الرغبة بما عند الله تثمر في حياة المسلم السعادة والسكون والطمأنينة والراحة، وتستقيم الجوارح على طاعة الله، وتشمر النفس إلى الأعمال الصالحة، وتملأ بالشوق والحنين والرغبة إلى ما عند الله، عند ذلك تتصاغر في...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: مع كثرة ما تتزين به هذه الدنيا من متاع ونعم لا تعد ولا تحصي، ومع كثرة ما يحتاجه المسلم وتتطلع نفسه إليه من أشياء ومتطلبات، ومع كثرة ما يقف في طريقه من شبهات وشهوات فإن عليه أن يرغب إلى الله وإلى ما عنده، فذلك خير وأبقى، والرغبة من أعمال القلوب المتعلقة به ابتداء، والتي لها المكانة العظيمة في الدين.
والرغبة هي: إرادة الشّيء مع حرص عليه؛ فإذا قيل رغب فيه وإليه اقتضى الحرص عليه، وإذا قيل: رغب عنه اقتضى صرف الرّغبة عنه والزّهد فيه، قال تعالى: (ولَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ)[التوبة: 59].
وعن البراء بن عازب- رضي اللّه عنهما- أنّ رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- قال: "إذا أخذت مضجعك فتوضّأ وضوءك للصّلاة، ثمّ اضطجع على شقّك الأيمن ثمّ قل: اللّهمّ إنّي أسلمت وجهي إليك، وفوّضّت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك، آمنت بكتابك الّذي أنزلت، وبنبيّك الّذي أرسلت، واجعلهنّ من آخر كلامك، فإن متّ من ليلتك متّ وأنت على الفطرة " قال فردّدتهنّ لأستذكرهنّ فقلت: آمنت برسولك الّذي أرسلت قال: "قل: آمنت بنبيّك الّذي أرسلت" (البخاري).
قال العلامة ابن القيم: الرّغبة: هي الرّجاء بالحقيقة؛ لأنّ الرّجاء طمع يحتاج إلى تحقيق، أي طمع في مغيّب عن الرّجاء مشكوك في حصوله، وإن كان متحقّقا في نفسه؛ كرجاء العبد دخوله الجنّة؛ فإنّ الجنّة متحقّقة لا شكّ فيها، وإنّما الشّكّ في دخوله إليها، وهل يوافي ربّه بعمل يمنعه منها أم لا؟ بخلاف الرّغبة، فإنّها طلب، وإذا قوي الطّمع صار طلبا.
قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)[البقرة:198].
معاشر المسلمين: الرغبة صفة عباد الله من الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين؛ حيث ذكر الله -تعالى- أن من أوصافهم الرغبة فيما عنده؛ إذ قال تعالى: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ)[الأنبياء:89-90].
وكان -صلى الله عليه وسلم- أكثر الخلق رغبة في ما عند الله؛ فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيله وصبر على مرضاته وتقرب إليه بطاعته وعبادته، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس وقال: "إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله". قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خيّر، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر"(رواه البخاري).
والله -عز وجل- يقول: (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ)[الشرح:7-8].
وكان -صلّى اللّه عليه وسلّم- يقول في دعائه في آخر صلاته قبل أن يسلم: "اللهم وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة" (صحيح الجامع).
عن خبّاب بن الأرتّ -وكان قد شهد بدرا مع رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- أنّه راقب رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- اللّيلة كلّها حتّى كان مع الفجر فلمّا سلّم رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- من صلاته جاءه خبّاب فقال: يا رسول اللّه -بأبي أنت وأمّي- لقد صلّيت اللّيلة صلاة ما رأيتك صلّيت نحوها. فقال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: "أجل إنّها صلاة رغب ورهب، سألت ربّي -عزّ وجلّ- فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. سألت ربّي- عزّ وجلّ- أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها، وسألت ربّي -عزّ وجلّ- أن لا يظهر علينا عدوّا من غيرنا فأعطانيها، وسألت ربّي أن لا يلبسنا شيعا فمنعنيها" (الترمذي وقال: حسن غريب صحيح).
وكان -صلّى اللّه عليه وسلّم- يرغب أصحابه وأتباعه فيما عند الله في جميع الأحوال والظروف، عن أنس- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- قال غدوة في سبيل اللّه أو روحة خير من الدّنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم- أو موضع قدّه من الجنّة خير من الدّنيا وما فيها، ولو أنّ امرأة من نساء أهل الجنّة اطّلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحا، ولنصيفها -يعني الخمار- خير من الدّنيا وما فيها" (البخاري).
لذلك رغب الصحابة والصالحين فيما عند الله، وثبتوا على الحق وقدموا للدين أنفسهم وأموالهم، وعمروا هذه الدنيا كما أمر دينهم.
روى البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَضَرْتُ أَبِي حِينَ أُصِيبَ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. فَقَالَ: رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ. قَالُوا: اسْتَخْلِفْ. فَقَالَ: أَتَحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيًّا وَمَيِّتًا، لَوَدِدْتُ أَنَّ حَظِّى مِنْهَا الْكَفَافُ لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي، فَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي -يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ- وَإِنْ أَتْرُكْكُمْ فَقَدْ تَرَكَكُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-".
أيها المؤمنون: إن الرغبة بما عند الله تثمر في حياة المسلم السعادة والسكون والطمأنينة والراحة، وتستقيم الجوارح على طاعة الله، وتشمر النفس إلى الأعمال الصالحة، وتملأ النفس بالشوق والحنين والرغبة إلى ما عند الله، عند ذلك تتصاغر في نفس المسلم هذه الدنيا؛ فلا تفتنه شهواتها ولا تغره ملذاتها، ولا يبيع دينه ولا أخلاقه ولا قيمه ومبادئه، وفي سبيل هذه القيم يقدم كل شيء، فالعمل من أجلها غايته.
هذا حارثة بن سراقة غلام من الأنصار، له حادثة عجيبة ذكرها أصحاب السير وأصلها في صحيح البخاري؛ فقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس للخروج إلى بدر، فخرج معهم، فلما أقبلت جموع المسلمين بعد المعركة كانت النساء وكان من بين هؤلاء الحاضرين عجوز ثكلى وهي أم سراقة تنتظر مقدم ولدها؛ فلما دخل المسلمون المدينة بدأ الأطفال يتسابقون إلى آبائهم، والنساء تسرع إلى أزواجها، والعجائز يسرعن إلى أولادهن، وأقبلت الجموع تتتابع، جاء الأول، ثم الثاني والثالث، وحضر الناس ولم يحضر حارثة بن سراقة، وأم حارثة تنظر وتنتظر تحت حرّ الشمس، تترقب إقبال فلذة كبدها وثمرةَ فؤادها، كانت تعد في غيابه الأيام بل الساعات، وتتلمس عنه الأخبار، تصبح وتمسي وذكره على لسانها، ثم جاءها الخبر أن ولدها قد قتل في المعركة، فتحركت الأم الثكلى تجر خطاها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ودموعها، فنظر الرحيم الشفيق إليها، فإذا هي عجوز قد هدّها الهرم والكبر، وأضناها التعب، وقالت: "يا رسول، حارثة في الجنة فأصبر وأحتسب؟" فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلها وانكسارها، وفجيعتَها بولدها، التفت إليها وقال: "ويحك يا أم حارثة أهبلت؟! أوجنةٌ واحدة؟! إنها جنان، وإن حارثة قد أصاب الفردوس الأعلى".
فلما سمعت العجوز هذا الجواب جف دمعها، وعاد صوابها، وقالت: "في الجنة؟ قال: "نعم"، فقالت: الله أكبر"، ثم رجعت الأم الجريحة إلى بيتها، رجعت تنتظر أن ينزل بها هادم اللذات؛ ليجمعها مع ولدها في الجنة، لم تطلب غنيمة ولا مالًا، ولم تلتمس شهرة ولا حالًا، وإنما رغبت بما عند الله رضيت بالجنة ما دام أنه في الجنة يأكل من ثمارها الطاهرة، تحت أشجارها الوافرة، مع قوم وجوههم ناضرة، وعيونهم إلى ربهم ناظرة؛ فهي راضية، ولماذا لا يكون جزاؤهم كذلك؟ قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة: 111].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
عباد الله: لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها، وفنائها، واضمحلالها، ونقصها، وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف؛ فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها وهم في حال الظفر بها، وغم الحزن بعد فواتها فهذا أحد النظرين.
النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى:16-17]، وهي خيرات كاملة دائمة؛ فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل، وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان وضعف العقل والبصيرة؛ فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها إما أن يصدق بأن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى، وإما ألا يصدق؛ فإن لم يصدق ذلك كان عادماً للإيمان رأساً، وإن صدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيئ الاختيار لنفسه؛ فلتكن رغبتنا إلى ما عند الله، بعمل صالح، وتوبة صادقة، وخلق قويم، وأخوة لا تعكرها فرقة، وتسامح لا تخالطه بغضاء ولا شحناء.
اللهم إنا نسألك عيش السعداء، وموت الأتقياء ومرافقة الأنبياء، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
ثم اعلموا أن الله -تبارك وتعالى- قال قولًا كريمًا تنبيهًا لكم، وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيمًا (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي