سؤال يطرح عند تلاوتنا أو سماعنا لكتاب الله، لماذا لا نتأثر بالقرآن؟! القرآن الذي كان بأيدي الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان هو القرآن الذي بين أيدينا اليوم، فلماذا هم يتأثرون بالقرآن ونحن لا نتأثر؟! لماذا هم يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويقفون عند حدوده، ونحن في إعراض مستمر عن أحكامه وتعاليمه وتوجيهاته؟! لماذا يبكون عند تلاوة القرآن، ونحن لا نبكي، إلا من رحم الله؟!
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضل له، ومَنْ يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
عباد الله: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر:21].
سؤال يطرح عند تلاوتنا أو سماعنا لكتاب الله، لماذا لا نتأثر بالقرآن؟! القرآن الذي كان بأيدي الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان هو القرآن الذي بين أيدينا اليوم، فلماذا هم يتأثرون بالقرآن ونحن لا نتأثر؟! لماذا هم يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويقفون عند حدوده، ونحن في إعراض مستمر عن أحكامه وتعاليمه وتوجيهاته؟! لماذا يبكون عند تلاوة القرآن، ونحن لا نبكي إلا من رحم الله؟!
لو سألت أحدًا منا اليوم: ماذا استفدت من قراءتك للقرآن؟! فلن يتعدى الجواب عند أحدنا: "للحصولِ على الثواب". وأنعم بها من فائدة، ولكن أين العناية والاستفادة من معاني القرآن وما تحمله من هداية واستقامة على دين الله وأمر الله؟!
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [ البقرة:185]، هدى، وبينات من الهدى والفرقان، (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) [الإسراء: 9]، يهدي للتي هي أقوم.
(مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [طه:2]، سعادة.
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان:32]، تثبيت للقلوب.
(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الزمر: 27]، (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) [ق: 45]، ذكرى وموعظة.
(لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر:21]، خشوع لله، وتعظيم.
فالواحد منا يقرأ القرآن، ويختم القرآن، ويجوِّد القرآن، دون أن تجد أثرًا لهذه القراءة في أفعاله وسلوكه -إلا من رحم الله-، بل لو سألت أحدًا منا عن الآيات التي استوقفته وأثرت فيه وفي حياته، لا تجد عنده جوابًا؛ فهل نزل القرآن من أجل تجويده، وترتيله، وطلب الثواب في قراءته؟!
إن قيمة القرآن وبركته تكمل في معانيه، في تدبره وتأمله، فما اللفظ وترتيله إلا وسيلةٌ في إدراك المعنى وتحصيله، وطلبِ الخشوع التأثرِ به: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) [النساء:82]، (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص:29]، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومن المعلوم أن كلَّ كلامٍ فالمقصودُ منه فهمُ معانيه دون مجردِ ألفاظه، فالقرآنُ أولى بذلك".
فالعبرةُ ليست بمقدار ما يقرؤه الإنسان، بل بمقدار ما يستفيده، فأين التأثر والتأثيرُ من قراءة القرآن؟! والله تعالى يقول: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً) [الرعد:31]، ويقول: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر:21].
هل يكون تأثرُ الجن بهذا القرآن خيرًا منا؟! (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) .[الأحقاف: 29-32].
أين النفوسُ والقلوبُ التي تحسنُ الاستماعَ إلى القرآن، واستقبالَه، والتعاملَ معه على أنه كتابُ هدايةٍ وشفاء للناس من الجهل، والشرك، والذنوب، والمعاصي، شفاءٌ للقلوب من ظلمةِ الكفر والشرك بالله إلى نور الإيمان والهداية، والفرحِ والسرور، والرضا عن الله تعالى؟!
أين القلوب التي تحسن الاستماعَ إلى القرآن، والتأثرَ به، والعملَ به؟! أين الخشوع، والبكاء، والتدبر، والعمل عند سماع القرآن؟! آيات لو أنزلت على (جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر:21].
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اقْرَأْ"، فَقُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: "نَعَمْ"، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41]، قَالَ: "حَسْبُكَ الْآنَ"، قَالَ: فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. متفقٌ عَلَيْهِ.
لماذا غير القرآنُ حياةَ الصحابة، ولم يغير حياتَنا؟!
الجواب: لأنهم أحسنوا التعاملَ مع القرآن، أدركوا قيمتَه وفهموا المقصدَ من نزوله، وأنه لا عزَّ لهم ولا نصرَ لهم إلا بالتمسك به وبتعاليمه.
عاش الصحابةُ القرآنَ بكل ما فيه، تلاوةً، وخشوعًا، وتدبرًا، وعلمًا، وعملاً، حتى صار الواحدُ منهم كأنه قرآن يمشي على الأرض، كان القرآنُ حياتهم: أخرج ابن إسحاق، عن جابر -رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- في غزوة ذات الرِقاع من نخل، فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فلما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- قافلاً أتى زوجُها -وكان غائبًا-، فلما أُخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يُهرِيقَ في أصحاب محمد دمًا، فخرج يتبع أثر رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- منزلاً فقال: "من يكلؤنا ليلتَنا؟!"، فانتدب رجل من المهاجرين، ورجل من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله. قال: "فكونا بفم الشِّعب من الوادي"، فلما خرجا إلى فم الشِّعب قال الأنصاري للمهاجري: أيُّ الليل تحب أن أكفيكَهُ؛ أولَه أم آخرَه؟! قال: بل اكفني أوّلَه، فاضطجع المهاجريُّ فنام؛ وقام الأنصاريُّ يصلِّي. قال: وأتى الرجل: فلما رأى شخصَ الرجلِ عرف أنه ربيئةُ القوم، فرمى بهم فوضعه فيه، فانتزعه الأنصاريُّ ووضعه وثبت قائمًا. قال: ثم رمى بسهم آخر فوضعه فيه، فنزعه فوضعه وثبت قائمًا. قال: ثم عاد له بالثالث، فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهبّ صاحبَه، فقال: اجلس فقد أُثْبِتُّ. قال: فوثب الرجل، فلما رآهما عرف أنه قد نَذِرا به، فهرب. قال: ولما رأى المهاجريُّ ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله؛ أفلا أهببتني أول ما رماك؟! قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحبَّ أن أقطعها حتى أنفذها. فلما تابع عليّ الرمي ركعت فآذنتك، وايْمُ الله، لولا أن أضيِّع ثغرًا أمرني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلّم- بحفظه لقَطَع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها.
القوةُ في تعظيم القرآن، الهيبةُ لكلام الله وهو يُقرأ، سرُّ حياتهم هذا القرآن: "وايْمُ الله، لولا أن أضيِّع ثغرًا أمرني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلّم- بحفظه لقَطَع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها".
وإنك -أخي الكريم- لتعجب قبل ذلك من قوة تأثير القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "شيبتني هود وأخواتها". فهل شيبنا شيءٌ من القرآن؟!!
بارك الله لي ولكم في القرآن...
عباد الله: العبرةُ والله ليست بختم القرآن فقط دون تدبر وتعقل لمعانيه، العبرة أن نقيم القرآن في حياتنا وواقعنا، أن نقرأ القرآن على مكث: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) [الإسراء:106]، على مُهل وتؤدة ليفهموه.
وأخيرًا: هذا القرآن هو القرآن الذي كان بأيدي الصحابة، والذي صنع منهم الجيل المثالي للأمة، صنع منهم العلماء، ورثة الأنبياء، وكيف احترامهم وتقديرهم، صنع منهم الدعاة، صمام أمان الأمة، صنع منهم العُبّادَ، والأتقياءَ، والقادةَ، والأبطالَ، صنع منهم النساءَ المثاليات، والأمهاتِ المربيات، لا يعرفن تبرجًا ولا سفورًا، نصب أعينهن قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب: 33]، صنع لهم حياةً مثاليةً فيها عزُّ الدنيا والآخرة.
فما الذي حدث؟! لماذا لم يعد القرآن ينتج مثل نماذج الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين -رحمهم الله-؟! هل فقد مفعوله في الأمة، أم الأمة فقدت مفعولها من القرآن؟! لا واللهِ، العيبُ فينا، العيبُ في الأمة وليس في القرآن، حاشا لله أن يكون في القرآن، وهو معجزةُ الله الخالدة إلى يوم القيامة، الهدايةُ من الله للأمة: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) [الإسراء: 9].
الخلل فينا نحن، فمع وجود المصاحف في كل بيت، وما تبثه الإذاعات ليل نهار من آيات القرآن، ومع وجود عشرات بل مئات الآلاف من الحفاظ على مستوى الأمة وبصورة لم تكن موجودةً في العصر الأول، إلا أن الأمة لم تجن ثمارًا حقيقية لهذا الاهتمام بالقرآن، لماذا؟! لأننا لا نوفر للقرآن الشروط التي يحتاجها لتظهرَ آثارُ معجزته ويقوم بمهمة التغيير، فلقد اقتصر اهتمامنا بالقرآن على لفظه، واختزل مفهومُ تعلم القرآن على تعلم حروفه وكيفية النطق بها دون أن يصحبَ ذلك تعلمُ معانيه، وأصبح الدافعُ الرئيس لتلاوته هو نيل الثواب والأجر دون النظر إلى ما تحمله آياته من معان هادية وشافية؛ ما جعل الواحدَ منا يسرح في أودية الدنيا وهو يقرأ القرآن، ويفاجأ بانتهاء السورة ليبدأ في غيرها، ويبدأ في السرحان مرة أخرى دون أن يجد حرجًا في ذلك، بل إنه في الغالب ما يكون سعيدًا، وفرحًا بما أنجزه من قراءة كمًّا لا كيفًا!
ندير مؤشر المذياع على صوت قارئ القرآن ثم نتركه يرتل الآيات ويخاطب بها الجدران، وأستغفر الله من هذا اللفظ، فإنه عظيم، لكن هذا هو حالنا وواقعنا، ثم ينصرف كل منا إلى ما يشغله، فأين الاستماع إلى القرآن؟!
هذا هو تعاملنا مع القرآن، تعاملٌ شكليٌّ لا حقيقة فيه، تعاملٌ مع حروفه، تعاملٌ مع التغني به، تعاملٌ مع تجويدِهِ وقراءتِهِ على عدةِ أوجه، تعاملٌ لجعله فقط رُقى نعالج به المرضى، وهذا والله طيب، ولكن أين التعامل الحقيقي مع القرآن، أين التعامل مع معانيه، أين التعامل مع حدوده وواجباته، وأوامره ونواهيه، أين التعامل مع توجيهاته وتوصياته، أين التعامل مع التفقه فيه، أين التعامل مع أوامره ونواهيه، لهذا فقدنا تأثير القرآن، فقدنا معجزة القرآن، تغيرت علينا أنفسُنا وقلوبنُا وأصبحنا لا ننتفع بالقرآن.
فلا بد من عودة لنحيا بالقرآن: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2]، (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ) [النمل: 91، 92].
ألا وصلُّوا وسلِّمُوا -رحمكم الله- على خير البرية ومُعلِّم البشريّة، النبيّ المصطفى والرّسول المجتبى والحبيبِ المرتضَى، محمّد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربّكم -جل في علاه-، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان ومن تبعهم بالخير والإيمان إلى يوم الدين.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعَل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي