ربما يتصور بعضنا أن تحقيق الاستقامة بهذه الصورة الشاملة أمر محال، خاصة في ظل هذا الزمن الذي عصفت بالقلوب رياح الشهوات والشبهات، لكن لا بد أن نعلم أن من رحمة الله -سبحانه- بعباده المؤمنين أنه تكفل وتولى...
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:
عباد الله: في هذا الزمن الذي انتشرت فيه الشبهات، وكثرت فيه الشهوات، نحن بحاجة إلى التواصي بالالتزام بالدين، والاستقامة على ذلك حتى الممات، التذكير بهذا الأمر من الأمور المهمة التي يحتاجها المسلم في هذا الزمان.
جاء الصحابي الجليل سفيان بن عبدالله الثقفي -رضي الله عنه- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قل آمنت بالله ثم استقم"(مسلم).
أجابه النبي -عليه الصلاة والسلام- بهاتين الكلمتين التي حوت أصول الدين، وغاية ما يدرك به المسلم سعادة الدنيا والآخرة: "قل آمنت بالله ثم استقم"؛ فأوصاه بالاستقامة.
والاستقامة: هي لزومُ الطريق المستقيم، والثبات عليه في كل آنٍ وحين؛ بامتثال كل مأمور مقدور عليه واجتناب كل منهي عنه، ولهذا قرن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جوابه بين الإيمان والثبات عليه، فقال: "قل آمنت بالله ثم استقم"، قال ابن القيم: "فأمر بالاستقامة وهي السّداد، والإصابة"، يقول عمر -رضي الله عنه وأرضاه-: "الاستقامة أن تستقيم على الأمر، ولا تروغ روغان الثعالب"، يريد بذلك: أن المستقيمين ينبغي أن يداوموا على الاستقامة في جميع أحوالهم وأوقاتهم، فإذا استقام الإنسان على المنهج القويم فهذه كرامة من أعظم الكرامات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أعظمُ الكرامة لزوم الاستقامة".
أيها المؤمنون: ولأهمية الاستقامة أمرنا الله في كل ركعة من صلاتنا أن نسأله الهداية إلى الاستقامة؛ ففي كل يوم على الأقل في سبع عشرة ركعة ندعو: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة:6]؛ لأن تحقيق الاستقامة أمر فيه مشقة بالغة، ومن هنا أمرنا ربنا أن نكرر هذا الدعاء ونكثر منه.
وأمر الله -تعالى- نبيه بالاستقامة، فقال له: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[هود:112]، فمن دونه من المؤمنين أشد حاجة إلى الأمر بها والترغيب فيها، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما نزل على رسول الله آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية".
ولما أمر الله بالاستقامة حذَّر من مجاوزة المشروع فال: (وَلَا تَطْغَوْا)؛ إذ قد ينتهي الأمر بالمستقيم إلى الغلو والمبالغة، وقد أمرنا الله بالوسطية وبالاعتدال، فالاستقامة إنما تكون على ما أمر الله دون تفريط ولا غلو.
أيها الإخوة: وأصل الاستقامة؛ هو استقامة القلب على التوحيد؛ فمن استقام قلبه على توحيد الله ومعرفته ومهابته ومحبته والتوكل عليه، وخشيته في السر والعلن والإعراض عما سواه؛ فقد استقام، ومن استقام قلبه استقامتْ جوارحه كلها؛ فإن القلب هو ملك الأعضاء وهي جنوده فإذا استقام الملك استقامت الجنود، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"(رواه أحمد).
ولهذا فسَّرَ أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- الاستقامة في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)[فصلت:30] "بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره"، وسئل عن الاستقامة فقال: "أن لا تشرك بالله شيئًا، يريد الاستقامة على محض التوحيد"، وقال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: "استقاموا يعني أخلصوا العمل لله".
وأعظم ما يراعي العبد في استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان؛ فإنه ترجمانُ القلبِ والمعبِّرُ عنه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه"(صحيح الترغيب)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أصبح ابن آدم فإن أعضاءه تكفّر اللسان، وتقول: اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا"(الترمذي).
فإذا استقام قلب العبد ولسانه فعليه أن يجاهد نفسه لتستقيم جوارحه على طاعة الله، واجتناب معصيته في جميع الأحوال، والاستقامة على ذلك كله صغيره وكبيره، جليّه وخفيّه، والثبات عليه حتى الممات؛ فمن زعم أنه استقام على شرع الله -تعالى- وظاهره يخالف ذلك وتراه ربما يشير إلى صدره ويقول: "التقوى هاهنا"؛ فزعمه باطل ودعواه كاذبة، فاستقامة القلب تنقاد إليها الجوارح، فهي امتحانه ودليله، وكذا من استقام ظاهره ولم يستقم قلبه فاستقامته مخرومة، فمن عمر قلبه بفتن الشهوات وساء عمله حمل قلبًا قليل التعلق بربه ومهابته وخشيته وإجلاله وتعظيمه، والتقرب إليه بالعبادات القلبية فأنَّى لقلبه استقامة؟! ومن ساء قوله فكان كذابًا أو مغتابًا أو نمامًا أو فاحشًا بذيئًا، ونحو ذلك من آفات اللسان فأيُّ لسان استقام معه؟ ولذا فإنَّ الاستقامة تكون بالقلب واللسان والجوارح، يقول ابن القيم: "والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنِّيَّات".
أيها الناس: ربما يتصور بعضنا أن تحقيق الاستقامة بهذه الصورة الشاملة أمرٌ محال، خاصة في ظل هذا الزمن الذي عصفت بالقلوب رياح الشهوات والشبهات، لكن لا بد أن نعلم أن من رحمة الله -سبحانه- بعباده المؤمنين أنه تكفَّل وتولى بهدايتهم إلى الاستقامة وإعانتهم عليها، قال -تعالى-: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الحج : 54].
فعلى المرء أن يبذل جهده في تحقيق الاستقامة، ويسأل ربه الإعانة والعفو والغفران إذا ما قصَّر أو أخل في حياته بشيء منها، وليس مفهوم الاستقامة عدم الوقوع في الذنب، بل لا بد من الذنب ففي حديث أنس -رضي الله عنه- مرفوعًا: "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"(رواه أحمد والترمذي)، ولذا أمر الله -عز وجل- مع الاستقامة بالاستغفار من الذنب، مما يدل على أن الاستقامة قد يقع فيها خلل، وهذا أمرٌ وارد ويجبر بالاستغفار، يقول الله -عز وجل-: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ)[فصلت : 6].
وقد أخبر -عليه الصلاة والسلام- أن الناس لن يعطوا الاستقامة حقها فقال: "استقيموا ولن تحصوا"(ابن ماجه)، قال ابن عبد البر: "استقيموا" يعني على الطريقة النهجة التي نهجت لكم، وسددوا وقاربوا؛ فإنكم لن تطيقوا الإحاطة في أعمال البر كلها، ولا بد للمخلوقين من ملال وتقصير في الأعمال، فإن قاربتم ورفقتم بأنفسكم كنتم أجدر أن تبلغوا ما يراد منكم".
قلت ما سمعتم وأستغفر الله؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه ومن تبعه، وبعد:
عباد الله: إن الاستقامة على منهج الله -سبحانه- والالتزام بشرعه ظاهراً وباطناً هي السعادة في الدارين، ومن شأنها أن ترتقي بالإنسان إلى أعلى درجات التقوى والإيمان، وبها يَنَالُ المَرْءُ أعظم الكَرَامَاتِ ويَصِلُ عَبْرَها إِلَى أَعْلَى المَقَامَاتِ، ومن تأمل الآيات الواردة في موضوع الاستقامة عرف أن لها ثمرات عديدة، منها:
أولاً: الحياة الطيبة؛ وما أدراك ما الحياة الطيبة؟! إنها السعادة الحقيقية؛ سعادة الروح، وصفاء النفس، والسكينة والطمأنينة؛ فقانون السعادة والحياة الطيبة: إيمان وعمل صالح، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل: 97] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[الأنفال: 24] أي: لما فيه حياتكم وسعادتكم الحقيقية، ولا يكون ذلك إلا بالاستجابة لأمر الله ورسوله بل من أعرض عن ذلك فليس بحي بل ميت، وإن لبس الثياب، وركب السيارات، ومشى على الأرض.
ومن ثمرات الاستقامة: سعة الرزق وبركته، قال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)[الجن:16]؛ أي: كثيراً والمراد بذلك سعة الرزق، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:" أينما كان الماء كان المال".
ومن ثمراتها: الطمأنينة والسكينة، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الأحقاف:13]، وقال –تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا)[فصلت:30]، أي: لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمور الآخرة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا، فهم في طمأنينة وأمن فلا خوف ولا حزن يتسلل إلى قلوبهم، وأعظم من ذلك الطمأنينة على أعمالهم الصالحة، قال عطاء: "لا تخافوا ردَّ ثوابكم فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم".
ومن ثمراتها: حسن الخاتمة لأهلها؛ فعندَ اللحظاتِ العصيبةِ التي يفارقون فيها الدنيا، وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، يجازيهم الله -سبحانه- بأن يريهم أثر الاستقامة وعاقبتها الحميدة، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[فصلت: 30]، تتنزل عليه الملائكة عند الاحتضار والسكرات فتقول لهم: لا تخافوا مما تستقبلون من أهوال القبر والقيامة، ولا تحزنوا على ما تركتموه من أولاد وأموال، وتثبتهم.
ومن ثمرات الاستقامة: البشرى لأهلها بالجنة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأحقاف: 13-14].
والله -سبحانه- ينزل الملائكة على أهل الاستقامة لتبشرهم بالجنة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[فصلت: 30]؛ فالملائكة تتنزل عليهم بالسرور والبشرى في مواطن عصيبة، قال وكيع: "البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث"، والجنة هي الغاية التي يسعى إليها كل مسلم.
عباد الله: اعلموا أنه على قدر استقامة العبد وثباته في الدنيا على الصراط المستقيم، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم يوم القيامة، وعلى قدر سيره إلى الله في هذه الحياة، يكون سيره على ذلك الصراط، فليُبعد العبد كل المعوقات التي تعيق سيره إلى الله، حتى لا تكون هذه المعوقات هي الكلاليب التي تخطفه وتعوقه عن المرور على الصراط ومجاوزته، نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.
ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي