إن هاجس الفقر والجوع بات يطرق أبواب الدول والأمم، وإن أهم سببين لتردي أحوال الاقتصاد العالمي ومحق بركة الأموال هما الربا ومنع الزكاة، ولا بركة تلحق أموال الأفراد والدول والأمم إلا بمنع المحرمات في الاقتصاد، ومباركة الأموال بالزكاة، وهو ما ينادي به بعض علماء الاقتصاد في الغرب لمعالجة الأزمة المالية الحالية، وإنقاذ التجارة من الكساد، وإنعاش الاقتصاد قبل الانهيار
الحمد لله ذي الفضل والنعمة، والإحسان والمنة؛ هدانا لدينه وما كنا لنهتدي له لولا أن هدانا، وعلمنا ما يقربنا إليه لنعمل به، وما يباعدنا عنه لنجتنبه (فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة:239] نحمده حمداً كثيراً، ونشكره شكراً مزيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ دلت شريعته على ربوبيته وألوهيته، كما دلت مخلوقاته على عظمته وحسن صنعه (صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) [البقرة:138].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " كان أَجْوَدَ الناس، وكان أَجْوَدُ ما يَكُونُ في رَمَضَانَ حين يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكان جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كل لَيْلَةٍ من رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ من الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ " صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله ربكم وأطيعوه، واعمروا أوقاتكم بما يقربكم إليه؛ فإنه سبحانه أقرب إليكم من حبل الوريد، يحب طاعتكم، ويكره المعصية منكم، وهو عز وجل أسرع إليكم منكم.
يقول تبارك وتعالى في الحديث القدسي: " أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وأنا معه إذا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي في ملأ ذَكَرْتُهُ في ملأ خَيْرٍ منهم، وَإِنْ تَقَرَّبَ إلي شبرا تَقَرَّبْتُ إليه ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إلي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إليه بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً " متفق عليه.
ونحن -يا عباد الله- في شهر الله المبارك، يزداد فيه عفوه، وتتسع رحمته، ويكثر عتقاؤه من النار، فأروا الله تعالى من أنفسكم خيراً، واجتهدوا في العبادة، واتبعوا السنة، وأخلصوا النية؛ فلعل نفحة من نفحات الباري سبحانه تصيب أهل المساجد وأنتم فيها.. فتسعدون بها سعادة لا شقاء بعدها أبداً، ولا يفرط في التماس ذلك إلا محروم، نعوذ بالله تعالى من الخذلان والحرمان.
أيها الناس: الزكاة ركن الإسلام الثالث، وهي قرينة الصلاة في كثير من آيات القرآن، توعد الله تعالى من لم يؤدها بأن يعذب بماله الذي جمعه، وقاتل الصديق -رضي الله تعالى عنه- الممتنعين عن أدائها؛ فاستحل بمنعهم إياها دماءهم وأموالهم، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على موافقة الصديق رضي الله عنه في ذلك، وإذا عُدت مناقب الصديق رضي الله عنه فمن أهمها قتاله المرتدين ومانعي الزكاة، واشتهرت في العالمين كلمته العظيمة حين قال رضي الله عنه: " والله لَأُقَاتِلَنَّ من فَرَّقَ بين الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فإن الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ والله لو مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ على مَنْعِهَا " متفق عليه.
وما شرع الله تعالى الزكاة إلا لمصالح العباد، وإلا فهو سبحانه غني عنهم وعن أموالهم .. أوجبها لتحقيق مصالحهم، ودرء المفاسد والفتن ورفع العقوبات عنهم، ونزول البركات عليهم؛ ذلك أن الجماعة التي يؤدي أفرادها زكاة أموالهم تحظى بمحبة الله تعالى ورضوانه؛ لانقيادها لدينه وشرعه، كما أن الجماعة التي يمنع أفرادها زكاة أموالهم يحل بها سخط الله تعالى ونقمته وقد جاء في الحديث: " ولم يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إلا مُنِعُوا الْقَطْرَ من السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لم يُمْطَرُوا " رواه ابن ماجه.
وأداء الزكاة سبب من أسباب التمكين والاستخلاف في الأرض؛ إذ أخبر الله سبحانه عمن يستحقون النصر والتمكين بأنهم يؤتون الزكاة (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج:41].
وفي أداء الزكاة تطهير للجماعة ولأموالهم، ونماء لها، وبركة تلحقها بسبب أداء هذا الركن من الإسلام (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة:103]وإذا طهر كل واحد ماله بالزكاة، وباركه بأدائها عمَّت البركة في الناس، فكفتهم أرزاقهم، ورُفع الجوع والفقر والخوف عنهم، والله تعالى توعد المنفقين بالخَلَف عليهم فيما أنفقوا (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39].
إن هاجس الفقر والجوع بات يطرق أبواب الدول والأمم، وإن أهم سببين لتردي أحوال الاقتصاد العالمي ومحق بركة الأموال هما الربا ومنع الزكاة، ولا بركة تلحق أموال الأفراد والدول والأمم إلا بمنع المحرمات في الاقتصاد، ومباركة الأموال بالزكاة، وهو ما ينادي به بعض علماء الاقتصاد في الغرب لمعالجة الأزمة المالية الحالية، وإنقاذ التجارة من الكساد، وإنعاش الاقتصاد قبل الانهيار.
والبركة إذا طُرحت في شيء تكاثر بإذن الله تعالى وإن بدا للناس قليلاً، وإذا نزعت من شيء مُحق وإن بدا للناس كثيراً، وما أحوج الناس في هذا الزمن إلى استجلاب البركة إلى أرزاقهم وأموالهم التي باتت لا تكفيهم، وأعظم ما يبارك الأموال إخراج حق الله تعالى منها فريضة وتطوعاً، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: " ما نَقَصَتْ صَدَقَةٌ من مَالٍ " رواه مسلم.
وفي الزكاة تدوير للمال، وتوسيع لنطاقه أخذاً وعطاء حتى لا يكون دولة بين الأغنياء، ويحرم منه الفقراء.
إن من أهم أسباب توطيد الأمن، وإزالة الخوف، ومكافحة الجريمة: أداء الزكاة؛ لأنها تقرب المسافة بين الفقراء والأغنياء، وتسبب الألفة والمودة بينهم، وتغسل قلوب الفقراء من الأحقاد والضغائن على الأغنياء، وكثير من الثورات التي سُعرت في التاريخ البشري إنما سعرها الفقر والجوع؛ ولذلك تَعْمدُ الدول الحديثة إلى تقليص الهوة بين الفقراء والأغنياء بفرض الضرائب على الواجدين، وتشريع الضمان للمعدمين، وشتان ما بين الزكاة والضريبة؛ فالزكاة تبارك المال وصاحبه، وتبارك اقتصاد البلد الذي تُخرج فيه، والأمة التي يبارك الله تعالى اقتصادها فلن تعاني ندرة أو قلة، ولن يشكو أفرادها فقراً أو حاجة.
إن أكثر جرائم السرقة والنُهبة والغصب والحرابة والغش والتزوير إنما قام أصحابها بها أول مرة من حاجة في الغالب حتى تأصل الإجرام في نفوسهم..
والجرائم الأخلاقية كالزنا وغيره تكون أول ما تكون بسبب الفقر والجوع، إلى أن يألفها أهلها فتكون حرفتهم، والزكاة تسد هذا الباب العريض من الجرائم والفساد لو أداها أرباب الأموال كما أمرهم الله تعالى بها، ولكن شح النفس يجني عليهم وعلى غيرهم؛ فإن الخوف إن نزل بالناس عمَّ فقراءهم وأغنياهم، نسأل الله تعالى العافية والسلامة.
وفي أداء الزكاة نشر لأخلاق التراحم والتعاضد بين أبناء البلد الواحد، والأمة الواحدة، فيحس بعضهم بحاجة بعض، بخلاف المجتمعات المادية التي لا يأبه الفرد فيها إلا بنفسه وتجارته ولو هلك الناس أجمعون. والمجتمع المتراحم موعود برحمة الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا يَرْحَمُ الله من عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ " وفي رواية: " لا يَرْحَمُ الله من عِبَادِهِ إلا الرُّحَمَاءَ " رواه الشيخان، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: " الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا من في الأرض يَرْحَمْكُمْ من في السَّمَاءِ " رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وكل جماعة نالوا رحمة الله عز وجل بسبب تراحمهم فإن العقوبات ترفع عنهم.
وحري بكل مسلم أن يشكر الله تعالى على ما هداه للإسلام، وما أعطاه من المال بأن يؤدي حق الله تعالى فيه، فيباركه في الدنيا، ويجد أجره مدخراً له في الآخرة أضعافاً مضاعفة (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة:245].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ) [الرُّوم:39].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين..
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران:131-132].
أيها المسلمون: ضعف الصلة بين الأغنياء والفقراء، وقلة الواسطة الأمين الذي يسعى بينهما أدى إلى أن تقع زكاة كثير من الأغنياء في أيدي أغنياء، ويحرم منها الفقراء؛ فإن أناساً من ضعاف النفوس، والمتثاقلين عن العمل والكسب وجدوا في الزكاة تجارة وربحاً لا يكلفهم إلا دفق ماء وجوههم، فصاروا يتعرضون للأغنياء في مساجدهم وطرقهم ويرابطون عند مكاتبهم ومنازلهم يشتكون الفقر، ويتصنعون الحاجة، وبعضهم يمثلون أحوال ذوي العاهة؛ ليرق الناس لهم، ويجزلوا عطاءهم، ومنهم محتاجون ولكنهم يسألون فوق حاجتهم، وقد اعتادوا السؤال.
وحقيقة الفقراء الذين يستحقون الزكاة، ويجب أن يَلتفت الأغنياء لهم هم أهل هذا الوصف (لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة:273] وقال الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم: " ما الْمِسْكِينُ يا رَسُولَ الله؟ قال: الذي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدَّقَ عليه ولا يَسْأَلُ الناس شيئاً " رواه الشيخان.
ولو أن الأغنياء تلمسوا الفقراء بأنفسهم أو عن طريق الثقات من وكلائهم لقضي على كثير من مظاهر التسول التي انتشرت في هذا الزمن، وتزداد كل عام في رمضان بسبب أن كثيراً من الأغنياء يدفعون صدقاتهم الواجبة والمندوبة لأقرب سائل، فوجد المتسولون من يعطيهم دون تثبت أو سؤال عن حقيقة أحوالهم.
وبعض الوكلاء عن الأغنياء وجدوا في وكالتهم على الزكاة فرصة لإشباع نقصهم، وتقمص مظاهر ذوي الجاه، فيحبون ازدحام السائلين على أبوابهم، ويعطون من الزكاة من يَذِلون لهم، ولا يلتمسون أهلها المستحقين بأنفسهم، وبعضهم قد يتمادى في غيه فيحابي بها قرابته أو معارفه وليسوا مستحقين، لينال حظوة عندهم، ووجاهة في أوساطهم..
وواجب على من عنده زكاة أو هو وكيل عليها أن يتقوا الله تعالى في الفقراء المتعففين، وأن يبذلوا جهدهم في الوصول إليهم؛ فإن الزكاة لا تحقق مقصودها الذي أراده الشارع الحكيم جل وعلا بفرضها، ولا تبرأ ذمتهم منها إلا بسعيهم واجتهادهم في إيصال حق الله تعالى لمستحقيه، ومن أخلص النية في ذلك، وبذل جهده وطاقته أعانه الله تعالى، ويسر له الوصول للمستحقين المتعففين، وسيجد في هذا السعي لذة لا يعدلها لذة، يعرف معها لم شرعت الزكاة؟! ولم كانت من فرائض الله تعالى، ومن أركان الإسلام العظام؟!
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي