعرتِ من الفتاة ضَجرًا من زوجها أو عدَم رغبة فلا توافقِيها في أوّل الأمر، حاولي التسديدَ قدرَ الاستطاعة، وحاولي حملَ البنت على الصبرِ والتحمل، وعالجي قضايَا الاختِلاف بين بنتِك وزوجِها بما أمكَنَ من العِلاج، ولا تفتَحي لها بابَ التمرّد على الزوج، ولا تغلقي عنها النصيحةَ والتوجيه، وكوني عونًا لها على الخيرِ مع الأب، فإنَّ السعيَ في الإصلاح والتوفيق خيرٌ من الفرقة والاختلاف.
فلنتَّق الله في بناتنا وأبنائنا، ولنَقم بالواجب علينا، أسأل الله أن يوفِّق الجميع لما يرضيه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيهِ كَمَا يحِبّ ربّنا ويَرضَى، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد:
فيا أيّها النّاس: اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله: مِن بَعضِ القضايا أنّ بعضَ الأمّهات أو بعضَ الآباء عندما تأتِيهم فتاتُهم مطلَّقة أو نحو ذلك يستثقِلونها ويسأَمون منها، وربَّما خاطَبوها بالخطاب السيّئ وقالوا: أنتِ وأنتِ، فعلتِ وفعلتِ وإلى آخره، فجاء الإسلام ليعالِجَ هذه القضيّة، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لأحَد أصحابه: "ألا أخبِرك بأفضل الصدقة؟!"، قال: نعم يا رسول الله، قال: "نفقتُك على البنتِ المردودةِ عليك لا عائلَ لها غيرك"، يعني أنّ نفقتَك عليها إذا رُدَّت إليك من أمرٍ بينها وبين زوجها وأنت العائِلُ لها بعدَ الله، فتلك أفضلُ الصدقة خلافًا لمن يَنفر منها ويقرّعها بالكلام السيّئ والتوبيخ، فإنَّ القلوبَ بيد الله، الله الذي يجمعها والله الذي يفرّقها، والله حكيم عليم.
أيّها المسلم: نسمَع دائمًا أو نقرَأ في بعض صحفِنا وفي قراءةِ بعض كتَّابنا هجومًا على المرأةِ المسلمة، هجومًا على أخلاقها، وهجومًا على قِيَمها، هجومًا على فضائلها، هجومًا على تمسّكها بدينها، فِئةٌ من أبنائنا -هداهم الله سواءَ السبيل ورزَقهم البصيرةَ في دينهم- أخَذوا على عاتقهم الدعوةَ للفتاةِ المسلِمة أن تكونَ امرأةً سافرة متحلِّلَة من أخلاقها، مقلِّدَة ومتشبِّهةً بغيرِها من نساءِ الكفَرَة الماردين، ويرونَ هذا عِزًّا وشرفًا، بل المصيبةُ أن يقول بعضُهم: نظهِر صورَتَنا أمام الغرب بأن ندعوَ الفتياتِ إلى السفور والاختلاطِ بالرجال، وأنَّ المرأة مع الرّجل الأجنبيّ يكونان سواءً، يمارسون العملَ الواحد، هذه صورة الأمّة التي يريدون أن يخرِجوها صورةً حسنة، يأبى الله أن تكونَ صورة حسنة، فالصورة الحسنةُ للمجتَمَع المسلم أن يظهَر المجتمع متمسِّكًا بدينه، متمسِّكًا بقِيَمه وفضائله، مربِّيًا الأبناء والبنات على الخير، واضعًا كلَّ شيء في موضعه.
وعندما ندعو أن تكون الفتاة المسلِمة فتاةً غربية تقلِّد غيرَها من نِساء الكافرات في ملبَسِها وفي عاداتها وأخلاقها إذًا نحن نسعى في نقلِها من فطرتها السليمة إلى أن نجعلَها توافِق الفطَرَ المنحلَّةَ المنحطّة.
إنَّ مَن يكتب ويدعو إلى جنسِ هذه الأفكار لو راجَع نفسَه قليلاً، لو عاد إلى تاريخِ إسلامه وأمّته، ذلك التاريخ المجيد، إلى ذلك المجتمع الإسلاميّ الذي طالما حكَم العالمَ قرونًا عديدة، إنما حكَمَهم بالقِيَم والفضائل، بهذا الدّين وأخلاقه القيِّمة التي تمكَّنت مِن نفوس أتباعه حتى صاروا صورةً حيّة، يمثِّلون الإسلامَ قولاً وعملاً في كلِّ المجالات.
فليتَّق اللهَ أيُّ كاتب يكتب ويدعو إلى أن تخالطَ المرأةُ الرجالَ، وأن تسافرَ وحدها، وأن تكونَ ممثِّلةً لأمّتِنا أو تكون أو تكون، كلُّ ذلك مخالِف لشرعِ الله، مخالفٌ لكتاب الله، مخالف لسنّة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فليتقِّ المسلمون ربَّهم في دينهم، ليتّقوا ربَّهم في أبنائهم وبناتهم، ليَعلموا أنَّ شرعَ الله هو الخلُق القيِّم وهو الخلق المثاليّ، وأنّ من يريد ببناتنا أمرًا خلافَ شرع الله فإنما هو داعٍ للباطل والضلال، داعٍ للفجور والفِسق والعصيان، نسأل الله أن يهدِيَ ضالَّ المسلمين، وأن يثبِّت مطيعَهم، وأن يحفظ على بناتِنا عوراتهنّ، وأن يجعلَهنّ فتياتٍ مسلمات متمسِّكات بدينهنّ ثابِتات على أخلاقهنّ، وأن يعمَّ الجميع بالتمسّك بهذا الدين علمًا وعملاً ظاهرًا وباطنًا، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
واعلَموا -رحمكم الله- أنّ أحسَنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هَدي محمّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضَلالة، وعليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله علَى الجمَاعةِ، ومَن شذَّ شذَّ في النّارِ.
وصلّوا -رحمكم الله- علَى نبيِّكم محَمّد -صلى الله عليه وسلم- كما أمَرَكم بذلِك ربّكم، قال تعَالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك علَى سيدنا محمّد، سيد الأولين والآخرين، وارضَ اللَّهمّ عن خلفائِه الرّاشدين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي