إنَّ الثورةَ المعلوماتيةَ التي فتحتِ البابَ على مصراعيه لكلِ طيبٍ وخبيث، ولكلِ فكرٍ ومعتقد، أسهمتْ في تلقي فئات المجتمع جرعاتٍ معلوماتيةً مبعثرة؛ تسربَ منها التشكيكُ في الثوابتِ، وقُدِّمَ من خلالِها الإلحادِ على...
خرجَ منْ مدينتِه حاملًا همًا عظيمًا، وعملًا ثقيلًا، ذهبَ والدنيا مظلمةٌ في وجهِه، تخالطُه الظنون، وتقودُه الشكوك، والحيرةُ باديةٌ على وجهِه، ومُحيَاه، وبينمَا كانت الشمسُ تغربُ عن الأفق إذْ وصلَ مبتغَاه، ودخلَ بلدةً طيبة، ومدينةً مطمئنة، أحسَّ براحةٍ إذ دخلَها، وسكينةٍ إذ سارَ بين أزقتِها، وبينمَا هوَ يمشي بينَ بيوتِها ومزارعِها، سمعَ صوتًا جميلًا، ونورًا مضيئًا يتغنَّى بصوتٍ خاشع: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ)[الطور: 35-37].
مَا أجملَ النورَ بعدَ الظلام، وما أجملَ اليقينَ بعدَ الشك، خرجَ من مدينتِه الأولى مشركًا عنيدًا فعادَ مؤمنًا موحدًا، أتى ضالًا مشككًا فرجعَ مهتديًا موقنًا؛ إنه بردُ اليقينِ إذا خالطَ القلوب؛ إنه الإيمانُ إذا خالطَ الروح.
تلكمْ -يَا عبادَ اللهِ- قصةُ إسلامِ الرجلِ الوجيه: جبيرُ بن المطعمِ القرشي، حيثُ حدثَ عنه البخاريُ في صحيحِه قال: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ)[الطور: 35-37] كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ".
اللهُ أكبر! تأملُوا الحجةَ العقليةَ الباهرةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ).
حججٌ عقليةٌ عظيمة امتنَ اللهُ بهَا على رسلِه، فقالَ تباركَ وتعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)[الأنعام: 83].
والاستعلاءُ الفكريُ سمةٌ منْ سماتِ الإسلامِ لله، وصاحبُ الحقِ يجادلُ أحيانًا ليقمع لا ليقنع؛ كمَا فعلَ خليلُ الرحمنِ عندمَا ناظرَ أحدَ الموغلينَ في الكفر، فقال: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فردَ المارد: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) فأبهتَه الخليلُ -عليهِ السلام-: (فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)[البقرة: 258] في معركةٍ عقليةٍ انتصرَ فيهَا الخليلُ -عليهِ السلامُ- بقوةِ المنطق، وصلابةِ الدليل.
وهذهِ المعركةُ التي خاضَها نبيُ اللهِ إبراهيمُ -عليهِ السلامُ- إنمَا كانتْ أولى جولاتِ المعركةِ لا نهايتها، فهيَ معركةٌ كتبَ اللهُ لهَا أنْ تتجدد، وأنْ تبقى مَا بقيَ التوحيدُ والشركُ؛ ولهذَا خلدَها اللهُ في كتابِه؛ ليقتفيَ أتباعُ الخليلِ -عليهِ السلامُ- هداه في مقارعةِ شبهاتِ الإلحادِ بأدلةِ الوحي منَ العقلِ والسمع.
أيها المؤمنون: الإلحادُ اليومَ جديدٌ قديم؛ جديدٌ بشكلِه، ووسائلِه، ومؤسساتِه، فإنه اليومَ غدا مؤسسيًا، وهنا مكمنُ خطورتِه، وتعاظمُ شرِه.
وهذا الارتكاسُ الإلحاديُ الذي حلَّ في هذه الأزمانِ ليسَ وليدَ اللحظة، فقدْ عصفَ بالأمةِ مثلُه في أزمانٍ غابرة، يصفُها ابنُ القيمِ -رحمَه اللهُ تعالى-: "فعظمتِ البلية، واشتدتِ المصيبة، وصارَ أذكياءُ العالمِ زنادقةَ الناس"، ولئنْ كانَ اللهُ قدْ قيضَ لهذهِ الأمةِ جهابذة، يذبونَ عن دينِها غُثاءَ الإلحادِ آنذاك، فإنَّه اليومَ صارَ يتسللُ إلى هذه الأمةِ عبر معركةِ الأفكار، وحربِ العقائدِ بوسائلَ جديدةٍ مبتكرة.
إنَّ تراجعَنا من مقامِ ريادةِ الأممِ لمْ يكنْ جنايةً علينا فحسب، بل امتدَّ وبالُه على البشريةِ كاملة، وتلك حقيقةٌ ينبغي أنْ نعلنَها: إننَا أصحابُ دينِ الحق، ودينِ الهدى قصرْنا في الإنسانيةِ جمعاءَ منَ الاهتداءِ والسعادةِ الدنيويةِ والأخروية، حينَ رضينَا بالاستيرادِ الفكريِّ منَ الغرب، بدلًا منْ تنويرِ الغربِ بما لدينا منَ الحقائقِ العلمية، والبراهينِ الإيمانية.
كيفَ والاعتزازُ الفكريُّ سمةٌ لهذهِ الأمة: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)[المائدة: 48]؟
بيدَ أنَّ الانهزاميةَ الثقافيةَ كانتْ بابًا للإلحاد، تسللَ منه بخفاءِ إلى مجتمعاتِنا الإسلامية.
إنَّ الثورةَ المعلوماتيةَ التي فتحتِ البابَ على مصراعيه لكلِ طيبٍ وخبيث، ولكلِ فكرٍ ومعتقد، أسهمتْ في تلقي فئات المجتمع جرعاتٍ معلوماتيةً مبعثرة؛ تسربَ منها التشكيكُ في الثوابتِ، وقُدِّمَ من خلالِها الإلحادِ على أنَّه موضةٌ فكريةٌ جديدة، علاوةً على غلبةِ القيمِ العَلمانية، والحملةِ المحمومةِ في بعضِ وسائلِ الإعلامِ على الدينِ ومظاهرِه، دونَ الوعيِ بخطورةِ ذلك على الأجيالِ والمجتمع، بالإضافةِ إلى الممارساتِ المنحرفةِ باسمِ التدين، كما فعلتِ الفئةُ الضالةُ في ترهيبِ المجتمعِ وإرهابِه.
أيُّها الأحِبَّة: والانفجارُ الثقافيُّ الذي حصلَ معَ العولمةِ جعلَ أبوابَ المجتمعِ مفتوحةً لكلِّ شاردةٍ وواردة، ولكلِّ فكرةٍ وعقيدة، ولكلِّ انحرافٍ واعوجاج، ونتيجةً لهذا الواقعِ أصبحتْ عقولُنا وعقائدُنا تحتَ القصفِ الدائم، فكانتْ شظايا هذا القصفِ حيرةً عقديةً جديدة، تغذتْ من روايات، وقصص، ومقالات، وقنوات، في مشهدٍ عبثيٍّ مؤلم.
الشبابُ بشرٌ -أيها الإخوةُ في الله- طمعتْ فيهم الجهاتُ المشبوهة، والمنظماتُ الدولية، غابَ عنهمُ الرقيبُ والمثالُ الصالح، وتصارعتِ الأفكارُ أمامَهم، وتساقطتِ الرموز، مع لينِ العود، وحداثةِ السن، وقلةِ المحصولِ الشرعي، فنمتْ بذرةُ الإلحادِ بوساوسَ عابرة، يغذيها تجاهلُ الأهلِ عنهم، وتقصيرُهم في محاورتِهم؛ فتصيرُ تلكَ الوساوسُ إرادات، ثمَّ تنقلبُ إلى اعتقادات.
ووجودُ الإلحادِ مع كلِ هذه المتغيرات، وجلدِ دعاةِ الإلحادِ في الدعوةِ إليه باتَ أمرًا مسلمًا، لكنَّ الوقوفَ على حجمِه، ومدى تفشيه في المجتمع، أمرٌ في غايةِ الصعوبةِ؛ لكونِ الإلحادِ ظاهرةً تتسمُ بالتسترِ الشديدِ والخفاء.
ومسكينٌ هذا الملحدُ إلى أينَ سيتجهُ إنْ مرض؟ وإلى أينَ سيذهبُ إذا خالطتْه الهموم؟ وإلى أينَ سيمضي إنْ تكالبتْ عليه نوائبُ الدهر؟ ولذلكَ فإنَّ كثيرًا منَ الملحدينَ كانتْ نهاياتُهم مأساويةً محزنة؛ خالفُوا دينَ الفطرة، فانتكستْ فطرُهم، خالفُوا الكونَ كلَّه، وشواهدَه، وبراهينَه التي تصدعُ بكلِّ مكانٍ بأنَّ اللهَ ليسَ له شريك.
تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الأَرْضِ وَاُنْظُرْ *** إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ
عُيُونٌ مِنْ لُجَينٍ شَـاخِصَاتٌ *** بِأَبْصَارٍ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيْكُ
على ٰ قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شاهِدَاتٌ *** بِأَنّ اللهَ لَيْسَ لَهُ شَـرِيكُ
وإنَّ الأمةَ التي تجاوزتْ محنةَ الردة، وبلوى الاعتزال، ونكبةَ الخوارج، ونائبةَ الاستعمار، وانتصرتْ على جحافلِ التبشير؛ ستنتصرُ -بإذنِ اللهِ- على موجاتِ الإلحادِ المعاصرة، وستهزمُ جيوشَ أعدائِها في معركةِ العقائدِ والأفكارِ المفتوحةِ، فدينُ اللهِ ظاهرٌ ولوْ كرهَ الملحدون.
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[الصف: 32- 33].
أمَّا بعد:
أيهَا المؤمنون: إنَّ معركةَ الإلحاد معركةٌ خطيرةٌ جدًا على الأجيالِ المسلمة، على هويتِهم، وعلى عقائِدهم، فالقومُ قد اقتحمُوا جميعَ الوسائلِ الحديثة؛ لنشرِ أباطيلِهم الضالة.
وهذهِ المعركةُ تتطلبُ من الأمةِ تهيئةً مجتمعية، وأولُ منْ يُستنفرُ للدفاعِ عنْ عقيدةِ الأمةِ وحراستِها همْ علماؤُها، وأربابُ الفكر، وأهلُ الثقافة، والتربية، والرأيِ فيهَا.
إنَّه لا مناصَ من مواجهةِ الفكرِ بالفكر؛ وكما أن الهجومَ في هذه المعركةِ مفتوح، فكذلكَ ينبغي أن يكونَ الدفاعُ فيهَا، فلا تكونُ المدافعةُ فيها محصورةً على علماءِ الشريعةِ فحسب؛ بلِ الواجبُ تفعيلُ كل الطاقاتِ العلميةِ في شتى المجالاتِ المعرفيةِ: في الفيزياء، والرياضيات، والأحياء، والكيمياء، وغيرِها للتصدي لأفكارِ الإلحاد.
يَا أهلَ التربية: إنَّ منَ المهمِ الاقترابُ عاطفيًا وتربويًا من أبناءِ الجيلِ لرصدِ بوادرِ الإلحادِ قبلَ أن تعظم، وقبلَ أن تكبر، وإنَّ منْ أعظمِ سبلِ بناءِ الحصانةِ العقديةِ في نفوسِنا ونفوسِ أبنائِنا هو: تدبرُ القرآنِ بكلِّ مَا في هذه اللفظةِ من حمولةِ العلم، وكنوزِ المعرفة، وذخائرِ الهدى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)[ص: 29].
إننَا بأمسِ الحاجةِ إلى المعالجةِ القرآنيةِ لهذه القضايا؛ فليسَ تحتَ أديمِ السماءِ كتابٌ متضمنٌ للبراهينِ والآيات؛ منَ التوحيد، وإثباتِ المعاد والنبوات، وردِ النحلِ الباطلة، والآراءِ الفاسدة، مثلَ القرآن، فإنه كفيلٌ بذلكَ كله، متضمنٌ له على أتمِّ الوجوه، وأقربِها إلى العقول، كمَا يقولُه الإمامُ ابنُ القيم.
وإنَّ منَ التوصياتِ العملية: أهميةُ عقدِ الندوات والدورات في تحصينِ الشبابِ منَ الإلحاد، ومناقشةِ شبهاتِه، وضرورةُ احتواءِ فكرِ الشباب، عبرَ منتدياتٍ علمية، وصالوناتٍ ثقافية، يشرفُ عليهَا الثقاتُ المشهودُ لهمْ بالعلمِ الرصين، والاطلاعِ الواسع.
كمَا أنَّ منَ الوصايا: إنشاءُ التخصصاتِ العلميةِ الدقيقةِ في جهادِ هذا الانحرافِ العقديِّ الخطيرِ ومعالجتِه، فلا زالَ الإنتاجُ الفكريِّ الشرعيِّ لهذه الموجةِ ضئيلا، مقارنةً بالحجمِ الكبيرِ التي تبثُه موجاتِ الإلحادِ بمؤسساتِها ورموزِها في العالم.
وبعدُ -عبادَ الله- فإن الحديثَ عنِ الإلحادِ في طورِه الجديد لا يعني أنه ظاهرةٌ كبيرةٌ في مجتمعِنا، حيثُ إنَّ مجتمعَنا في مجملِه مجتمعٌ متدين، محافظٌ على ثوابتِه، مؤمنٌ بربِّه، غيورٌ على دينِه، ولله الحمدُ والمنة، ولكنه حديثٌ توعويٌ مهمٌ في مواجهةِ الموجاتِ الإلحاديةِ من الشرقِ والغربِ التي تستهدفُ مجتمعَنا، والتي لا تريدُ بنَا ولا بأبنائِنا خيرًا.
وإني موصيكم ونفسي بالمحافظةِ على الأدعيةِ الصالحةِ في خلواتِنا، ادعوا لأنفسِكم بالثباتِ كثيرًا، وادعوا لأبنائِكم بالهدايةِ واليقين، وادعوا لبلدِكم بالأمنِ والإيمان، ولإخوانِكم بالسلامةِ والإحسان.
اللهم يَا وَلِيَّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مَسِّكْنا بالإسلامِ حَتَّى نَلْقَاكَ عليه يَا ربَّ العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي