فإذا أردت أن تعرف هل أنت من المشتاقين فاعلم أن الشوق إلى لقاء الله -تعالى- يستلزم عدم الركون إلى الدنيا، والاطمئنان إليها والرضى بها؛ فالمشتاقون حقاً إلى لقاء الله المتطلعون إلى الولوج في بحبوحة كرامته، وواسع فضله يعتبرون الدنيا محطة استعدادٍ وتزودٍ للقاء المحبوب. المشتاقون...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: كان من دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَـى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَـى لِقَائِكَ، فِي غَيْـرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ"(النسائي)، "في غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ" أي هو الشوق الناشئ عن محض المحبة لله -تعالى-.
وحسب الدعاء أنه مشتمل على لذة الشوق إلى الله -سبحانه- في الحياة الدنيا؛ والشوق إلى النظر إليه في الحياة الآخرة، ولهذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- كثير الشوق إلى ربه –جل وعلا-، ولما خيّره ربه بين متاع الحياة الدنيا وبين ما عنده اختار لقاء ربه؛ كما جاء في الحديث أنه خرج على أصحابه فقال لهم: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ الله"؛ فبكى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما حضرته الوفاة حقق هذا الشوق والحنين فقال: "بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى"(الترمذي).
أيها الناس: إن الشوق إلى الله: هو سفر القلب في طلب المحبوب -سبحانه-، ونزوعه إليه؛ فالمحب دائماً مشتاق إلى لقاء حبيبه لا يهدأ قلبه، ولا يقر قراره إلا بالوصول إليه؛ فلا محبوب عنده في الحقيقة إلا الله -سبحانه-، ولا مستحق للمحبة التامة أحداً سواه.
ولا يعرف الشوق إلا من سكن حب الله قلبه ونما فيه؛ فهذا موسى -عليه الصلاة والسلام- يقول: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه: 84]، قال بعض السلف: معناه شوقاً إليك، ويونس ينادي ربه في الظلمات: (أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- طامعاً فيما عند ربه: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[الشعراء: 82-83]؛ فكل دعاء أنبياء الله ورسله رجوع لله! وطلب لله! وتعلق بالله! وشوق لله! وحب لله!، وصدق الله إذ يقول فيهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء: 90].
وهذا الدعاء واللجوء إلى الله منهم يعبر عن شوقهم إلى الله وتلهفهم إليه؛ إذ الدعاء عبادة، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء هو العبادة"(صحيح الترغيب)، والعبادة محبة وتذلل وخضوع، يقول البراء بن عازب -رضي الله عنه-: "والشوق روح الدعاء ومحركه، ومائه وحقيقته، فمشتاق لما عنده الله ومثوبة الله، ومشتاق لله ووجه الله، وكل بيد الله ورحمة الله".
أيها المؤمنون: وإن محبة الكريم -سبحانه- والشوق إليه هي المنزلة التي شمر لأجلها المشمرون وتنافس المتنافسون؛ يقول الحسن -رحمه الله-: "والذي نفسي بيده ما أصبح في هذه القرية من مؤمن إلا وقد أصبح مهموماً محزونًا، ففروا إلى ربكم وافزعوا إليه؛ فإنه ليس لمؤمن راحة دون لقائه"، وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: "أحب الموت اشتياقا لربي"، وقال يحيى بن معاذ: "يخرج العارف من الدنيا ولا يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وشوقه إلى ربه".
أيها الأحبة: في معركة بدر صاح النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه وقال لهم: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر؛ إلا أدخله الله الجنة". فألقى عمير بن الحمام وقد حركه الشوق تمرات كانت في يده،: وقال "والله إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات"، فقاتل حتى قتل.
ولما حضرت بلالَ الوفاةُ وغشيته سكرات الموت، قالت امرأته: واكرباه، فقال لها بلال: "بل وافرحاه، غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه".
ليس في قلوب المشتاقين محبوب أعظم ولا أحب من الله -عز وجل-، فمحبته فوق كل محبة؛ كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)[البقرة: 165]، وحينما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ الله لِقَاءَه". فقالت بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: "إنا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ" قال: "ليس ذاك، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إليه مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ الله لِقَاءَهُ"(البخاري ومسلم)، وفي رواية أخرى يقول: "من أحب لقاء الله -عز وجل- أحب الله تعالى لقاءه، ومن كره لقاء الله تعالى كره الله -عز وجل- لقاءه"، فبكى القوم، فقالوا: يا رسول الله، وأينا لا يكره الموت؟ قال: "لست ذلك أعني، ولكن الله -تبارك وتعالى- قال (فَأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ)، فإذا كان عند ذلك أحب لقاء الله تعالى، والله -عز وجل- للقائه أحب، (وَأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضَالِينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ)؛ فإذا كان كذلك كره لقاء الله تعالى، والله -عز وجل- للقائه أكره".
وتأمل -أخي الكريم- قول الله -تعالى- معزياً للمشتاقين ومبشراً لهم بقرب لقائه بهم: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[العنكبوت: 5].
قلت ما سمعتم وأستغفر الله.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أيها المسلمون: الشوق أثر من آثار معرفة الله ومحبته، والمحبة أعلى منه؛ لأن الشوق عنها يتولد، وعلى قدرها يقوى ويضعف، وعلامة الشوق: السير إلى الله بالعبادة والاستقامة، وفطام الجوارح عن الشهوات التي تعيق سيره.
ولا بد من إثارة كوامن شوقك إلى الله -عز وجل- حتى تلين لك الطاعات؛ فتؤديها ذائقًا حلاوتها ولذتها، وأية لذة يمكن أن تحصلها من قيام الليل ومكابدة السهر، ومراوحة الأقدام المتعبة، أو ظمأ الهواجر، أو ألم جوع البطون، إذا لم يكن كل ذلك مبنيًا على معنى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه: 84 ]؟!.
عباد الرحمن: إن الناس في أشواقهم على ثلاثة مراتب:
الأولى: مرتبة السابقين؛ وهم أولئك الذين سمت بهم أشواقهم إلى الله ومرضاته وما أعده لأوليائه في الآخرة؛ فتعلقت قلوبهم بطاعة الله ورسوله والحياة على سبيلهما.
والثانية: مرتبة العالقين؛ وهم الذين تنازعتهم الأشواق؛ فمرة إلى متاع الدنيا الفانية وأخرى لجنة الله الغالية.
والثالثة: مرتبة الغارقين؛ وهم الذي غرقوا في حب الحياة الدنيا وتشربت قلوبهم التعلق بمتاعها الزائل؛ حتى ألهتهم عن الفضائل وأوقعتهم في الرذائل وغفلوا عن لقاء الله؛ فخسروا ما عند الله وضيعوا محبته ورضاه.
وقد لفت الله تعالى انتباهنا إلى هذه المراتب في قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)[فاطر: 32].
فكن -يا عبد الله- من أصحاب المرتبة الأولى الذين يشتاقون إلى رؤية وجه الله -عز وجل- في الجنة، فقلوبهم متلهفة لنيل هذا الشرف العظيم واللذة الكبرى، ثبت عن صهيب الرومي -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول -تبارك وتعالى-: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا؟ ألم تُدخلنا الجنة وتنجّنا من النار؟ فيُكشفُ الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم"(مسلم)؛ فيرجع المؤمن بعد لقاءَ الله والنظر إلى وجهه -تعالى-، وقد ازداد نضرة ونوراً وجمالاً، يراه أهله فيبتهجون ويبشرون به، والله يقول: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)[القيامة: 22-23].
أيها المسلمون: هذا هو الشوق؛ فإذا أردت أن تعرف هل أنت من المشتاقين فاعلم أن الشوق إلى لقاء الله -تعالى- يستلزم عدم الركون إلى الدنيا، والاطمئنان إليها والرضى بها؛ فالمشتاقون حقاً إلى لقاء الله المتطلعون إلى الولوج في بحبوحة كرامته، وواسع فضله، يعتبرون الدنيا محطة استعدادٍ وتزودٍ للقاء المحبوب.
المشتاقون يشكرون ربهم على نعمائه، ويصبرون على قضائه، ويعبدونه حتى يأتيهم اليقين، يفرّون من المعاصي، ويرجون رحمة ربهم ويدعونه خوفا وطمعا، يعيشون مع الناس بأجسادهم وقلوبهم محلقة في علياء ربهم، يعمرون أرضه بذكره وإعلاء كلمته، لا يخافون في الله لومة لائم، لو علم الملوك بحالهم وسعادتهم لقاتلوهم على تلك السعادة بالسيوف.
المشتاقون صارت أسماء ربهم وصفاته مشهدا لقلوبهم، أَنْسَتْـهم ذكر غيره، وشغلتهم عن حب من سواه، وجذبتهم إلى حبه -تعالى- وحده.
المشتاقون لربهم قلوبهم متعلقة بخالقهم في كل حين، يقول عبد الواحد بن زيد: "يا إخوتاه ألا تبكون شوقا إلى الله؟ ألا من بكى شوقا إلى سيده لم يحرمه النظر إليه".
فلنوطن أنفسنا على الشوق إلى لقاء الله، والتطلع إلى ما أعده لعباده المؤمنين، ولنحذر من لصوص الشوق وقطاع الطريق إلى الله؛ فإنهم العدو الأكبر والخطر الأعظم: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف: 28] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[المنافقون:9 ].
قلوب العارفين لها عيون *** ترى ما لا يراه الناظرونا
وأجنحة تطير بكل شوق *** فتأوي عند رب العالمينا
فانظر إلى قلبك الآن، وابحث فيه: أتجد فيه شوقاً إلى خالقك؟ وحنيناً إلى لقاء مولاك؟ ونزوعاً إلى رؤية وجهه الكريم؟ إن وجدت فافرح وازدد، وإلا فاستدرك.
وصلوا وسلموا على السراج المنير والبشير النذير؛ حيث أمركم الله؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي