لقد أدرك السلفُ الصالح والتابعون لهم بإحسان سرَّ عظمةِ القرآن فطاروا بعجائبه، وعاشوا مواعظَهُ وتذوقوا حلاوتَهُ، وفي المواسم الفاضلة يزدادُ التعلُّقُ، ويشتدُّ التسابُقُ، فقد كان الزهري -رحمه الله- إذا دخل رمضان يقول: "إنما هو قراءةُ القرآنِ وإطعامُ الطعامِ"، وكان مالكٌ -رحمه الله- إذا...
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق تقاته: (وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عباد الله: إنكم تعيشون هذه الأيام شهراً عظيماً كثُرت ميزاتُه وعظمت بركاتُهُ، ومن أعظم تلك الميزات: أنَّ ربَّكم -تبارك وتعالى- قد اختصَّهُ بإنزال القرآن فيه، فقد نزل جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه، كما قال تبارك تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[القدر: 1]، وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدخان: 3-4].
ثم نزل بعده مفرقاً بحسب الوقائع على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هكذا روي من غير وجه عن حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنهما- كما في تفسير ابن كثير.
فمنهجُكم ودستورُ حياتِكم الذي بين أيديكم نزل في هذا الشهر، أخبركم عن ذلك ربُّكم بقوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[البقرة: 185].
ولذا كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يتدارس مع جبريل -عليه السلام- القرآن في هذا الشهر مرة فلما كان العام الذي توفي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دارسه القرآن مرتين، أخرج الإمام البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ".
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان.
وفيه دليل على أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً، مما يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً، فإن الليل تنقطع فيه الشواغل، ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال سبحانه: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)[المزمل: 6].
فانظر -رعاك الله- إلى تأثير القرآن في سلوكيات وأخلاق خير الورى -صلوات ربي وسلامه عليه- وهو أكمل الناس، فقد كان صلى الله عليه وسلم أجودَ الناسِ، ولكن في رمضان يوم يتدارس القرآن يزيد ذلك الجودُ حتى يكون كالريح المرسلة، وما يتأثر السلوكُ إلا إذا تأثر القلبُ، فالقرآن ما نزل يا أمة القرآن ليكون أحرفاً تُرَدَّدُ فقط، لا والله بل نزل ليخالط القلوبَ فيصنعَ أجيالاً تقود البشرية ليخرجوها من الظلمات إلى النور، ولا تسلْ عما فعله القرآنُ في قلبِ خير الورى -صلوات ربي وسلامه عليه- فهو قمةُ الإيمانِ والتقى، ولكنْ سَلْ عما فعله في قلوب أصحابِهِ والأجيالِ التي مِن بعدهم، تلك الأجيالُ التي سادتِ البشريةَ، لا بقوتها ولا بغيرها من العوامل المادية، وإنما سادَتْها بقوتها الإيمانية لتكون خير أمة أخرجت للناس، أمةٌ اصطفاها الله لتُخرِج الناسَ من الظلمات إلى النور.
لقد أدرك السلفُ الصالح والتابعون لهم بإحسان سرَّ عظمةِ القرآن فطاروا بعجائبه، وعاشوا مواعظَهُ وتذوقوا حلاوتَهُ، وفي المواسم الفاضلة يزدادُ التعلُّقُ، ويشتدُّ التسابُقُ، فقد كان الزهري -رحمه الله- إذا دخل رمضان يقول: "إنما هو قراءةُ القرآنِ وإطعامُ الطعامِ"، وكان مالكٌ -رحمه الله- إذا دخل رمضانُ يفِرُّ من قراءة الحديث ومجالسةِ أهلِ العلم.
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.
وكان الأسود بن يزيد يختم القرآن في غير رمضان في كلّ ست ليال ويختمه في رمضان في كل ليلتين.
وكان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة.
أما الشافعي، فقد ذكر أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة، سوى ما يقرأ في الصلاة. وكان أبو حنيفة ربما ختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة. وكان محمد بن إسماعيل البخاري يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كلَّ ثلاثِ ليالٍ بختمةٍ.
قائمة طويلة، كانوا يطبقون القرآن في حياتهم واقعاً عملياً، ففتحوا البلدان بخلق وهدي القرآن، وهكذا تكون ثمرات القرآن متى ما خالط القلوب نور كلمات رب العالمين -جل جلاله-.
كيف هو حالُنا مع القرآن في رمضان؟ هل تَلَوْنا كتابَ اللهِ حقَّ تلاوتِهِ؟ هل تدبّرنا آياته ومعانيه؟ هل تأثرتْ قلوبُنا بسماع آياته؟ هل ازددنا إيمانا عندما كانت تُتلى علينا آيات ربنا -جل جلاله-؟ هل بكى أحدُنا وأقشعرّ جلدُهُ مِن تأثُّرِهِ بآيةٍ؟
أسئلةٌ كثيرةٌ ينبغي لكلِّ مسلمٍ أن يسألها لنفسه ويجيبَ عليها بصدقٍ، وربُّنا يقول واصفاً كتابه: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر: 23].
يا قوم: ما بالُ قلوبِنا أصبحت أقسى من الحجارة الصماءِ فلم تَعُدْ تتأثرُ بالوعيد والتهديد؟ هذه الجبال الراسيات، هذه الصخور الصماء، لو أُنزل عليها القرآن لخشعت وتصدعت من خشية الله، أخبرنا عن ذلك ربنا بقوله: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الحشر: 21].
فأيُّ قلبٍ هذا الذي لا يتأثر بكلمات رب العالمين وأيُّ عينٍ هذه التي تضِنُّ بالدمع من خشية الله؟!
الله أكبر! هل تعاظَمَتْ ذنوبُنا حتى بلغتْ قلوبُنا من القسوة ما بلغت؟ ونعوذ من قسوة القلب: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[البقرة: 74].
يا أمة القرآن! يا مَن منَّ ربكم عليكم بإدراك شهر القرآن: ارعوا أسماعكم وقلوبكم لعتاب ربكم: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[الحديد: 16] بلى يا رب قد آن، فأعنا بحولك وقوتك على ذلك فإنه لا حول ولا قوة لنا إلا بك.
لابد أن نستشعر ونحن نتناول المصحف بأنَّا مقبلون على أمر عظيم على حديث رب السموات والأرض، وإذا تلونا آياته أن نستشعر أن العظيم -جل في علاه- يخاطبنا بكل آية وحرف فيه، فنتلقاه بكل حواسنا وانتباهنا، فنحول التدبر النظري إلى سلوك عملي.
وإذا كان هذا شأن القرآن في رمضان فما أجدر العبد المؤمن أن يقبل عليه، ويديم النظر فيه، وأن يجعل له مع القرآن في هذا الشهر من الإكثار من التلاوة وتكرار الختمات، ينال خيراتها وينعم ببركاتها.
مع أهمية عبادة التدبر بمراجعة تفسير الآيات وتأمل معانيها، والتبصر في دلالاتها واستخراج أوامرها ونواهيها، ثم العزم على تطبيق ذلك ومحاسبة النفس عليه، ولعل في هذا بعضاً من معنى قول الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود: "كنا نتعلم العشر آيات فلا نجاوزهن حتى نعلم ما فيهن من العلم والعمل".
وكذلك الحفظ والمراجعة، فيجعل المسلم لنفسه مقداراً يومياً من الحفظ ومثله من المراجعة، وإن كان قد حفظ ونسي فهي فرصة عظمى لتثبيت الحفظ واسترجاع ما ذهب في شهر رمضان.
أخي المسلم: ها قد عرفت من فضل القرآن ما قد عرفت، وعلمت من ارتباط هذا الشهر الكريم بالقرآن العظيم ما قد علمت، فلم يبق إلا أن تشمر عن ساعد الجد، وتأخذ نفسك بالعزم، وتكون مع القرآن ومن أهله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم…
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعدُ: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى...
عباد الله: هذا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفي بقيته للعابدين مستمتع، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً يتصدع، ومع هذا فلا قلب يخشع ولا عين تدمع ولا صيام يصان عن الحرام فينفع ولا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع!
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك.
اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدميره في تدبيره، يا سميع الدعاء.
اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، اللهم احفظ جنودنا ورجال أمننا وأمن حدودنا وانصرنا على من عادانا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي