كلمة التوحيد وشروطها

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
عناصر الخطبة
  1. مكانة كلمة التوحيد .
  2. مدلول كلمة التوحيد .
  3. مقتضيات كلمة التوحيد .
  4. شروط كلمة التوحيد .

اقتباس

"لا إله إلا الله" قول له معنًى جليل هو أجلّ المعاني، وحاصله البراءة من عبادة كل ما سوى الله، والإقبال على الله وحده، خضوعا وتذلُّلاً وطمعًا ورغبًا، وإنابةً وتوكلاً، وركوعًا وسجودًا، ودعاءً وطلبًا، فصاحب...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: اعلموا -رحمكم الله- أن خير الكلمات وأجلّها على الإطلاق، كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فهي الكلمة التي لأجلها قامت الأرض والسموات، وخُلِقَتْ جميع المخلوقات، وبها أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب، وشُرعت الشرائع، ولأجلها نُصبت الموازين ووُضعت الدواوين وقام سوق الجنة والنار، وانقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار، وأبرار وفجار، وهي منشأ الخَلق والأمر، والثواب والعقاب، وعنها يُسأل الأولون والآخرون يوم القيامة، وهي العروة الوثقى، وكلمة التقوى، وهي كلمة الشهادة، ومفتاح دار السعادة، وأساس الدين، وأصله، ورأس أمره، (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آلعمران:18].

وكم لهذه الكلمة العظيمة من الفضائل الجليلة، والمزايا الجمَّة، مما لا يمكن استقصاؤه ولا الإحاطة به.

عباد الله: إن الواجب على كل مسلم أن يعلم أن كلمة التوحيد: لا إله إلا الله -التي هي خير الكلمات وأفضلها وأكملها- لا تكون مقبولة عند الله بمجرد التلفظ بها باللسان فقط، دون قيام من العبد بحقيقة مدلولها، أو تطبيق لأساس مقصودها من نفي الشرك، وإثبات الوحدانية لله، مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك، والعمل به، فبذلك يكون العبد مسلمًا حقًّا، وبذلك يكون من أهل لا إله إلا الله.

وقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة، أن ما سوى الله ليس بإله، وأن إلهية ما سوى الله أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم، ومنتهى الضلال، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)[الأحقاف:5-6]، وقال -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)[الحج:62]، وقال -تعالى-: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان:13]، وقال -تعالى-: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[البقرة:254].

والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ولا ريب أن صرفَ العبادة لغير الله ظلمٌ؛ لأنه وضعٌ لها في غير موضعها، بل إنه أظلم الظلم، وأخطره على الإطلاق.

عباد الله: إن لكلمة "لا إله إلا الله" مدلولاً لا بد من فهمه، ومعنًى لا بد من ضبطه؛ إذ غير نافع -بإجماع أهل العلم- النطق بها من غير فهم لمعناها، ولا عمل بما تقتضيه؛ كما قال الله -سبحانه-: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[الزخرف:86]، ومعنى الآية، كما قال أهل التفسير، أي: إلا من شهد بلا إله إلا الله وهم يعلمون بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم؛ إذ إن الشهادة تقتضي العلم بالمشهود به، فلو كانت عن جهل لم تكن شهادة، وتقتضي الصدق، وتقتضي العمل بذلك.

وبهذا يتبين أنه لا بد لهذه الكلمة العظيمة؛ كلمة التوحيد، من العلم بها، مع العمل والصدق؛ فبالعلم ينجو العبد من طريقة النصارى، الذين يعملون بلا علم، وبالعمل ينجو من طريقة اليهود الذين يعلمون ولا يعملون، وبالصدق ينجو من طريقة المنافقين الذين يظهرون ما لا يبطنون، ويكون بالعلم والعمل والصدق من أهل صراط الله المستقيم، من الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

عباد الله: إن شهادة "لا إله إلا الله" لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيًا وإثباتًا، واعتقد بذلك، وعمل به، أما من قالها وعمل بها ظاهرًا من غير اعتقاد فهو المنافق، وأما من قالها وعمل بضدها وخالفها من الشرك فهو الكافر، وكذلك من قالها وارتد عن الإسلام بإنكار شيء من لوازمها وحقوقها فإنها لا تنفعه، وكذلك من قالها وهو يصرف أنواعًا من العبادة لغير الله؛ كالدعاء والذبح والنذر، والاستغاثة والتوكل، والإنابة والرجاء، والخوف والمحبة، ونحو ذلك؛ فمن صرَف ما لا يصلح إلا لله من العبادات لغير الله فهو مشرك بالله العظيم، ولو نطق بـ"لا إله إلا الله"؛ إذ  إنه لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والإخلاص، الذي هو معنى ومدلول هذه الكلمة.

عباد الله: إنَّ شهادة "لا إله إلا الله"، معناها: لا معبود بِحَقٍّ إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له، والإله في اللغة هو المعبود، ولا إله إلا الله، أي لا معبودًا بحق إلا الله، كما قال الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:25]، مع قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النحل:36]، فتبين بذلك أن معنى الإله هو المعبود، وأن لا إله إلا الله، معناها إخلاص العبادة لله وحده، واجتناب عبادة الطاغوت.

ولهذا لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لكفار قريش: "قولوا لا إله إلا الله"، قالوا: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)[ص:5]، وقال قوم هود لنبيهم لما قال لهم قولوا: لا إله إلا الله، (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)[الأعراف:70]، قالوا ذلك وهو إنما دعاهم إلى لا إله إلا الله؛ لأنهم فهموا أن المراد بها نفي الألوهية عن كل مَنْ سوى الله، وإثباتها لله وحده لا شريك له، فـ"لا إله إلا الله" اشتملت على نفي وإثبات، فنفت الإلهية عن كلِّ ما سوى الله تعالى؛ فكل ما سوى الله من الملائكة والأنبياء -فضلاً عن غيرهم- فليس بإله، وليس له من العبادة شيء، وأثبتت الإلهية لله وحده، بمعنى أن العبد لا يأله غيره، أي: لا يقصده بشيء من التألُّه، وهو تعلّق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة؛ كالدعاء والذبح والنذر، وغير ذلك.

عباد الله: "لا إله إلا الله" اسم لمعنى عظيم، وقول له معنى جليل هو أجل المعاني، وحاصله البراءة من عبادة كل ما سوى الله، والإقبال على الله وحده؛ خضوعا وتذلُّلاً وطمعًا ورغبًا، وإنابةً وتوكلاً، وركوعًا وسجودًا، ودعاءً وطلبًا، فصاحب لا إله إلا الله لا يَسأل إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يرجو غير الله، ولا يذبح إلا لله، ولا يصرف شيئًا من العبادة لغير الله، ويَكْفُر بجميع ما يُعبَدُ مِن دون الله، ويبرأ إلى الله مِن ذلك، فهذا -عباد الله- هو صاحب لا إله إلا الله حقًّا، وهو المحقِّق لها صدقًا.

اللهم اجعلنا من أهل لا إله إلا الله، اللهم أحينا عليها، وتوفنا عليها، اللهم وفقنا للقيام بها حق القيام، وأدخلنا اللهم بها الجنة دار السلام.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

عباد الله: إن النصوص الواردة في فضل كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" كثيرة لا تُحْصَى، وهي تدلُّ على عِظَمِ شأن هذه الكلمة، وجلالة قدرها، ورفعة شأنها، وكثرة خيراتها، وبركاتها على أهلها.

لكن على العبد أن يعلم أن "لا إله إلا الله"، لابد لها من شروط يجب تحقيقها، وضوابط عظيمة لا بد من القيام بها، دلّ عليها كتاب الله العزيز، وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

سئل وهب بن منبّه -رحمه الله- وهو من أجلَّة التابعين، قيل له: "أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة، قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئتَ بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلَّا لم يفتح"، يشير بذلك إلى شروط لا إله إلا الله.

وقيل للحسن البصري -رحمه الله-، وهو من أجلة التابعين، قيل له: "أليس مَن قال لا إله إلا الله دخل الجنة، قال: بلى، من أدى حقها وفرضها دخل الجنة".

والشاهد -عباد الله- أن كلمة التوحيد، لا إله إلا الله لها شروط لا بد من ضبطها، والعناية بها، والاهتمام بتحقيقها.

والعلماء -رحمهم الله- لما استقرءوا كتاب الله، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، تبين بهذا الاستقراء أن لا إله إلا الله، لها شروط سبعة لا تقبل إلا بها: العلم بمعناها المنافي للجهل، واليقين بها المنافي للشك، والصدق المنافي للكذب، والإخلاص المنافي للشرك والرياء، والمحبة المنافية للبغض، والانقياد المنافي للتَّرْك، والقَبُول المنافي للرد.

فهذه شروط سبعة لهذه الكلمة العظيمة، دلّ على كل واحد منها عشرات الأدلة في كتاب الله -عز وجلّ-، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والواجب علينا -عباد الله- أن يكون اهتمامنا بهذه الكلمة أكبر الاهتمام وأعظمه وأجلّه، وأن يكون اهتمامنا بها أعظم من اهتمامنا بأي شيء آخر.

نسأل الله -عز وجلّ- أن يوفّقنا وإياكم للعمل بهذه الكلمة العظيمة، وتحقيق شروطها، والقيام بحقوقها، وأن يدخلنا وإياكم بها الجنة.

هذا وصلوا سلموا على رسول الله...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي