وَمِنْ فضلِ اللهِ أن أعمالَ رمضانَ دائمةٌ طوالَ العامِ؛ من تلاوةٍ وصدقةٍ وصيامٍ وعمرةٍ ودعاءٍ وقيامٍ، وغيرِ ذلك مما شرَعَه اللهُ لعباده على الدوام، وفي استدامةِ الطاعةِ وامتدادِ زمانِها نعيمٌ للصالحينَ، وقرةُ عينٍ للمؤمنينَ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، وراقِبوه في السر والنجوى.
أيها المسلمون: عاش المسلمون في هذا الشهر المبارك زمنًا فاضلًا، نهارُه صيامٌ وليلُه قيامٌ، عَمُرَتْ فيه المساجدُ بالطاعة والقرآن، ويتقلَّبون في لحظاته بين ذِكْر ودعاء وبَذْل وعطاء، القلوب مُخبِتة والجوارح مقبلة، فذاق المؤمنونَ فيه من طعمِ الإيمانِ وحلاوتِه، وها هي أيامه قد آذنت بالرحيل، وأوشكت على الزوال، والموفَّق مَنِ اغتنم باقيَ لحظاته؛ فالأعمال بالخواتيم، والعبرة بكمال النهايات، وَمَنْ كان في شهره منيبًا وفي عمله مصيبًا فليُحكم البناءَ، وليشكر اللهَ على النعماء، ولا يكن كالتي نقضت غزلَها من بعد قوة أنكاثا، فحفظُ الطاعةِ أشقُّ من فعلها، ومن دعاء الصالحين: "اللهم إنَّا نسألُكَ العملَ الصالحَ وحِفْظَه".
ومن كان مُقَصِّرا فليبادِرْ بالتوبة النصوح، فإن الباب مفتوح، قال عليه الصلاة والسلام: "رَغِمَ أنفُ رجلٍ دخَل عليه رمضانُ ثم انسلخ قبل أن يُغفر له"(رواه أحمد).
وكونوا لقَبول العملِ أشدَّ اهتماما منكم بالعمل، فإنما يتقبل اللهُ من المتقين، والمؤمن يجمع بين إحسان ومخافة، حاله كما قال سبحانه: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[الْمُؤْمِنَونَ: 60]، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "يا رسول الله، هم الذين يشربون الخمرَ ويسرقون؟ قال: لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولكن هم الذي يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألَّا يُتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون"(رواه الترمذي).
ولئن انقضى شهر رمضان فإن زمن العمل لا ينقضي إلا بالموت، قال عز وجل: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الْحِجْرِ: 99]، وقليلُ العملِ الدائمِ خيرٌ من كثيرٍ منقطعٍ، قال عليه الصلاة والسلام: "أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدومُها وَإِنْ قَلَّ"(متفق عليه).
ومن علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها، وما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها، وأحسنُ من ذلك الحسنةُ بعد الحسنةِ تتلوها.
ومن فضل الله أن أعمال رمضان دائمة طوالَ العامِ؛ من تلاوة وصدقة وصيام وعمرة ودعاء وقيام، وغير ذلك مما شرعه الله لعباده على الدوام، وفي استدامة الطاعة وامتداد زمانها نعيم للصالحين، وقرة عين للمؤمنين، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[فُصِّلَتْ: 30]، وفي ختام رمضان بُشرى لأهل الصيام والقيام، قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه"(رواه البخاري)، "ومن قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه"(متفق عليه)، "وللصائم فرحتانِ؛ فرحةٌ عند فِطْرِهِ وفرحةٌ عند لقاء ربه"(متفق عليه).
والحياة أنفاس معدودة وآجال محدودة، وإنَّ عُمْرًا يُقاس بالأنفاس لَسريعُ الانصرامِ، وفي انقضاء رمضان عبرةٌ بزوال الدنيا وما فيها، وكأنكم بالأعمال قد انقضت، وبالدنيا قد مضت، وحينها كلُّ عبدٍ مرهونٌ بعمله، والفائزُ مَنِ استجابَ لداعي ربه، وكان من المحسنين.
أيها المسلمون: خصَّ اللهُ ختامَ هذا الشهر بزكاة الفطر طهرةً للصائمينَ وطعمةً للمساكين، ومقدارها صاع من غالب قوت البلد يُخرجها المرءُ عن نفسه وعمَّن يعول، ووقتُ إخراجِها المستحبُّ قبل صلاة العيد، ويجوز تقديمُها قبل ذلك بيوم أو يومين، وإذا انقضى رمضان بغروب شمس آخِر أيامه يتأكد التكبيرُ إلى صلاة العيد، قال سبحانه: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الْبَقَرَةِ: 185].
ومن صام رمضان وأتبعه سِتًّا من شوال فكأنَّما صام الدهرَ كلَّه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النَّحْلِ: 97].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني اللهُ وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما مزيدا.
أيها المسلمون: في شهر رمضان وفي مكة شرَّف اللهُ هذه الأمةَ بنزول القرآن وببعثة خير الأنام، فأُخرجت من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، قال تعالى: (رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[الطَّلَاقِ: 11]، وجعَل اللهُ المسجدَ الحرامَ قبلةً للمسلمين، واختار المسجدَ النبويَّ في مُهَاجَرِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وَمَنَّ اللهُ على المملكة أن تكون حاضنةً للحرمين الشريفين؛ لذا أدرك وُلاتُها ثقلَ الأمانةِ في جمع كلمة المسلمين على الحق، وأُلْفَتِهم فدَعَوْا قادةَ شعوب المسلمين بجوار بيت الله الحرام في شهر رمضان المبارك، لصفاء النفوس وتعلُّق القلوب بالله وتعليق الآمال به -سبحانه-، لتحقيق أسباب وحدة المسلمين وقوتهم، فجزى اللهُ ولاتِنا خيرَ الجزاءِ على ما يبذلونه من خدمة للإسلام والمسلمين.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مطمئنًا رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم وفِّقْ إمامَنا وولي عهدِه لِمَا تحبه وترضاه، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، وانفع بهما الإسلام والمسلمين، وَوَفِّقْ جميعَ قادةِ المسلمينَ وشعوبَهم إلى تحكيم شرع الله والعمل بكتابك وسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
اللهم تَقَبَّلْ منا صيامَنا وقيامَنا، اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا، اللهم اغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا وما تأخر برحمتك ومغفرتك يا غفور يا غفار.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي