إن الله خلق الخلق؛ ليعرفوه ويعبدوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه؛ ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه؛ ليتَّقوه بصالح الأعمال. ولهذا؛ كرر -سبحانه وتعالى- في كتابه ذكر..
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن الله خلق الخلق؛ ليعرفوه ويعبدوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه؛ ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه؛ ليتَّقوه بصالح الأعمال.
ولهذا كرر -سبحانه وتعالى- في كتابه ذكر النار، وما أعده فيها لأعدائه من العذاب، وما احتوت عليه من الزقوم والحميم والسلاسل والأغلال، إلى غير ذلك مما فيها من العظائم والأهوال، ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه، والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه.
عباد الله: والخوف من الله ورد كثيرًا في نصوص الشرع، فلقد ذكر الله -تعالى- في كتابه آيات كثيرة تدل على عِظَم شأن الخوف، وأنه منزلة لازمة للمؤمن في حياته الدنيا؛ لكي يصل إلى رضا الله -تعالى- وجنته، وكلما زاد خوف العبد من ربِّه زاد عمله، وقل عُجْبه، وقلت معصيته؛ وكلما قلَّ خوف العبد من ربِّه نقص عمله، وزاد عجبه، وكثرت معصيته.
فالخوف صفة بارزة من صفات عباد الله الصالحين، لا غنى لهم عنها في مسيرهم إلى الله -تعالى-؛ فتراهم يؤدون حقوق الله وهم خائفون وجلون من عدم قبولها، وقد ورد عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)[المؤمنون:60]، قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يُقبَل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات"(رواه الترمذي).
فهم أحرص الناس على طاعة ربهم، والمسارعة إلى رضاه، والبعد عن معصيته، والفرار من سخطه وغضبه؛ إلا أنهم يخافون من عدم قبول أعمالهم.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "إن الخوف من المقامات العلية، وهو من لوازم الإيمان؛ قال -تعالى-: (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران:175]، وقال -تعالى-: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)[المائدة:44]، وقال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر:28]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية".
وكلما كان العبد أقرب إلى ربِّه كان أشد له خشية ممن دونه، وقد وصف الله -تعالى- الملائكة بقوله: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)[النحل:50]، والأنبياء بقوله: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ)[الأحزاب:39]، وإنما كان خوف المقربين أشد؛ لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم، فيراعون تلك المنزلة".
ولذا كان خوف إمام المرسلين، وقدوة العالمين نبيِّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- عبرةً للمسلمين جميعًا؛ كي يتعلموا منه، ويأخذوا حذرهم من الغفلة والإعراض عن الله، وهو مَن هو -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم!-.
هو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون؛ أطت السماء، وحُقَّ لها أن تئط، والذي نفسي بيده! ما فيها موضع أربعة أصابع، إلا وملك واضع جبهته ساجد لله، والله! لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرشات، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله"(رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني).
أيها المسلمون: إن المؤمن في هذه الحياة لا غنى له عن أمرين؛ حتى يلقى الله -تعالى-: الخوف والرجاء، فهو يحب ربه ويرجوه، ويخافه ويخشاه ولا يعصيه، وهما جناحان لا غنى للعبد عنهما، كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتمَّ طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.
ولقد جاء في السنة موقف من مواقف تعليم النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- لأُمَّته عن هذين الأمرين؛ لكي يقف العبد عندهما ويجعلهما نُصْب عينيه، فلا يغفل عنهما؛ فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على شاب وهو في الموت، فقال: "كيف تجدك؟"، قال: أرجو الله يا رسول الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف"(رواه الترمذي وصححه الألباني).
عباد الله: وللخوف من الله فوائد كثيرة وثمرات عديدة يعود أثرها على المؤمن في الدنيا والآخرة، ومن ذلك:
الثمرة الأولى: أن الخوف من الله سببٌ للفوز بالجنة والنجاة من النار، والأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.
الثمرة الثانية: أن الخوف من الله دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام، ويثمر محبة الله وطاعته.
الثمرة الثالثة: أن الخوف من الله سببٌ لسعادة العبد في الدارين، وهو دليل على صفاء القلب وطهارة النفس، وهو سبب لهداية القلب.
الثمرة الرابعة: أنه يبعد الإنسان عن الوقوع في المعاصي والسيئات، كما أنه يجل الإنسان يخلص عمله لله -تعالى- ولا يضيعه بالترك أو
المعصية.
الثمرة الخامسة: والخوف من الله يورث المسلم الشفقة على الخلق. ويحمل الإنسان المسلم على التخلُّق بالأخلاق الحسنة، وتجنُّب الكِبْر والعُجْب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون:57-61].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام رسول الله؛ وبعد:
عباد الله: وإن الخوف من الله درجة عظيمة تدل على قوة الإيمان، ومن تأمل سير السلف الصالح من أهل العلم والإيمان من الصحابة والتابعين لهم بإحسان علم أحوال القوم وما كانوا عليه من الخوف والخشية والإخبات، وأن ذلك هو الذي أوصلهم إلى تلك الأحوال الشريفة، والمقامات السنيات؛ من شدة الاجتهاد في الطاعات، وترك المكروهات، فضلاً عن المحرَّمات.
ولقد بلغ سلفنا الصالح مبلغًا عظيمًا في هذا الباب من شدة خوفهم من الله -تعالى-: رُوي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "لو نادى منادٍ من السماء: أيها الناس، إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلاً واحدًا، لخفت أن أكون أنا هو".
فانظروا لهذا الخليفة الراشد، وقد شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، يقول إنه يخاف ألا يكون من أهل الجنة! فماذا نقول نحن وقد قصرت بنا أعمالنا، وغلبت علينا الذنوب والمعاصي؟!
ورُوي أن أبا هريرة -رضي الله عنه- بكى في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بُعد سفري، وقِلَّة زادي، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار، لا أدري إلى أيتهما يُؤخذ بي".
ونحن -والله!- في أشد الحاجة لمثل هذا الكلام أن نستشعره في قلوبنا، فإذا كان هذا الصحابي الجليل وصاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا الكلام فما نقول نحن وقد قلَّت طاعتنا، وكثرت ذنوبنا؟! فإلى الله المشتكى.
ورُوي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه جالس في أصل جبل، يخشى أن ينقلب عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه، فقال به هكذا".
ورُوي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه، فقال لي: ضع رأسي، قال: فوضعته على الأرض، فقال: "ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي!".
وها هو الحسن البصري -رحمه الله- يقول: "إن المؤمنين قوم ذلَّت -والله!- منهم الأسماع والأبصار والأبدان؛ حتى حسبهم الجاهل مرضى، وهم -والله!- أصحاب القلوب، ألا تراه يقول: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)[فاطر:34]، والله! لقد كابدوا في الدنيا حزنًا شديدًا، وجرى عليهم ما جرى على من كان قبلهم".
وعن عمر بن عبد العزيز، قال: "مَن خاف الله، أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله، خاف من كل شيء".
وقال إبراهيم التيمي: "ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار؛ لأن أهل الجنة قالوا: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)[فاطر:34]، وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف ألا يكون من أهل الجنة؛ لأنهم قالوا: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)[الطور:26]".
وروى حفص بن عمر، قال: بكى الحسن، فقيل: ما يبكيك؟ قال: "أخاف أن يطرحني غدًا في النار ولا يبالي".
وقال يزيد بن حوشب: "ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما".
وقال أبو سليمان الداراني: "أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله -عزَّ وجلَّ- وكل قلب ليس فيه خوف، فهو قلب خرب".
ولو نظر كل منَّا لنفسه وحاسبها، لوجد أنه يقع في كثير من المعاصي وهو لا يشعر، وهذا من الغفلة العظيمة عن محاسبة النفس.
عباد الله: عظموا ربكم ووقروه، واقدروه حق قدره، واحرصوا على الخوف منه، فمن خافه واتقاه، رضي عنه وأرضاه، وأنجاه من سكرات الموت، وعذاب القبر، وكربات يوم العرض.
واعلموا أن الدنيا أيام قليلة، وأن من خاف ربه حسن عمله، فاتقوا الله وتزودوا للقاء الله، واحذروا من الغفلة والركون إلى الدنيا، وكثرة المظالم؛ فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.
أسال الله -تعالى- بمنِّه وكرمه أن يرزقنا خشيته في السر والعلن، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي