الحديث عن أسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ حديثٌ يأخذ بالقلوب، وينقلها من عالم الدنيا، وعالم المحسوسات إلى عالم الآخرة؛ ليتعرَّف على أسماء الله -تعالى- وصفاته، فيشعر المرءُ بعظمة الله، وسلطانه ومُلكه وكبريائه، ويتعرَّف أيضاً -في المقابل- على فقره وذُلِّه، وخُضوعه لله -تعالى-.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: القرآنُ العظيم فيه من ذِكر أسماء الله -تعالى- وصفاته وأفعاله؛ أكثر مما فيه من ذِكْرِ الأكل والشرب والنكاح في الجنة، والآياتُ المُتضمِّنة لِذِكر أسماء الله وصفاته أعظم قدراً من آيات المعاد، فأعظم آية في القرآن هي "آية الكرسي" قد تضمَّنت ذلك.
وأفضل سورةٍ في القرآن هي "سورةُ الفاتحة"؛ كما ثبت ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم-، وجاء في "فضل سورة الفاتحة" قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ وَلاَ فِي الزَّبُورِ وَلاَ فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ"(رواه الترمذي).
وفيها مِنْ ذِكر أسماء الله وصفاته أعظم مِمَّا فيها من ذِكْرِ المعاد، وقد ثبت في "الصحيح" عنه -صلى الله عليه وسلم- من غير وجه: أن: "(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن"، وثبت في "الصحيح" أنه بَشَّرَ الذي كان يقرؤها ويقول: "إنِّي لأحبها؛ لأنها صفة الرحمن"، بأنَّ اللهَ -تعالى- يُحِبُّه، فتبيَّن أنَّ الله -سبحانه- يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ ذِكْرَ صفاته -تبارك وتعالى-.
عباد الله: إنَّ -تعالى- خَلَقَ الخلقَ ليعبدوه، قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56]، ولا يُمكن أن يعبدوه دون أنْ يعرفوه، والاشتغالُ بمعرفته -سبحانه- اشتغالٌ للعبدِ لِمَا خُلِقَ له، وتركُه وتضييعه إهمالٌ لِما خُلِقَ له، وقبيحٌ بعبدٍ لم تزل نِعَمُ اللهِ عليه متواترة، وفَضْلُه عليه عظيم مُتَوالٍ من كلِّ وجه، أن يكون جاهلاً بربِّه، مُعرِضاً عن معرفته، ومعرفة أسمائه الحسنى، وصفاته العلى.
وأوَّلُ فرضٍ فَرَضَه على خلقه معرفته، فإذا عرفه الناس عبدوه، قال الله -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ)[محمد:19]، ولو أراد رجل أن يتزوَّج طُلِبَ منه أن يُعرِّف باسمه وكنيته، واسم أبيه وجدِّه، وسُئل عن صغيرِ أمرِه وكبيرِه، فالله الذي خلَقَنا ورزَقَنا، ونحن نرجو رحمته، ونخاف من سخطه؛ أَولى أنْ نعرفَ أسماءَه، ونعرفَ تفسيرَها.
أيها المسلمون: والحديث عن أسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ حديثٌ يأخذ بالقلوب، وينقلها من عالم الدنيا، وعالم المحسوسات إلى عالم الآخرة؛ ليتعرَّف على أسماء الله -تعالى- وصفاته، فيشعر المرءُ بعظمة الله، وسلطانه ومُلكه وكبريائه، ويتعرَّف أيضاً -في المقابل- على فقره وذُلِّه، وخُضوعه لله -تعالى-.
وحينما نتأمل القرآنَ العظيم؛ نجد أن أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى؛ مذكورة في جميع السور، وجميع صفحات الكتاب العزيز، وأحياناً نجد حديثاً سرداً لأسماء الله وصفاته، وحديثاً عن عظمة الله -تعالى-، أو تعقيباً على آيةٍ من الآيات؛ في وعْدٍ أو وعيدٍ، أو حُكمٍ شرعي، أو حديثاً عن المكذبين والضالين، أو عن أنبياء الله ورسله، فما من أمرٍ وَرَدَ أكثرَ - في كتاب الله - من الحديث عن الأسماء والصفات.
تأمل -أخي الكريم- في الآيات الكثيرة التي تُختم بالأسماء والصفات، وهي تُختم غالباً لمعنًى مناسباً لما دلَّت عليه الآية.
ويُذكر أنَّ أعرابياً جاء فسمِع رجلاً يقرأ قولَ الله -تعالى-: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ) ثم خَتَم الآيةَ بقوله: (واللهُ غفورٌ رحيمٌ). فقال الأعرابي: لستُ قارئاً للقرآن، لكنْ: لو غَفَرَ ورَحِمَ؛ لَمَا قَطَع، ولكنْ عَزَّ فَحَكَمَ؛ فَقَطَع. فتنبَّه الرجل، وعرف أنَّ نهاية الآية قولهُ -تعالى-: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[المائدة:38]؛ ولهذا نجدُ خَتْمَ الآيةِ مُناسباً للسِّياق.
ولنتأملْ في آيةِ الزكاة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[التوبة:60]. نجد هناك مناسبةً بين خَتْمِ الآية وبدايتِها، فهنا يشعر المسلم أنَّ الله -تعالى- مُتَّصِفٌ بصفة العلم والحكمة، فهو -سبحانه- يضع الأشياء في مواضعها، إذاً خَتْمُ الآيات بالأسماء والصفات يُعطينا دلالةً؛ أن هناك ارتباطاً بين الاسم والصفة، وبين ما سبق من الآية.
عباد الله: إنَّ الله -تبارك وتعالى- أمَرَنا أن ندعوه بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى؛ كما في قوله: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)[الأعراف:180]، فهذا بيانٌ لعظيمِ جلاله، وسعةِ أوصافه، بأنَّ له الأسماءَ الحسنى، أي: له كلُّ اسمٍ حَسَن، وضابطُه: أنه كلُّ اسمٍ دالٍّ على صفةِ كمالٍ عظيمة، وبذلك كانت حسنى، فإنها لو دلَّت على غير صفة، أو كانت عِلماً محضاً لم تكن حُسنى، وكذلك لو دلَّت على صفةٍ ليست بصفةِ كمال؛ إمَّا صفة نقص، أو صفة منقسمة إلى المدح والقدح؛ لم تكن حُسنى، فكلُّ اسمٍ من أسمائه -تبارك وتعالى- دالٌّ على جميع الصفة التي اشْتُقَّ منها، مستغرقٍ لجميع معناها.
فتأمل اسمَه (الْعَلِيم)؛ فقد دلَّ: على أنَّ له عِلماً محيطاً عامًّا لجميع الأشياء، فلا يخرج عن عِلمه مِثقالُ ذرةٍ في الأرض ولا في السماء. وتأمل اسمَه (الرَّحِيم)؛ فقد دلَّ: على أنَّ له رحمةً عظيمة، واسعةً لكلِّ شيء. وكذلك (الْقَدِيرُ)؛ فقد دل: على أنَّ له قُدرةً عامة، لا يُعجزها شيء، ونحو ذلك.
ومن تمام كونها "حسنى" فلا يُدعى إلاَّ بها، ولذلك قال: (فَادْعُوهُ بِهَا)، وهذا شاملٌ لدعاءِ العبادة، ودعاءِ المسألة، فيُدعى في كلِّ مطلوبٍ بما يُناسب ذلك المطلوب، فيقول الداعي - مثلا: اللَّهم اغفر لي وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم. وتب عَلَيَّ يا تواب. وارزقني يا رزاق. والطف بي يا لطيف، ونحو ذلك.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "يسألُ في كلِّ مطلوبٍ باسمٍ؛ يكون مُقتضياً لذلك المطلوب، فيكون السائلُ مُتوسِّلا إليه بذلك الاسم، ومَنْ تأمَّل أدعيةَ الرسل -ولا سيما خاتمهم وإمامهم- وجَدَها مطابقة لهذا".
الحمد لله..
أيها المسلمون: الدعاء بأسماء الله -تعالى- وصفاته؛ تترك آثاراً على النفس، منها:
1- كَثرةُ الثناءِ على اللهِ -تعالى-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-"(رواه الطبراني).
2- الأثر الإيجابي في النفس: عندما يدعو بالأسماء والصفات، تأملْ معي هذا الدعاء: "اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"(رواه البخاري). فهذا يدعوه إلى اليقين بالإجابة، واليقينُ بالإجابة سببٌ من أسباب إجابة الدعاء.
3- تحقيقُ العبوديةِ لله -تعالى-: والخضوع له، والافتقار بين يديه –سبحانه-؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ"(رواه أبو داود والترمذي). فالعبادة تجتمع في الدعاء؛ لأنَّ فيه الفقرَ والذلَّ والخضوعَ بين يدي اللهِ -تعالى-.
4- تعظيمُ اللهِ -تعالى-: فالمسلم الذي يعلم بأنَّ الله -تعالى- حليم، وغفور، وكريم، وفي المقابل شديد العقاب، وأنه يبطش ويمكر بمَنْ يمكر، وأنه -سبحانه- يكيد للكافرين، ولا يُعجزه شيء، إذا أراد شيئاً قال له: "كن" فيكون. وهو -تعالى- يسمع، ويُبصر خائنة الأعين وما تُخفي الصدور. فهذا كلُّه يزيده تعظيماً لله -تعالى-، وخضوعاً له، وخوفاً منه، ورجاءً له.
مع ملاحظة: أن حِلمَ اللهِ -تعالى- وكرمَه وعفوَه ومغفرتَه لا يُمكن أنْ يطمع بها كافر ومُعرِض؛ كما قال -سبحانه-: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ)[الحجر:49-50]. وقال -سبحانه-: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)[البروج:12-16].
5- احتقار المخلوق: الذي لا يُساوي شيئاً أمام عظمة الخالق -جلَّ في عُلاه-، قال اللهُ -تعالى- مُحَذِّراً من دعاء المخلوقين: (ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)[فاطر:13-14].
6- المُسارعةُ إلى التوبة: وذلك حينما يعلم المسلم بأن "اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ"(رواه مسلم). وهو القائل -سبحانه-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر:53]. حينما يتأمل هذه المعاني؛ فإنه سرعان ما يتوب إلى الله -تعالى-، ويُقبِل عليه، وأنه -سبحانه- رحيم رؤوف، وأنَّ الله -تعالى- سيقبَل توبته.
7- مُراقبةُ اللهِ -تعالى-: تقول عائشة -رضي الله عنها-: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ- تَشْكُو زَوْجَهَا، وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا)[المجادلة: 1]"(رواه ابن ماجه).
ثم يقول اللهُ -تعالى- في نفس السورة: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[المجادلة:7]. حينما يعلم ذلك - حقَّ العلم - لا يُمكن أنْ يتجرَّأ على المعصية.
وإذا خلوتَ بِرِيبة في ظلمة *** والنفس داعيةٌ إلى الطغيانِ
فاستحي من نظر الإله، وقُلْ لها *** إنَّ الذي خَلَقَ الظلامَ يراني
وصلوا وسلموا..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي