المؤمن بالقدر يعلم أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها وأجلها؛ لذلك فهو يعيش غير هيّاب ولا مبالٍ بما يناله من الفقر والأذى والمصائب، ويستمدّ قوته من الله تعالى؛ فهو يعتقد أن الله معه حيث كان ولن...
إنَّ الحمدَ لِله، نحمَدُهُ ونستعينُهُ، ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَّ لـهُ، ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه، وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: ثَبَتَ في الصحيحين عن عبدالله بن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: "إنَّ أحدَكم يُجمع خلقُه في بطن أمِّه أربعين يوماً نطفة، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثل ذلك، ثم يُرسَلُ إليه المَلَك؛ فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلماتٍ: بكَتْبِ رزقِه وأجلِه وعملِه، وشقيّ أو سعيد.." الحديث.
هذا الحديث فيه إثباتٌ لأصلٍ من أصول الإيمان -أعني الركن السادس من أركان الإيمان السِّتّة- وهو الإيمان بالقدر خيرِه وشرِّه، ذلكم الأصل الذي تتجلّى أهميته في حياة المسلم من خلال ما يترتب عليه من آثار إيمانية وأخلاقية؛ حيث تجد المؤمن بالقدر يسير إلى الله تعالى سيراً صحيحاً بعقيدةٍ إيمانية قوية راسخة، واطمئنانٍ تامّ بأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وتظهر عليه آثار ذلك الإيمان في سلوكياته الفكرية والقولية والفعلية، كما سنرى -بإذن الله تعالى-.
أيها المسلمون: إن من ثمرات الإيمان بالقدر الإيمانية والسلوكية والأخلاقية التي يتّحلّى بها المؤمن بالقدر، وتعود عليه بالنفع العظيم: أن إيمان العبد يزيد ويكون ذلك سبباً في ثباته على العقيدة الراسخة التي في قلبه، ويؤثر ذلك على حسن خلقه في تعامله مع ربه -جلّ وعلا-؛ فهو يردّ الأمر إلى الله؛ حيث يعلم أن كل شيء بقضاء وقدر، فإذا قُدِّرَ عليه ما لا يحبّ صبرَ واحتسَب، ورضا واطمأنّ، وصبرَ وثبت، ولم يتضجّر ولم يتسخّط، ولم يضطرب ولم يقلق؛ بل يلجأ إلى ربّه داعياً أن يدفعَ عنه الضرّ، راغباً بما في يديه من الفضائل والنِّعَمِ.
وهذه الثمرة الإيمانية تؤدي إلى ثمرة أخرى وهي إضافة النّعمة إلى مسديها؛ فإن العبد المؤمن إذا رأى ربّه قد أغدق عليه من خزائنه وأنعم عليه بالعافية أو نحو ذلك من النّعم مما رغب فيه ورجاه.
وفي المقابل يبقى ثابتاً على إيمانه إذا ما عانى شيئاً من المصاعب، أو تسلّط عليه من يؤذيه، أو تأخرت إجابة دعائه مثلاً أو كان في مواجهة عدوّ يتربّص به تجده ثابتاً صابراً محتسباً مقدِماً منتظراً الفرج حاله كحال المؤمنين يوم قالوا:
اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا *** وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا *** وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
إِنَّ الأَعْدَاءَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا *** إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
ومن ثمرات الإيمان بالقدر وآثاره -أيها المسلمون-: أنّ المؤمن بالقدر يعلم أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفيَ رزقَها وأجلها، وأنّ ما كُتب له من الرزق والخير سيأتيه، وما قُدّر عليه من الفقر والبلاء سيأتيه؛ لذلك فهو يعيش غير هيّاب، يستمدّ قوته في مواجهة ذلك من الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه يعتقد أن الله معه ولن يضيّعه، فيزداد بذلك إيماناً مع إيمانه، ومع ذلك يبذلُ الأسباب المشروعة للخروج -بإذن ربّه- من مِحَنِه وفقره وبلائه ومتاعبه، معتمداً على الله وحده في مقاومته لتلك الصعاب بعزيمة وقوّة، دون أن يجزع أو يحزن في الشدّة، ودون أنْ يبطر أو يتوقف عن بذلِ الخير في حالِ رخائه.
ومن الثمرات التي يجنيها المؤمنُ بالقدر: أنّه يكون حيثُ أمره الله مقيماً شعائره، معلّماً الخيرَ للناس، صادِعاً بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، قد جعل نصْب عينيه قول الله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[التوبة:51].
ومن ثمرات الإيمان بالقدر: عدم الخوف من ذهاب الدنيا وحلولِ الأجل ما دام العبد مقبلاً على ربِّه متزوِّداً التقوى غير مُثقَلٍ بما يخزيه أو يهلكه يوم الجزاء والحساب من التفريط في حقوقِ الله أو حقوق عباد الله؛ فهو لا يعبأ بالدنيا أن تذهب وينتقل منها إلى الدار الآخرة، إلا أنّ حالَه مع ما ينتظره بعد الموت كما قال الله: (سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)[الزمر:9].
ويحذر سوء الخاتمة؛ لأنه يعلم أن الله يقول: (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[الأعراف:99]، ويعلم أنّ "قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها حيث يشاء"، ويعلم أن الأعمال بالخواتيم، وأن الخواتيم علمها عند الله -تبارك وتعالى- ونصب عينيه حديث ابن مسعود -الآنف الذكر- والذي فيه: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٍ، فيسبِق عليه الكتاب، فيعمل بعملِ أهل النّار، فيدخلها"(متفق عليه).
ومن ثمرات الإيمان بالقدر: أنْ يتحلّى بالتواضع والخضوع لله تعالى، فيكون بعيداً عن التعالي والغرور والكبرياء، ولا يرضى لنفسه المدح والإطراء؛ لأنه يعلم أن نفسه في أصلها محلٌّ للنقص وليست محلّاً للكمال، وأنّها إنْ أحسنت فإنّ إحسانها مرتبط بتقدير الله ومشيئته وتوفيقه -تبارك وتعالى- لذلك هو يعيد الفضل إلى المنعم المتفضل القائل: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[النور:21].
ولقد كان أنبياء الله والمؤمنون الصادقون يتمثلون هذا المعنى، وفي الكتاب والسّنة أمثلة تبيّن ذلك، ومن ذلك ما جاء في القصّة التي ذكرها النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- عن الثلاثة نفر (الأبرص والأقرع والأعمى)؛ حيثُ ابتلاهم الله بالنّعم بعد أن ابتلاهم بفقدها أولاً، فكانت النتيجة أن هُديَ الأعمى إلى معرفة قدرِ نعمة الله عليه، فكانت عاقبته حميدة، فإنه لما ردّ الله عليه بصَرَهُ وأغناه من فضله أتاه الملك في صورته وهيئته قبل عافيته وغِناه، فقال: رجلٌ مسكينٌ وابنُ سبيلٍ تقطّعت بي الحبال في سفري؟ فقال: كنتُ أعمى، فرَدَّ الله إليَّ بصري، وفقيراً فأغناني، فخذ ما شئتَ، فوالله، لا أمنعك اليوم شيئاً أخذته لله -عز وجل-، قال الملَكُ: أمسك مالك، إنما ابتليتُم، قد رضيَ الله عنك، وسخط على صاحبيك (رواه البخاري ومسلم).
الله أكبر، الله أكبر.. هكذا ينبغي أن يكون المؤمن وهو سائر إلى الله مستشعراً نعم الله عليه، مؤمناً بقضاء الله وقدره، مُعيداً الفضل إلى ربه المنعم -تبارك وتعالى-؛ فإنه هو الذي يُعطي ويمنع، ويَخفض ويرفع، ويُعلي ويضع، وهو على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[التغابن:11].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدّين، واشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وليُّ المؤمنين، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، إمام الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
أيها المسلمون: كم نرى ونسمع عن كثيرٍ من الناس ممن ضعف إيمانهم أو زالَ بالكلية -عياذاً بالله- يقصِدون السحرة والمشعوذين والكهان والمنجمين والدجّالين؛ يشكُون أحوالهم عندهم، ويطلبون منهم تفريج كُربهم، ورفع الضرر عنهم، وإصلاح أحوالهم، والمدد بالأرزاق من الأموال والذرية، ونحو ذلك من الأمور التي هي من اختصاص الله ومن مقتضيات ربوبية الله تعالى على خلقه -ولا حول ولا قوة إلا بالله-.
ولو آمن أولئك بالله ورسله، وبالقدر خيره وشرِّه، على الوجه الذي أراد الله منهم، وعلِموا علم يقينٍ وسلّموا أنَّ ما حدث ويحدث في هذا الكون لا يكون إلا بقضاء الله وقدره، وأنّ ما أصابهم من خير أو شرٍّ هو بقدر الله، وما أخطأهم من ذلك بقدر الله لأثمر ذلك الإيمان في قلوبهم حبَّ الله تعالى، فاعتمدوا عليه، ولجأوا إليه، وتوكلوا عليه، وأنزلوا حاجاتهم ببابه -سبحانه وتعالى- وما ركنوا إلى دجّال ومشعوذ، ولا ذهبوا إلى منجّم ولا كاهن؛ وذلك أنّ من يؤمنُ بالقدر استقرّ في قلبه أن الله يفعل ما يريد، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
فالمؤمن بالقدر لا يصدِّق أقوال أولئك الدّجّالين، فيسلم من شرّهم وشِركهم ودجلهم وظلمهم، فيعيش مطمئناً قلبه بالإيمان، قريباً من ربّه ومولاه، ناجياً من الوعيد الشديد الذي ورد فيمن ذهب إلى أولئك المجرمين؛ فقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"(رواه أبو داود)، وعند مسلم عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدّقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً".
ومن ثمرات الإيمان بالقدر -يا رعاكم الله-: أنه سببٌ لزوال كثيرٍ من أمراض القلوب الخطيرة؛ فإن المؤمن بالقدر لا يتكبّر على إخوانه؛ لأنه حين يكون في سعة من الرزق أو في بسطة من العلم والجسم أو نحو ذلك لم ينسَ أنَّ الذي أعطاه وتفضّل عليه هو الله، ويعلم أنه لو شاء الله لمَنعه، أو إن شاء سلب منه تلك النعم.
إنّ استحضار هذه المعاني تورِث لدى العبد المؤمن تواضعاً لله، ونفرةً عن التعالي على الناس، بل يورث ذلك رحمة وشفقة في قلبه تجاه المعوزين وذوي الحاجات، معترفاً بفضل الله عليه، مبتغياً رضوان الله، طامعاً بما عند ربه من الفضل والبركة، خائفاً من عقوبته ونكاله، خلافاً لحال ذلك القائل الهالك الذي (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا)[القصص:78].
ومن ثمرات الإيمان بالقدر: أنّ المؤمن لا يحسد الناس عموماً ولا إخوانه المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله؛ لأنه يعلم إنّ الذي ابتلاهم بسعة الرزق هو الله الذي ابتلاه فقدر عليه رزقه امتحاناً، وهو يسعى إلى النجاح في هذا الامتحان، وقد آمن بالقدر خيره وشرّه، ويعلم أن الحسد نوع من الاعتراض على أقدار الله، وهو ما يتنافى مع الإيمان بالقدر.
أيها المسلمون: الإيمان بالقدر يغرس في النفس المؤمنة حقائق الإيمان المتعددة؛ فالمؤمن بالقدر يعيشُ مستعيناً بالله مفتقراً إليه معتمداً ومتوكلاً عليه مستمدّاً منه العون والسداد والهداية والثبات، فنسأل الله أن يجعلنا من الذين آمنوا به -سبحانه- على الوجه الذي يرضى به عنّا، وأن يثبّتنا على دينه الذي ارتضاه لنا، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر:18].
هذا وصلُّوا -رحمكم الله- على خير البريّة وأزكى البشرية، كما أمركم ربُّ البريّة بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي