جاء الإسلامُ فأعطى المرأةَ حقَّها، كانت في الجاهلية تُورَث ولا ترِث، تُمْلَكُ ولا تَمْلِكْ، صوتُها مكبوت، رأيُها مطَّرح، فهي مُتعَة، حتى إنَّ بعض جاهلية الأمم يتحدَّثون: هل للمرأة روحٌ أم لا؟! هل هي آدميةٌ تستحقّ اسمَ الآدمية والإنسانية أم لا؟! وهل يمكن أن يكونَ لها دورٌ أم لا؟! جاء الإسلام فقال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) ..
أمّا بعد:
فيا أيّها النّاس: اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله: يذكِّر الله عبادَه المؤمنين نِعَمه عليهم بهذا الدين، ويذكُر لهم حالَهم قبلَ هذا الدين القويم، فيقول -جلَّ وعلا- مخاطبًا لهم: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ) [البقرة:198].
يقول الله لهم: (وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) أي: من قبل هذا الدين من قبل مَبعَث محمّد –صلى الله عليه وسلم- كنتم في ضلالٍ مبين، ليس ضلالاً خفِيًّا، ولكنه ضلالٌ بَيِّنُ الضلالةِ واضحٌ جليّ، ضلالٌ تمثَّل في معتقداتِهم عندما عدَّدوا الآلهة وعبدوا مع الله غيرَه وتعلَّقوا بالمعبودات المتعدِّدة من أشجارٍ وأحجار وجنٍّ وأولياء وغير ذلك، ضلالٌ تمثَّل في نظرتِهم لهذه الحياة، فهم يرونَها حياةً ليس بعدها حياة: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ) [الجاثية:24]، أنكَرُوا المعادَ بعد الموت، فلم يقرُّوا بذلك، وقالوا: أَإذا كنَّا تُرابًا وعظامًا أئِنَّا لفي خَلقٍ جَدِيد؟! ضلالٌ تمثَّل في معَاملاتِهم، فما بين جهالةٍ وغَرَر وظُلمٍ وعدوان، ضلالٌ تمثَّل في سلوكهم وعلاقاتهم الاجتماعية، فهم قومٌ لم تستطع لُغَتُهم أن توحِّدَهم، ولا أرضُهم أن تجمعَ كلمتَهم، وهم قوم متفرِّقون في آرائهم كما هم متفرِّقون في معبوداتهم، للمرأة نصيبٌ من هذا الضَّلال وهذا الجهلِ العظيم، فهي جاهلية بكلِّ ما تحمِله الكلمة من معنى، فنال المرأةَ من هذه الجاهليةِ وهذا الضلالِ المبين نالها ما نالها.
فأوّلاً: كراهيتُهم للأنثى، وبُغضُهم لها، وتضجُّرهم عندما يُبشَّر أحدهم بها: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [النحل:58، 59].
نَظَرُهم للمرأة نظرٌ قاصِر، يرَونَها مجرَّد مُتعة لا سوى ذلك، هم يئدونها يقْتلونها أحيانًا خوفَ الفَقر لأنهم يظنّون عجزَها وعدمَ قدرتها على الاكتساب، يَئدونها خوفَ العار ثانيًا، ولهم تصرّفات سيّئة خاطئة في نظرهم للمرأة في كلِّ أحوالها، فجاء اللهُ بالإسلام، وجاء بهذا النبيِّ الكريم، فقضى الله به على ظُلم الجاهلية، وهدم به منارَ الجاهلية، وأقام على أنقاضه حُكمَ الإسلام العادل الذي لا جورَ ولا ظلم فيه، فأعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، أعطى المرأة حقَّها المناسبَ لها، وأعطى الرجالَ الحقَّ المناسب لهم، ووضَعَ لكلٍّ ما يناسب حالَه ووضعه، فسبحان الحكيم العليم: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام:115].
جاء الإسلامُ فأعطى المرأةَ حقَّها، كانت في الجاهلية تُورَث ولا ترِث، تُمْلَكُ ولا تَمْلِكْ، صوتُها مكبوت، رأيُها مطَّرح، فهي مُتعَة، حتى إنَّ بعض جاهلية الأمم يتحدَّثون: هل للمرأة روحٌ أم لا؟! هل هي آدميةٌ تستحقّ اسمَ الآدمية والإنسانية أم لا؟! وهل يمكن أن يكونَ لها دورٌ أم لا؟! جاء الإسلام فقال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل:97]، (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران:195]، وقال: (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) [النساء:11].
أيها الإخوة: إنّ في الجاهلية ظلمًا للمرأة، هذا الظلمُ تمثَّل في أمور:
فمِن ذلكم ما بيّن الله في كتابه بقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:232]، هذه الآية موجَّهة لأولياء النساء، وأنَّ الله منع الرجالَ من عضل المرأة ومنعِها من أن تعودَ إلى زوجها الذي طلَّقها بعد انتهاء عدَّتها إذا كانت الطلقةَ الأولى أو الثانية، فإذا أرادتِ العودةَ إلى زوجها وانتهتِ العدّةُ فله العودُ إليها بعقدٍ جديد إذا كان الطلاقُ الطلقةَ الأولى أو الثانية، ولو حاول وليُّها منعَه لقلنا: إنك بهذا عاضلٌ لها والله قد نهاك عن ذلك.
معقِل بن يسار أحدُ أصحاب النبيّ –صلى الله عليه وسلم- زوّج أختًا له رجلاً من المسلمين فطلّقها، فانتهتِ العدّةُ وأراد العَودَ إليها، فقال: يا لُكَع بن لُكَع، أكرمتُك وزوّجتُك ثمَّ تطلِّقها، ثم تأتي لترجعَ إليها! لا والله ما أمكِّنُك، وقد رضيَتِ المرأة بالزوج وهوَته وهواها، وعلم الله ذلك منهما، فأنزل الله هذه الآية، فدعاه النبيُّ وتلاها عليه فقال: سمعًا وطاعةً لله ورسوله، وكفّر عن يمينه، وأعاد أختَه بعقدٍ إلى زوجها الأوّل. هذا عدلُ الإسلام، وذاك ظلمُ الجاهلية وطغيانُها.
أيّها الإخوة: وممّا كانوا يُعَاملون به المرأةَ في الجاهلية أنّ الرجلَ إذا تزوّج المرأةَ ولم يُقسَم له بينه وبينها مودّةٌ والتئام حاولَ أن يُضرَّ بها، وأن يؤذيَها، وأن يعضلَها ويمنعها حقوقَها، أو يؤذيها بكلام سيّئ، وربّما تسلَّط عليها بالضرب عساها أن تفتديَ نفسَها، فيسترجع منها المهرَ الذي دفعه لها، قال تعالى: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) [البقرة:229].
فإذا تزوّج الرجلُ المرأةَ وقُسِم أن لا اتِّفاقَ بينهما ولا التئامَ بين قلبيهما -والقلوبُ أرواحٌ مجنّدة، ما تعارفَ منها ائتلَف، وما تناكَر منها اختلف- إذا لم يقَع في قلبه حبٌّ لها، وليس من المرأةِ خطَأ ولا تقصِير في واجب، ولم تكن بذيئةً، ولم تكن مقصِّرةً في واجبها، ولا يلاحَظ عليها في شرفها وأخلاقِها شيء، إنما قُسِم أنه لم يقَع في قلبه حبٌّ لها؛ فهَل من اللائِق أن يؤذيَها ويَضرَّ بها ويسبَّها أو ينسبَ إليها ما هي براءٌ منه أو يقذف أهلَها أو يتسلَّط ببذاءة لسانِه حتى يتّقوا شرَّه ويدفَعوا له ما دفع تخلُّصًا من جهلِه وسلاطةِ لسانه وقلَّةِ حيائه وانعدام مروءته؟! فإنّ هذا ظلم؛ إذ المهر استحقّته بالدّخول عليها، قال تعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [النساء:21]، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [النساء:19]، فما دام خلق المرأة كريمًا، وسيرتها فاضلة، وعملُها حسَنًا، فغيرُ لائقٍ أن تأخذَ منها ما دفعتَ إليها، فإنها مَلَكَته بالدخول عليها، فلا حقَّ لك في الاسترجاع إلاَّ أن يكونَ هناك من المرأةِ أخطاء في الأخلاقِ أو أخطاء في السلوك، وما دامتِ المرأة سليمةً من كلِّ شيء فإنَّ مِن الظلم استرجاعَ ما دفعتَه إليها ظلمًا وعدوانًا.
أيّها المسلم: ومن ظُلمِ الجاهلية أنَّ الرجلَ إذا مات يقوم أحدُ أقاربه فيُلقي على زوجته ثوبَه، فمن سبقَ إلى ذلك كان أحقَّ بها دون أن يُسمَع لها صوتٌ أو تستشار أو يعلَم رأيُها، فجاء الإسلام ليمنَعَ من ذلك وقال: "لا تُنكحُ البِكر حتى تستأذَن، ولا تُنكح الأيِّم -أي: الثيِّبَ- حتى تُستأمَر"، ذلك أنّ الحقَّ لها، وليس التألُّم أو الانتفاع إلاَّ لها، وغيرها لا يصطلِي بنار الزوج الشقيِّ أو غيره.
أيّها الإخوة: ومِن ظلمِ الجاهلية للمرأة أنّ المرأةَ إذا توفِّي عنها أبوها، وكان هذا وليًّا لها، وكانت المرأةُ ذاتَ مالٍ وجمال، فإنه يحُول بينها وبين أن تتزوَّج الآخرين، رضيَت بزواجه أو لم ترض؛ لأنّه إذا كانت قريبتَه وكان لها مال وشارَكها في المال وأصبَحت الأموال مالاً واحدًا، عند ذلك يمنعُها من التزوّج بكُفء خطَبَها، فيريدها لنفسه أو لأولاده، رضيَت المرأة أو لم ترضَ، هو لا يسمَع لها صوتًا، ولا يَقبَل لها رأيًا، وإنما يتصرَّف تصرّفاتٍ من قبَل نفسِه خوفًا من أن ينتقِلَ المال إلى الآخرين، ويأتي زوج ليس من الأقارب، فيشارِكهم في الثروة والمال.
وإن تكُن دَميمةً لكنها ذاتُ مال حالَ بينها وبين أن يتزوَّجها الآخرون، وهو لا يريدها لنفسه، بل يبقيها، عسى أن تموتَ، فيرث كلَّ المال.
هذه تصرُّفاتُ الجاهلية، قال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ) [النساء:127]، تذكر عائشةُ -رضي الله عنها- "أنَّ هذه الآية في اليتيمة تكون في حِجر وليِّها، إن رأى جَمالاً ومالاً طمع فيها ومنَعها أيَّ الأزواج حتى يظفَر بها، وإن رأى دمَامةً ومالاً مَنعَها من الزّواج رغبةً في مالها".
هكذا كانت حالُهم، فجاء الإسلام ليرشِدَهم أن يتَّقوا الله ويعاملُوها المعاملةَ الشرعية ولا يضرّوها ولا يتعدَّوا عليها، بل إذا تقدَّم لها الكُفءُ المناسِب منهم أو مِن غيرهم فالنبيُّ يقول: "إذا أتاكم من ترضَون دينه وخلقَه فزوّجوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير".
مِن ظلمِ الجاهليّة أنَّهم كانوا يحجرون الفتيات؛ إمَّا على أقاربهن، من بني العمِّ أو بني الخال، ولا يمكِن لهذه المرأةِ أن يتزوَّجها إلاّ قريب من أقاربها من بني عمِّها أو بني أخوالها، وإذا خطبها أجنبيٌّ عن هذا البيت لم يرضَوا بهذا الزواج، لماذا؟! لأنَّ الكِبْرَ في نفوسهم يحول بينهم وبين أن يُعطُوا المرأةَ حقَّها المناسب، والله -جل وعلا- أمرنا بقوله: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور:32]، فلا يجوز له أن يحجُرها على أناسٍ معيَّنين، وإنما يتركُها لمن تقدَّم إليها من الرجال الذين هم أكفاء لها، سواءٌ أكانوا أقاربَها أم غيرَ أقارِبها، المهمّ أن يكونَ من تقدَّم كُفئًا وأهلاً لتلك المرأة، فالواجب أن لا يُحال بينها وبين ذلك.
مِن الظّلمِ للمرأة أحيانًا تسلُّطُ بعضِ الآباء، فقد يكون للمرأة راتب ووظيفةٌ، فهو لا يرضَى أن يزوِّجَها إلى أن ينتهيَ دور وظيفَتها، لماذا؟! لأنه يطمَع في مالها، ولو خطَبها خاطب لشَرَط عليه أنَّ كلَّ ما تملِك من مالٍ فإنه حقٌّ للأب، لا يرضى أن تنتفعَ من مالها ولا بدرهمٍ واحد، لماذا؟! لأنه يريد امتصاصَ أموالها، رضيَت أم سخطت، وهذا من الظلم لها، فالواجب إذا تقدَّم الكفء أن لا يُردَّ ولا يُرجأ.
ومِن الظلم أيضًا أن يَضَعَ الأب أو الأهل عوائقَ ضدَّ الزواج، فيتقدَّم الكفء ثم تأتي شروطٌ من قِبَل الأم أو قِبَلِ الأب، مثل أن يطلُبَ كل منم أن يُخَصّ بقسطٍ من المال، فتجتمع تلك الحقوق، وتزيد على المهر بأضعافِ أضعافه، أو أن يشترطوا شروطًا فيها تعجيز، فيقال: الرجل مقبولٌ لكنَّ الزواجَ بعد مُضِيّ خمس سنين، أو أربع سنين، حتى تستكملَ الفتاة المرحلةَ الجامعيّة وحتى وحتى، وربما فات الكفءُ وظفر بغيرها، وأصبَحت تلك الفتاة عانسًا نتيجةً لهذه التصرّفات الحمقاء التي لا يقرُّها دينٌ ثم لا تقرُّها فِطرة.
أيّها المسلم: إنّ المرأةَ أمانةٌ في عُنُق أبيها أو وليِّها، عليه أن يتَّقي الله فيها، وأن يراقبَ الله فيها، وإذا تقدَّم لها زوجٌ سأل عنه: أكفءٌ في الدين والأخلاق؟! ما هي حاله وسيرتُه؟! ثم يوضّح للفتاة كلَّ شيء، أما أن ينخدِعَ فيقبل مَن أتى دونَ استفسار وسُؤال وتحرٍّ للأمور، فإنَّ هذا جنايتُه على تلك الفتاة، لا تنظُر إليه لماله أو جاهه، ولكن انظر: هل يغلِب على الظنِّ أنَّ هذا الرجلَ كفءٌ لتلك المرأة فيما يظهَر والغيب علمُه عند الله، لكن فيما يظهر بعد البحث والسؤال، هل هذا الرجل المتقدِّم كفءٌ لتلك المرأة؟! وهل يغلب على الظنِّ تناسُبُه معها؟! ثم تعطَى الفتاة صورةً واضحة جليّة عن هذا الرجل؛ عن حياته، سيرته، عمله، عُمُره، جميع ما يتعلَّق بالأمر، حتى تكون على بصيرةٍ، ثم النظر بعد ذلك وتوفيقه إليها، فإن وافقت فالحمد لله، وإن لم توافِق فإنَّ الضغُوطَ والإجبار أمرٌ منهيّ عنه شرعًا، نعم، لك أن تشيرَ -أيّها الأب- أو ترغِّب، لك أن تُقنِع، لكن ليس لك أن تضغَطَ وتجبر، وليس لك أن تقهرَ، وليس لك أن تتَّخِذ موقفًا صلبًا معها أو مع أمِّها.
إنَّ مِن الأخطاءِ أن يُعاقَبَ الأولادُ نتيجةً لسوءِ العشرة بين الأب والأمّ، فيذهب الأولادُ ضحيَّةً لهذه التصرُّفات الخاطئة بين الأبوَين، الواجبُ تقوَى الله في الجميع، ومراعاةُ مصالح الجميع، وأن نتَّقي الله في أمورنا، ونخاف الله في بناتِنا، ونستعينَ بالله، ونطبِّق شرعَ الله، حتى نسلمَ من هذه التَّبِعات وهذه المرافَعات لدى المحاكم الشرعيّة، في أمورٍ لو عَقلها الأبوان وعقلَها أهلُ الزوج والزوجة وسَعَوا في حلّ هذه المشكلة لأمكن أن تنتهيَ بلا حاجةٍ إلى هذه المرافعات الطويلة وإلى هذه السّلبيّات المترتّبة على هذا النزاع، والذي يذهبُ ضحيَّتَه الأبناءُ والبنات.
أسأل الله للجميع التوفيقَ والهداية والعونَ على كلِّ خير، وأن يوفِّقنا جميعًا لمعرفة الحقّ واتّباعه، وأن يجعلنا جميعًا ممّن يستَمعون القولَ فيتّبعون أحسَنَه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فيا أيّها الناس: اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها المسلم، أيّها الوليُّ للفتاة: عندما يتقدَّم لها كفءٌ فتحولَ بينه وبينها نظرًا لقلَّة مادَّته أحيانًا، أو تريد إهانةَ الأمّ أحيانًا، أو تريد معاقبَةَ البنت نظرًا لسوءِ العِشرة بينك وبين أمِّها تارة، فاعلم أنّه بردّك للكفء تعلّق بك أمور:
أوّلاً: أنك ظلمتَ تلك الفتاةَ بمنع الكفء المتقدِّم لها، فكنتَ ظالمًا ومسيئًا، وتتحمّل التبعات والأوزار.
ثانيًا: ظلمتَ نفسَك، فارتكبتَ الخطأ ومعصيةَ الله؛ إذ الله جعلك راعيًا وأمينًا، فخنتَ الأمانة، ولم تقم بحقّ الرعاية.
ثالثًا: ظلمتَ ذلك المتقدِّم، فحُلتَ بينه وبين حقِّه المشروع: "إذا أتاكم من ترضَونَ دينَه وأمانَتَه فزوِّجوه، إلاَّ تفعلُوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".
أيّها الأب، أيّتها الأم: إنّ الشروطَ والتي تسبِّب عجزَ الزوج أو عدمَ قُدرته على تحمُّل ما تشترِطون هذا ظلمٌ منكم، العاقلُ من الرّجال ومن الأمّهات مَن يحمَد الله إذا تقدَّم لابنته كفءٌ في الدّين والخلق، يحمد الله على هذه النعمة، ويقول: الحمدُ لله الذي يسَّر الأمر، والحمدُ لله الذي أراني فتياتي وقد زوَّجتُهن، والحمدُ لله الذي ساقَ الأكفاء لهنّ.
أمّا معوِّقاتٌ كثيرة، وشروطٌ تعجيزيّة، وأمور لا قيمةَ لها، في الحقيقةِ هذه أمورٌ ينبغي تركُها وعدمُ جعلها سببًا في ردِّ الأكفاء.
فاستعِينوا بالله على الخير، وتعاوَنوا على البرّ والتقوى، وقوموا بواجبِ البنين والبنات، لعلّكم تفلحون.
وصلّوا جميعًا على نبيِّكم محمّد –صلى الله عليه وسلم- سيِّد الأولين والآخرين، وإمام المتَّقين، كما أمركم ربكم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي