لقد تواترت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة سلفاً وخلفاً على فضل القرض وثوابه، بل إنَّ القرضَ في الشريعة الإسلامية من أبرز مبادئها، وأظهر معالمها الدالة على سعيها للتيسير والتسهيل على المسلمين.
اللهم إنَّا نحمدُك ونستعينُك ونتوب إليك، ونثني عليك الخير كله، نحمدك اللهم كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، ولك الحمد كالذي تقول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمداً عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الهالكين، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغرِّ الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها الناس:
اتقوا الله ربكم فبتقواه سبحانه وتعالى تزكوا النفوس، وتصلح الأحوال، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: من الآية197] ، (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [البقرة: من الآية203].
أيها المسلمون:
من محاسن شريعتنا الغرَّاء سعيُها لتحقيق مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد، وحرصُها على إقامة المجتمع الإسلامي الفريد المتماسك المتعاضد، في بُعدٍ عن الأنانَية، وحبِّ الذات، وعدم الشعور والاهتمام بأحوال المسلمين وظروفهم.
ولذلك كله حرص الإسلام على إشاعة المحبة بين أفراد المجتمع، وتقوية الروابط والصلات والعلائق والموّدات، ولا يكون ذلك إلاّ بالتعاون والتساعد التعاضد بين أفراد المجتمع.
ومن جانبٍ آخر فقد نظّم الإسلام جوانب المعاملات في المجتمع بصورة فريدة لا مثيل لها في غيره من الأنظمة البشرية، وما ذاك إلا لأنَّ الإسلام شريعة إلهيّةٌ من الإله الحقِّ المبين سبحانه، العليم بمصالح عباده وما يدفع عنهم المفاسد ويقيهم المضار.
عباد الله:
ومن أبرز هذه الأمور التي شرعها الإسلام، ونظّمها ورغب فيها: القرضُ والسلف.
فالقرض في الإسلام من محاسن الشريعة، ومن نعم الله تعالى على البشرية؛ لأن الإنسان في هذه الحياة معرض للابتلاء والامتحان، ومعرّض لمحن الدنيا ونائبات الدهر، فقد تظهر له حاجة، أو تُلّمُ به فاقةٌ لا يجدُ ما يسدها ولاما يقضيها به، مّما قد يوقعه في الحرج والكرب والضيق.
وبهذا –عباد الله- تبرزُ مكانةٌ القرض في الشريعة، فحين يحتاجُ المسلم لمبلغ من المال؛ لحاجةٍ نازلةٍ أو فاقةٍ أو جائحةٍ فإنّ الشريعة تتيح له الاقتراض من أخيه المسلم لسدِّ حاجته، وإغناء فاقته، وتفريج كربته.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقرض من الصحابة -رضي الله عنهم- عند حاجته، قال عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي –رضي الله عنهم-: استقرض منيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً، فجاء مالٌ فدفعه إليَّ، وقال: "إنّما جزاء السلف الحمدُ والأداء". أخرجه النسائي وابن ماجة وأحمد.
كما ندب الإسلام إلى مساعدة المسلم عند حاجته، وأمرَ بإقراضه وتفريج كربته؛ حرصاً من الإسلام على ألاّ يقع المسلمُ بدافع الحاجة، في ارتكاب أمور لا تحمد عقباها؛ كالسرقة والاختلاس، ونحو ذلك من الأمور المحرمة.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كشفَ عن مسلمِ كُربةً من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
وروى النسائي وابن ماجة من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة".
معاشر المسلمين:
ولقد تواترت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة سلفاً وخلفاً على فضل القرض وثوابه، بل إنَّ القرضَ في الشريعة الإسلامية من أبرز مبادئها، وأظهر معالمها الدالة على سعيها للتيسير والتسهيل على المسلمين.
يقول الله سبحانه وتعالى:(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) البقرة:245.
وقد ذكر الله هذه الآية في كتابه مراراً مبيناً فضل القرض وثوابه، وأنه سبحانه متكفلٌ بالأجر العظيم، والثواب الكبير لمن أقرض مسلماً، ونفس عنه كربته
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوباً الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر. فقلت: يا جبريل! ما بالُ القرض أفضل من الصدقة؟. قال لأنّ السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة" رواه ابن ماجه.
وقال أبو الدرداء –رضي الله عنه- "لأن أقرضَ مسلماً دينارين ثم يردان ثم أقرضهما أحبُّ إليّ من أتصدق بهما".
وما ذاك -عباد الله- إلاّ لما في القرض من تفريج كُربِ المسلمين، وقضاء حوائجهم، والعون لهم على البعد عن الحرام.
أيها المسلمون:
وكما أمر الإسلام بالقرض وندب إليه أمر بالوفاء وحرص عليه؛ وفاءً لحقوق الناس، وشكراً لجميلهم، وعرفاناً بفضلهم.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوب أداء الدين، والنية الحسنة في قضائه، وبين أنّ مدار الأعمال على ذلك، وأنَّ من استدان الناس ناوياً الإيفاء لحقِّهم أعانه الله على قضاء دينه، فقد روى البخاري وغيره عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى".
وعند ابن ماجة والحاكم بإسنادٍ حسن أنّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله مع الدائن حتى يقضي دينه".
عباد الله:
ولكّنه ومع شديد الأسف لمّا ضَعُفَ الإيمانُ عند كثير من الناس، وضيّعوا الأمانة لم يعودوا يهتمون بوفاء ديون الناس، وإعطائهم حقوقهم، بل يماطلون صاحب الحقّ حقه، ولذلك أحجم كثيرٌ من الناس عن القرض والتسليف خوفاً على أموالهم من الضياع؛ لضعف ذِمَمِ الناس؛ حيث يأتي الإنسان إلى أخيه المسلم فيشكو إليه الحاجة والفقر حتى يقرضه على أن يرد إليه حقه بعد شهر أو بعد سنةٍ أو نحو ذلك.
فإذا استقرض منه مضى الشهر والشهران والسنة والسنون، وهو يماطله في الوفاء بحقه، حتى لربما شاب الإنسان ودخل في المتاهات التي ليس لها نهاية وهو يطالب بحقه فلا يجد وفاءً. فإذا بالجميل ينقلب على صاحبه همّا وندماً. والكثير منهم قد يجحدون الحق.
وهذا من الأمور المحرمة التي نهى الإسلام عنها، فإنما يكون جزاء الإحسان بالإحسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي الواجد يُحلُّ عِرضَه وعقوبَتَه". رواه أبو داود والنسائي وصححه وابن حبان.
والمراد بذلك: أنّ مطل الغنيِّ لحقوق الناس، يُحلُّ التظلم عليه بقوله مطلني حقي، ويُحلُّ حبسَه عقوبةً له على ذلك حتى يفي بالدَيْنِ لصاحبه.
ومثله ما ثبتَ في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: "مطلُ الغنيِّ ظلمٌ".
عباد الله:
إنّ الواجب على المسلم إذا اقترضَ من أخيه مبلغاً من المال، أو استلف منه شيئاً أن يردّه إليه شاكراً لفضله، معترفاً بجميله، سائلاً له الأجر من الله تعالى.
فقد ورد الترهيب والوعيد على عدم وفاء الحقوق والديون لأصحابها، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "توفي رجلٌ منّا، فغسلناه، وحنّطناه، وكفّناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليُصلي عليه، فخطا خطىً، ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: عليه ديناران، فانصرف، فتحملّها أبو قادة. فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران عليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حقَّ الغريمُ، وبريء منهما الميت؟. قال نعم!. فصلى عليه". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه وابن حبان والحاكم.
في رواية الحاكم: أنّه صلى الله عليه وسلم جعل إذا لقي أبا قتادة يقول: "ما صنعت الديناران، حتى كان آخرُ ذلك أن قال: قضيتُها يا رسول الله، قال: الآن بردت جلدته".
وروى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- "أنّه صلى الله عليه وسلم كان يُؤتى بالرجل المُتوفى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن حُدِّثَ أنّه ترك وفاءً صلى عليه، وإلاّ قال: صلوا على صاحبكم".
فاتقوا الله رحمكم الله، أدّوا الحقوق لأصحابها، وإيّاكم ومماطلة ذي الحقِّ حقّه، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزّينوا للعرض الأكبر على الله يومئذٍ تُعرضون لا تخفى منكم خافية، واحذروا دعوة المظلوم فإنّه ليس بينها وبين الله حجاب، واستغفروا الله وتوبوا إليه إنّه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمّا بعد: فيا أيَها الناس:
اتقوا الله تعالى واشكره وأطيعوه وراقبوه، واعلموا أنّكم ملاقوه.
عباد الله:
لقد وضعت الشريعة الإسلامية للقرض الحسن المشروع ضوابط شرعية تُحقِّقُ المقصود منه دون ضرر أو إضرار، وتُخرجه من الربا والشبهات المحرمة، ومن أهمّ هذه الضوابط:
أن يردَّ القرض كما هو دون زيادةٍ أو نقصان. وأن لا يكون القرض وسيلة وحيلة توّصله إلى المحاباة في بيع أو شراء أو نحوه. وأن لا يشترط المقرضُ شرطاً فيه ضررٌ على المقترض؛ كاشتراط الوفاء ببلدٍ معّين يكون في الوفاء فيه كُلفةٌ ومشقة على المقترض.
وذلك لما أخرجه الإمام البغويٌ من حديث العلاء بن مسلم أنّه صلى الله عليه وسلم قال: " كلُّ قرضٍ جرَّ منفعةً فهو ربا". وهذا الحديث ضعّفَه جمهور المحدثين لكنَّ العمل عند أهل العلم بما دلَّ عليه، وله من الأحاديث والآثار ما يُعضِّدَه ويُقويّه، فقد روى البيهقي بسند صحيح عن أُبيّ بن كعبٍ وابن مسعود وابن عباس –رضي الله عنهم أجمعين-: "أنّهم نخو عن قرضٍ جرَّ منفعةً".
ومثله ما رواه البخاري والبيهقي والطبراني من حديث أبي بُردةَ قال: "أتيتُ المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: ألا تجيءُ إلى البيت حتى أُطعمَك سويقاً وتمراً؟!. فذهبنا، فأطعمنا سويقاً وتمراً، ثم قال: إنّك بأرضٍ الربا فيها فاشٍ، فإن كان لك على رجلٍ دينٌ فأهدي إليك حبْلةً من عَلَفٍ أو شعيرٍ أو حبْلةً من تبن فلا تقبله؛ فإنَّ ذلك من الربا".
وعند البيهقي وصححه الألباني من حديث الأثرم: "أنّ رجلاً كان له على سمّاكٍ عشرون درهماً، فجعل يُهدي إليه السمكَ، ويُقوّمه حتى بلغ ثلاثةَ عشر درهماً، فسأل ابن عباسٍ فقال: أعطه سبعةَ دراهم".
فلا يجوز أيّها الإخوة الاقتراض بفائدة كما هو الحال في البنوك الربوية وغيرها؛ فإنّ ذلك رباً محرم.
وأمّا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي رافع -رضي الله عنه- قال: "استسلف النبي صلى الله عليه وسلم بكْرَاً، فجاءته إبلُ الصدقةِ فامرني أن أقضي الرجلَ بكْرَه، فقلتُ: يا رسول الله إنيّ لم أجد في الإبل إلا جملاً رَبَاعيّاً، فقال: أعطه إيّاه، فإنّ من خير الناس أحسنهم قضاءً".
فإنّه محمولٌ على حُسن القضاء منه صلى الله عليه وسلم، وردّه لجميل المقرض، واعترافه بفضله، وإحسانه إليه دون أن يكونَ هناكَ شرطٌ من المقرضِ أن يردَّ إليه زيادةً على قرضه. فأمّا إذا وجدَ الشرطُ بالزيادة عن الاقتراض؛ كأن يُقرضه ألفاً، ويشترطَ عليه أن يردَّ ألفين –مثلاً- فهذا هو الربا الذي لا يجوز.
فاتقوا الله تعالى أيُّها المسلمون، ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي