شدة الحر يذكرنا بالنار العظيمة، النار التي وقودها الناس والحجارة، فأكثرنا اليوم في غفلة عن الدار والآخرة وأهوالها وشدائدها، تمر علينا الأعوام والفصول، ونعيش شيئاً من الحوادث والكروب، ونشاهد ما فيه وَعْظ لنا وتذكير، وتنبيه وتحذير، نُبتلى بما فيه عبرة وعظة، ولكننا في غفلة معرضون، لأن قلوبنا انصرفت إلى الدنيا وصارت أكبر همنا ومبلغ علمنا، جعلناها في قلوبنا ولم نجعلها في أيدينا
الحمد لله، مدبر الأكوان، أحمده سبحانه، وهو الرب الجليل عظيم السلطان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل يوم هو في شأن، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الهادي إلى صراط الملك الديان، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله –عباد الله- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واستعدوا للقدوم عليه وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واجعلوا لأنفسكم وقاية من عذابه وانتقامه، قال جلَّ وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
يا عباد الله:
لا تطمئن إلى الدنيا وزخرفها *** وإن توشَّحْت من أثوابها الحَسَنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا *** أين الذين همُ كانوا لنا سكنـا
سقاهم الدهر كأساً غير صافية *** فصيرتهم لأطباق الثرى رُهُنـا
عباد الله: (النار) كلمة تشمئز منها النفوس وتكرهها، لأن مادتها الإحراق والإتلاف، وتنبعث منها الحرارة التي تلهب الأجساد، استعملها المصلحون في النفع والحاجة، في صناعة السلاح، وطرق الحديد، وصنع الأدوات المتنوعة، واستعملها المفسدون في الضر والأذى، في إحراق الممتلكات، وإيذاء الناس، قال الله تعالى عن موسى –عليه السلام-:(إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) [طـه:10]، وقال الله تعالى –في قصة نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام:- (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:68-69]، وقال في قصة أصحاب الأخدود: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) [البروج:4-7].
واستعملها الدعاة إلى الله، وعلى رأسهم إمامهم وقدوتهم نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم-، في التخويف والتهويل، والتذكر بالنار التي في الدار الآخرة، التي أعدها الله –عزّ وجلَّ- للكافرين، ويعذب بها من شاء من عباده المؤمنين العاصين، فقد كان نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- يخوف بها في معرض حديثه عن الأمور المادية التي تحدث للناس في الدنيا من شدة حر أو شدة برد، أو وقوع معصية قولية أو فعلية، ويربطهم بالدار الآخرة ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم – قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم"، وذكر أن لها نفسين نفساً في الصيف ونفساً في الشتاء، وقال عليه الصلاة والسلام في الذي يشرب في آنية الفضة: "الذي يشرب في إناء فضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم"، وقال عليه الصلاة والسلام في معرض حديثه عن القضاء بين الناس: "إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضيَ له على نحو ما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار".
نعم –عباد الله- لا بد من تذكير الناس بالنار العظيمة، النار التي وقودها الناس والحجارة، فأكثرنا اليوم في غفلة عن الدار والآخرة وأهوالها وشدائدها، تمر علينا الأعوام والفصول، ونعيش شيئاً من الحوادث والكروب، ونشاهد ما فيه وَعْظ لنا وتذكير، وتنبيه وتحذير، نُبتلى بما فيه عبرة وعظة، ولكننا في غفلة معرضون، لأن قلوبنا انصرفت إلى الدنيا وصارت أكبر همنا ومبلغ علمنا، جعلناها في قلوبنا ولم نجعلها في أيدينا، التنافس فيها بيننا على أشده، يزعجنا فيها الغلاء، ويؤلمنا نقص الموارد وقلة العطاء، وتقلق مضاجعنا الحروب والمشاكل التي تحوم حولنا ونسمع عنها في كل ساعة، وترهبنا أسلحة الدمار الشامل –وأعني به السلاح النووي- الذي تعقد له الاجتماعات، وتبرم فيه الاتفاقيات، ويحظر على دول، ويسمح لدويلات، لماذا كل هذا؟! والأمر بيد الله فهو المتصرف وهو القابض وهو الباسط، وكل شيء بقضائه وقدره، هو القادر على إهلاك الكافرين والظالمين في أسرع من لمح البصر، وهو القادر على أن يجعل السلاح النووي برداً وسلاماً على المؤمنين، كما جعل النار برداً وسلاماً على نبيه وخليله إبراهيم، وجعل البحر يبساً وأمواجه كالجبال لنبيه وكليمه موسى –عليه السلام-، ورد الأحزاب الذين تمالؤوا على نبينا محمد –عليه الصلاة والسلام- وصحابته بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى المؤمنين القتال.
لكنه -عباد الله- ضعف الإيمان بالله، وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وضعف الفقه في الدين، وقوة الفقه في الدنيا وشؤونها، والطغيان المادي العظيم والطغيان الشهواني الرهيب الذي أصاب أمة الإسلام في هذا الزمان، وابتليت به ما لم تبتلَ به في غابر الأزمان، والوقوع الرهيب في أحضان دعاة المادة والشهوة وفي شراكهم، حتى صار التفكير والتخطيط، وصرف الأموال الباهظة عند أغلب الناس، فيما يتعلق بالأمور المادية الدنيوية، وليس للدار الآخرة حظ ولا نصيب من تفكيرهم وحديثهم وتخطيطهم وإنفاقهم، انظروا إلى العلاقات الأسرية هل هي على قوتها وشدتها السابقة؟!، أبداً، ضعفت كثيراً إلا اجتهادات فردية من قبل بعض الناس، هل علاقات الجوار وأخلاق المجاورة، مثلها فيما سبق من الزمان؟! أبداً، الغالب أن العلاقة ضعفت، وأخلاق المجاورة ساءت أو اختفت، هل التكافل الاجتماعي مثله فيما مضى، لقد ضعف وقل قدره في القلوب، فلا غرو –عباد الله- أن يقع أغلب الناس في الغفلة والصدود والإعراض عن الله والدار الآخرة.
انظروا –عباد الله- والدار الآخرة.
انظروا –عباد الله- إلى حالنا في هذه الأيام مع شدة الحر، نطلب الظل الظليل والهواء العليل والماء البارد السلسبيل، ونهرب من الحر قدر استطاعتنا، لم نعد نطيق الحر ولو لسويعات قليلة، لو انقطع عنا التيار الكهربائي لحظة، لأصبنا بالذهول ولخرجنا من البيوت، فهل نحن مع هذا الواقع، نتذكر الجنة وأنهارها وظلها وحبورها، وحورها وشرابها وطعامها، وأنسها وسرورها، ونقرأ أسباب دخولها والفوز بها، فنعمل للفوز بها ودخولها، وذلك بطاعته سبحانه وطاعة رسوله –عليه الصلاة والسلام-، وإيثار الآخرة على الدنيا، والصبر على ذلك وتحمل الأذى فيه، وهل نحن مع هذا الواقع، نتذكر جهنم ولظاها، وحرها وسمومها وطعامها وشرابها وسلاسلها وأغلالها، وزقومها وحميمها، هل نتذكر النار التي بين الله أوصافها وأسماءها وعذابها في كتابه الكريم، وبينها رسوله الكريم في سنته، وذكر أسباب دخولها والتعذيب بها، وأسباب النجاة منها، فنعمل للنجاة منها بترك معصية الله- عزَّ وجلَّ- ومعصية رسوله –صلى الله عليه وسلم-، ونّزْع الحب الأعمى للدنيا من قلوبنا، والتعامل مع ضرائها وسرائها على وفق ما بينه الله –عزَّ وجلَّ- في كتابه وبينه رسوله في سنته.
فيا عباد الله: اجعلوا أكبر همكم ومبلغ علمكم الدار التي ستنقلون إليها، والتي فيها السعادة الأبدية، أو الشقاء الأبدي، ما بالنا عنها غافلين، كأننا في هذه الدنيا من المعمرين والمخلدين، ألم نشاهد الكبير والصغير، والغني والفقير، والملك والأمير، والنسيب والوضيع، منها ينتقلون، وفي حفرة ولحد لا يتميزون، ويوم القيامة إلى ربهم يبعثون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فيا سبحان الله! ما هذه القسوة التي في قلوبنا؟! وهذا الإعراض الذي أصابنا؟! فنشكوا إلى حلنا.
عباد الله: تذكروا أسرا تعيش بينكم، لا يملكون ما تملكونه من وسائل التبريد، وإن ملكوها فلا يستطيعون دفع ما يترتب على عملها من أموال، فأعينوهم –عباد الله-، واحتسبوا الأجر من الله، وما تفعلوا من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللّهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللَّهم نبهنا من رقدة الغافلين، ومنّ علينا بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي