إن الثقة بالله هي سفينة نجاة المتقين, وحبل وصول المقربين, وسلاح الصابرين في دار الابتلاء والامتحان المبين. ومن تدبر آيات القرآن وجد منها آيات هي مثلُ قُلَلِ الجبال للمسافر في تخوم السهول والحزون! إنها...
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: أمرٌ من أمور الدين ينتظم كل أعمال القلوب وأقوالها, ولا تخلو سورة من سور القرآن المجيد بدون بنائه في قلب المؤمن التالي للقرآن.. عبادةٌ قلبية هي حصن السابقين, ومستراح العابدين, وهي مزيجٌ من قول القلب وعمله, ولها علاقة بأقوال وأعمال القلب الأخرى، فهي ثمرة العلم بالله, ومن ثمارها حسن الظن والتوكل، وبردُهَا باليقين؛ إنها الثقة بالله -تعالى- وبصدق وعده ولقائه.
وإذا كان الإيمان تصديقًا خاصًّا وإقرارًا؛ فالثقة بالله هي أصله وصلبه؛ فعلى أساسها يقوم بنيانه, وكل آيةِ إيمانٍ مهما تصرّفتْ فهي متضمنة للثقة بالله -سبحانه-.
الثقة بالله هي عمود التوكّل, وهي ساقُ التفويض التي يقوم عليها, فلا توكّلَ بدون ثقة, وعلى قدر الثقة تكون قوّة التوكّل, فلهذا العمل القلبي العظيم علاقة مطردة بالتوكل وبحسن الظن، بل بالتوحيد والعبودية ذاتها, فهي لُباب السكينة وبلسم الانشراح ودواء القلق.
الثقة بالله هي سفينة نجاة المتقين, وسلاح الصابرين في دار الابتلاء والامتحان المبين.
ومعنى الثقة بالله هو: اليقين الثابت بكمال الله بصفات الجلال والجمال, وبصدق وعده, وعظيم قدرته, وإحاطة علمه بكل شيء، فإذا استقر هذا اليقين بهذه الصفة في قلب عبدٍ فلا تسل عن كبير الثقة وتمامها في هذا القلب المؤمن الواثق بربه -سبحانه وبحمده-.
يا عبد الله: قف عند الآيات التي تبني في قلبك حصن الثقة بربك, وكل القرآن كذلك لمن وفقه الله لتلاوته حق التلاوة, فهذا القرآن شفاء لعلل القلوب وأغراض النفوس, ولا عجب؛ فالقرآن من كلام الله, وكلام الله من صفاته, وفضله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه؛ فيا ليت قومي يعلمون.
ومن تدبَّر قصص الأنبياء وجد أن عنوان الثقة بالله وبوعده موجود باضطراد في تضاعيف أحداث القصص, ولو تأملت الخيط الجامع لقصص الصالحين من المرسلين فَمَن دونهم لرأيت أن الذي ينتظم ذلك هو الثقة بوعد الله ولقائه:
فآدم -عليه السلام- تاب من فوره لثقته بكمال ربه وعظيم حسن ظنه به، وكبير خشيته منه وجليل حيائه منه، فقال مباشرة كلماته التي تلقاها من فضل ربه: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف:23].
ونوح -عليه السلام-: (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ)[الشعراء:114]، فرزقي وكفايتي وإياهم ليست عليكم بل على الله, وبنائه للسفينة في الصحراء! حتى كان مدعاة للسخرية، وما أشد وقعها على الدعاة!: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ)[هود:38]؛ لكن الواثق بربه ليس كغيره ممن ينظرون إلى ظواهر الأمور دون النفاذ لبواطنها ولم يكن يلهيهم بهرجها عن حقائقها فقال: (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ)[هود:38-39].
وخطيب الأنبياء شعيبُ -عليه السلام- قال لقومه بعدما استهزأوا به واتهموه بالسحر وتحدّوه أن يسقط عليهم السماء إن كان صادقًا, ووصموه بالضعف وتهدّدوه بالرجم وغيره فقال -وقد ملأ الله قلبه ثقةً ويقينًا-: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الشعراء:188]، فكان عذابهم أسرع وأشد مما تصوّروه: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)[الشعراء:189].
لقد ذكر الله -عز وجل- في سورة الشعراء آية كافية لملء القلب ثقةً بالله دون سواه, مهما أجلبت على الخطوب وادلهمت الحتوف, وقد قدم الله -تعالى- قصة موسى في هذه السورة على غيرها من القصص, وقد اشتملت على تلك الآية الفاذّة الجامعة المانعة, إنها قول موسى -عليه السلام- فيما ذكره عنه ربه, حينما خرج بقومه من فرعون وجيشه اللجب الكثيف, (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ)[الشعراء:60]، (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء:61-62].
لقد نظر أصحابه للحسابات المادية الأرضية, فالبحر أمامهم قد حجزهم لعدوهم الغاضب الباطش الحاذر من خلفهم, ولكن لأنبياء الله -تعالى- كلمة أخرى, ولأرواحهم موردٌ لا كموارد البشر, ولقلوبهم تعلّق وثقةٌ مطلقةٌ تامة وافية بحفظ الله أوليائه ونصره دينه: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[المجادلة:21]، فصرخ بها الكليم -عليه السلام- فيهم: (كَلَّا)[الشعراء:62]، أي ليس الأمر كما ظننتم بخذلان الله لكم, وتحدثتم بكسرة حمَلة دين الله وفنائهم؛ (إن معي ربي سيهدين)[الشعراء:62].
وتأمل لحظة إلقاء إبراهيم -عليه السلام- في النار وتسليمه أمره لله -تعالى- ثقة به, فقد أخرج (البخاري) في صحيحه عن بن عباس-رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم حين ألقي في النار, وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آلعمران:173].
أما هودُ -عليه السلام- فقد تحدى جمع الكفرة فقال بكل ثقة وتوحيد لربه القوي ذي الركن الشديد: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ)[هود:55]، لماذا هذا التحدي وما هو اللطف الذي ينتظره؟ قال: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[هود:56].
أما رسول الهدى -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه- فلا تكاد تمر على صفحة من سيرته الجليلة حتى ترى براهين الثقة برب العالمين في حاله ومقاله, قف مع قوله لصَدِيقه وصِدِّيقه: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التوبة:40]، "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما"(متفق عليه).
وكذا ثقته بربه عند تبليغه لقريش حين أنزل الله -تعالى- قوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)[الحجر:94]، وفي بدر حين قابل المشركين بجيش بلا عدد ولا عتاد حسّي, وفي أُحد حين ثبت ثبات أُحدٍ, وفي الأحزاب حين كانت يديه تعمل وقلبه معلق بربه واثق بنصره ووعده, وهو يبشر أمته بكنوز فارس والشام واليمن, وفي حنين حين صاح في الناس بكل ثقة: "أنا النبي لا كذب" وقد أدبر عنه جيشه وكاد أن يحيط به المشركون, ولكن من كان مع الله كان الله معه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المؤمنون: ذكر (البخاري في صحيحه) في سياق قصة الحديبية قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جمُّوا (أي استراحوا وأخذوا وقتًا كافيًا لاستعدادهم للحرب)، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره".
فتأمّل -يا عبد الله- هذه الثقة بالله؛ فإنها من ناصع الأمثلة بمكان، وانظر كيف أخذها صاحبه الأول عنه, فقال في حروب المرتدين وقد خُوِّف بهم: "لأقاتلنّهم حتى تنفرد سالفتي". وتأمّل ثقتَهُ بالله في إنفاذ جيش أسامة وقد أقبلت جموع الأعراب على المدينة تريد نهبها، وقد أكثر عليه كبار الصحابة أن يحبس جيش أسامة حتى يكون حامية لبيضة المسلمين في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فأبى الواثق بربه إلا إنفاذه, وكان الخير كله في ذلك.
وتأمل حال أبي بكر حينما أتى بكل ماله صدقة لله, فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أبقيت لأهلك؟" فقال: "أبقيت لهم الله ورسوله"(رواه أبو داود وحسنه الألباني).
تأمل حال الصحابة -رضوان الله عليهم- في بدر وأحد والأحزاب ومؤتة وحروب الردة وثقتهم بربهم وموعوده, وثباتهم العظيم في تلك المواقف المزلزلة, حتى استحقوا أن يُخلّد ذكر ثنائهم في سفر الخالدين, قال تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)[الأحزاب:22].
إن هذا الثقة الشامخة هي التي أهّلتهم بتوفيق الله -تعالى- إلى أن يكونوا كما قال الله فيهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب:23].
معاشر الموحدين: إن مورد عيشِ أرواح الصالحين في كل زمن: الثقة بالحافظ المدبِّر المتصرف الصادق وعده, فثق بالله -أيها الموحد الحنيف- وأبشر بألطافه التي لا يحيطها فكر ولا يقترب منها خيال!
لقد كان إمام الواثقين بربهم رسولُ الهدى -صلوات الله وسلامه عليه- يعمل على غرس الثقة في قلوب أصحابه حتى إذا زلزلتهم الخطوب وجدوها أحوج ما كانوا إليها؛ فعن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسدٌ بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها, ثم يُؤتى بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين, ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه, ما يصدُّه ذلك عن دينه, والله ليتمنَّ اللهُ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه, ولكنكم تستعجلون"(متفق عليه).
وتدبر قوله -سبحانه-: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[العنكبوت:5]، فلا إله إلا الله! كم في هذا الوعد الصادق الكريم من تثبيت لعزائم المحبين, وربط على قلوب المجاهدين بألسنتهم وأيديهم.
فيا ذا الجلال والإكرام املأ قلوبنا ثقة بك وإيمانًا وبرّا وإحسانًا, يا حي يا قيوم يا رب العالمين.
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله ..
المصدر: الثقة بالله تعالى؛ الشيخ : إبراهيم التميمي
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي