عباد الله: لم نر الجنة، ولم نر النار، ولم نر الصراط، ولم نر الشمس وهي تدنو من رؤوس الخلائق، لم نر هذه الأشياء فهي لذلك بعيدة عن الحس عند بعض الخلق، أما حس المؤمن فهو عندما يقرأ الآيات عن اليوم الآخر في القرآن، وعندما...
أما بعد: فيا أيها الناس: لقد خلق الله الناس من العدم، ويسر لهم سبل العيش في الدنيا، وأمرهم بعبادته، وأخبرهم بأن هناك يوما آخر يبعث فيه الناس ويجازون بأعمالهم، وجعل الإيمان باليوم الآخر من صفات المؤمنين، قال جل وعلا: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)[البقرة: 4]، فمن أيقن بالآخرة أحسن العمل، واستعد للرحيل.
معاشر المؤمنين: الإيمان باليوم الآخر ركن من الإيمان، واليوم الآخر هو يوم القيامة؛ والمراد به: من وقت الحشر إلى ما لا نهاية، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وسمي اليومَ الآخر؛ لأنه آخر الأوقات المحدودة؛ أو لأنه متأخر عن الدنيا؛ ولأنه لا ليل بعده؛ ولأنه آخر أيام الدنيا.
والإيمان باليوم الآخر: هو التصديق الجازم بأن الله أعد وقتاً ينهي فيه الحياة الدنياً.
وقيل في تعريفه بصورة إجمالية: هو الإيمان بكل ما أخبر به الله -سبحانه وتعالى- في كتابه، وأخبر به رسوله -صلى الله عليه وسلم- مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه، والبعث والحشر والصحف والحساب والميزان، والحوض والصراط والشفاعة والجنة والنار، وما أعد الله -تعالى- لأهلهما جميعاً.
عباد الله: لم نر الجنة، ولم نر النار، ولم نر الصراط، ولم نر الشمس وهي تدنو من رؤوس الخلائق، لم نر هذه الأشياء فهي لذلك بعيدة عن الحس عند بعض الخلق، أما حس المؤمن فهو عندما يقرأ الآيات عن اليوم الآخر في القرآن، وعندما تتلى على مسامعه أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه يحس أن الجنة والنار فعلاً أقرب إليهم من شسع نعله، يحس أنها قريبة جداً، وأن الآزفة قد أزفت، وأن الموعد قد اقترب، فهو لأجل ذلك يعمل لآخرته، ويكدح، كما كان أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم-، قال حنظلة: "يا رسول الله نكون عندك فتحدثنا عن الجنة والنار حتى كأنها رأي عين؟".
ولهذا كانوا -رضوان الله عليهم- كثيرا ما يغطون رؤوسهم ويبكون عند حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وموعظته لهم، فإذا كان المؤمن كهذه الحال فإنه يجتهد أكثر مما يعمل أهل الدنيا لدنياهم، إذا كان أهل الدنيا يجعلون هذا اليوم الأربعة وعشرين ساعة، يجعلونه على مراحل، ومراتب؛ لكي لا يخلو يوماً من العمل، ولا ساعة من الساعات حتى في الليل، فإنهم يعملون في نوبات متواصلة؛ لأجل البناء والتعمير كما يزعمون في الدنيا ، وأهل الآخرة يعملون كذلك في كل وقت، قال الله في شأنهم: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا)، (ساجداً وقائماً) لأي شيء؟ قال: (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)[الزمر: 9].
والله مدح المؤمنين بأنهم يصدقون بيوم الدين، ومدحهم فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[المائدة: 55].
الإيمان باليوم الآخر -أيها الإخوة- له آثار عظيمة على المسلم في حياته، فمن آثار الإيمان به: أن النفس عندما تعلم ضخامة العوض، وعندما تعلم بأن طاعة الله عاقبتها جنة عرضها السموات والأرض، نعيمها لا يفنى، وعيشها دائم، وأكلها وظلها دائمان، وما فيها من أنواع النعيم فإن هذا الجزاء العظيم ينسي المسلم تعب العمل، وكده لله -عز وجل-؛ لأنه يتطلع إلى الأمام، يتطلع إلى الآخرة، فإذا نعيم الجنة ينسيه ما في طاعة الله من المشقة، والتعب، والعبادة لله تكاليف فيها مشقة على العبد في الصيام، أو في الحج، وحتى في إخراج المال بالزكاة، فيها تكاليف شاقة لكن العباد يستطيعونها، والله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا.
إن التكاليف الشرعية منازعةٌ بين محبة الشهوة والانقياد لله بالطاعة، فكيف سيتحملون المشقة والجهد في طاعة الله؟ وكيف سيتخلون عن هذا النعيم؟ كيف سيقوم المصلي لصلاة الفجر من دفئ الفراش، وحضن الزوجة، والنوم الهانئ؟ كيف سيقوم منه إلى صلاة الفجر بتلك المشقة والتعب؟ إذا لم يكن هناك عوض، ولم يكن هناك جزاء، هل كان سيهجر مضجعه؛ ليقوم إلى المسجد لصلاة الفجر؟ وقل مثل ذلك في جميع الأعمال التي يقوم بها العباد لرب العالمين.
إن استحضار اليوم الآخر وما أعد الله فيه من النعيم للمطيعين هو المتنفس، هو الأمل، هو النعيم الحقيقي الذي ينسي المسلم التعب الذي يتعبه في الدنيا، وهو النعيم الذي يعوض المؤمن عما يفوته الآن من نعيم الدنيا؛ لأنه يعمل لله رب العالمين.
إن النفس إذا علمت عظم العوض استعدت للبذل، ما الذي يجعل المقاتل المجاهد في سبيل الله يدفع روحه وماله لله رب العالمين؟ إذا لم يكن هناك عوض أكبر من التضحية بالنفس، والمال هل كان سيضحي بنفسه وماله؟
والكفار على النقيض من المؤمنين لا يفكرون في اليوم الآخر مطلقاً، ولا يحسبون له أي حساب: (إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا)[الإنسان: 27].
اللهم اجعلنا ممن يؤمن باليوم الآخر ويعمل له عمله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
أما بعد: فيا أيها الناس: كما مر ذكره إن للإيمان باليوم الآخر آثارا جميلة على حياة المسلم، فمن ذلك: شفاء صدور المظلومين، حيث يأتي المقتول يجر القاتل فيقول: يا رب سل هذا فيما قتلني؟ يأتي الذين قد عذبوا في الدنيا من المؤمنين؛ فينتقم الله لهم من الكفرة الذين عذبوهم: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المطففين: 34-36].
وهذا اليوم يقام فيه ميزان العدل: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)[الأنبياء: 47].
وتوزن أعمال العباد بالدقة بالشعرة لا يخفى شيء، ولا يفوت منه شيء، فيكون العدل الحقيقي، حيث تظهر عزة المؤمنين، وذلة الكفار، ففي الدنيا قد يسام المؤمنون أنواع العذاب، وقد يظهر المتمسكون بالدين في أعين العامة أنهم أذلاء، وأن السيطرة والقوة للجبابرة العتاة المسيئين.
ومن آثار الإيمان باليوم الآخر: حرص المؤمن على الخير، فإن اليوم الآخر يومٌ تبيض فيه وجوه، وتسود فيه وجوه، تبيض فيه وجوه أهل السنة، وتسود فيه وجوه أهل البدع، فيرى الناس جميعاً أهل المعاصي، والكفر، والشرك، والبدعة، والظلم، وجوههم قد أسودت، فينادى على رؤوس الأشهاد: أن لعنة على الظالمين، فيظهر عند ذلك العز الحقيقي، والذل الحقيقي، في ذلك اللون الذي يكسي الله به وجوه أهل السنة، ووجوه أهل البدعة، وإن كان المسلمون المؤمنون الصادقون في الدنيا فقراء محتاجين، قد لا يعطف عليهم أحد، فإن الله يجعل الكفار في الآخرة يمدون أيديهم يناشدون المؤمنين: (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)[الأعراف: 50].
ومن آثاره: أن المسلم العامل لدين الله لا يندم على كل عمل عمله، ولو لم ير ثمرة عمله في الدنيا، إن الذين يريدون إقامة منهج الله في الأرض، ويشتغلون بالدعوة إلى الله، والتربية على منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هؤلاء الناس الذين اصطفاهم الله من بين البشر للقيام بهذه المهمة، قد لا يأتي فيه اليوم الذين يرون فيه ثمرات أعمالهم يانعة، أو يرون فيه قيام المنهج الصحيح كما أراده رب العالمين على الأرض، وقد لا يأتي عليهم اليوم الذي يرون فيه سراج الدين وهاجا، وقد لا يأتي عليهم اليوم الذين يرون الناس يدخلون في دين الله أفواجا، ولكنهم بسبب إيمانهم أن هذه الأعمال لن تضيع، وإن أجرها عند رب العالمين، ولأنهم يعلمون أن كل هذه الأعمال لن تذهب سدا أبدا، وأنهم سيجزون بها عند الله الجزاء الأوفى، فيهون على هذا المسلم الصادق طول الطريق، والمشقات، والعقبات الموجودة في هذا الطريق؛ لأنه يعلم متى وأين سيجد هذا الجزاء عند رب العالمين.
ومن الآثار: أنه عندما يعلم الإنسان أن حتى شق التمرة يأخذ عليها أجراً، فإنه لن يتهاون بالأعمال الصالحة، ولو كانت قليلة، بعكس المتهاونين المفرطين الذين يقولون: وماذا ستغني عنا هذه الأمور؟ ولماذا نتمسك بهذه القشور كما يعبرون؟ وما تغني عنا هذه التوافه! وليس لنا حرصٌ بالمظاهر، علينا باللب والجوهر، فيضيع عليهم هذا الأجر العظيم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة".
عباد الله: متى أيقن العبد أن ثواب العمل الصالح الذي يعمله سيكون أمامه فإنه يجتهد في جمع الحسنات، وعلى العكس إذا علم أنه سيواجه عمله السيء كان ذلك رادعا له عن ارتكاب المعاصي والسيئات.
اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي