ومع وجود موت الغفلة إلا أن كثيراً منا مازال في غفلة، لم نتعظ بمن سلف، كأن الأمر لا يعنينا، نرى الموت يتخطف من هم حوالينا فلا نتعظ.عجبًا لنا: كيف نتجرأ على الله فنرتكب المعاصي، وأرواحنا بيده...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
اتقوا الله -أيها المؤمنون- حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أن ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين.
معاشر المؤمنين: بينما الإنسان في هذه الدنيا متنعم بنعيمها، متقلب في ملذاتها، منغمس في شهواتها... وبينما هو مشغول في كدحه، وطلب رزقه... بينما هو يلهو مع أولاده، وأهله وخلانه... بينما هو منشغل في هذه الدنيا بجمع الأموال، والتفكير في المستقبل والحال... بينما هو كذلك وبدون مقدمات، ولا سابق إنذار؛ فجأةً إذ به يرى شخصاً غريباً بجانبه، فيلتفت إليه متعجباً، ويقول له: من أنت، وماذا تريد؟ فيقول أنا ملك الموت، أنا هادم اللذات.
فتكون الفاجعة، لحظات وداعٍ من غير ميعاد، يا الله أين ما كان يؤمله؟ أين ما كان يخطط له ويدبره؟ ضاعت المشاريع، وتبعثرت الأوراق، (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[ق:19].
في ذلك الوقت يشعر هذا المسكين بقدميه تبردان، تخرج منهما الروح شيئا فشيئا (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ* وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ* وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)[القيامة: 26].
كل امرئ مصبِّح في أهله، والموت أدنى من شراك نعله.
قال القرطبي -رحمه الله-:
بينا الفتى مرح الخُطى فرحاً بما *** يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى
إذ قيل بات بليلةٍ ما نامها *** إذ قيل أصبح بائساً لا يرتجى
إذ قيل أصبح بائساً ومعللاً وموجها *** إذ قيل قد مات الفتى
معاشر المسلمين: إن موت الفجأة يأتي بلا سابق إنذار، وبدون شيخوخة أو مرض أو أعذار... ترى الواحد يخرج من بيته وأهله صحيحاً سليماً؛ فلا يعود إليهم إلا محمولاً صريعاً، أو يكون بين أصدقائه، أو في منزله على فراشه، وفجأة يخر صريعاً.
وفي ذلك الحين يتمنى ذلك المرء الرجوع للدنيا ليعمل الصالحات، ولكن هيهات؛ فقد حال بينه وبيه الرجوع أمر جلل؛ فلا توبة ولا عمل، وفي ذلك الوقت ينتزع ملك الموت الروح وتبدأ السكرات والزفرات، ولا تنفع حينئذٍ الآهات.
يتغير اللون ويشتد الحنين ويبدأ الأنين، ويتحشرج الصدر وتشخص العينان، يتوقف كل شيء في جسمه؛ فلا قلب ينبض ولا جوارح تتحرك.
حضر الأجل ولا أجل، قال تعالى: (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34].
جاء الأجل -يا مسكين-، فبكى عليك الأهل والخلان، ونادوا بالمغسل ليغسلك؛ فغسلك وغمضك، وألبسك لباساً لطالما نسيته وتناسيته، ثم وضعوك في نعيشٍ وحيداً؛ لتسأل في قبرك عن كل شيءٍ فريداً، وأنزلوك في بيت الضيق والدود، وحثى عليك التراب من كان لك محباً، ثم رجع من كان معك، ولم يبق معك إلا ما قدمت من عمل في سالف الأيام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عنه عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ". (رواه مسلم).
ثم قسمت بين الوارثين أموالك، ومحيت من الدار آثارك، وبقيت -أيها المسكين- في القبر مجندلاً، وفي اللحد موسداً، فلا خلٌ ولا صديق، وليس معك إلا ما قدمت من عمل، قال تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى* ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى)[النجم: 39-41].
عباد الله: إن موت الفجأة من علامات وأمارات الساعة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ من أمارات الساعة أن يظهر موت الفجأة". (رواه الطبراني وغيره، وحسنه الألباني)، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[لقمان:34].
نسمع كل يوم عن أفرادٍ بل عن جماعات قضوا، وانتهت أعمارهم على حين غرة، ولم يكونوا على الأهبة؛ فموت الفجأة يفوِّت على المرء أموراً كثيرة؛ فقد يكون المرء في حاجة إلى أن يوصي فلا يقدر، وربما كان في عمل دنيا بعيد عن ذكر الموت والآخرة فينسى لا إله إلا الله، فلا يموت عليها.
ومع وجود موت الفجأة إلا أن كثيراً منا مازال في غفلة، لم نتعظ بمن سلف، كأن الأمر لا يعنينا، نرى الموت يتخطف من هم حوالينا فلا نتعظ. عجبًا لنا: كيف نتجرأ على الله فنرتكب المعاصي، وأرواحنا بيده، وكيف ننسى رقابته، والموت بأمره يأتي فجأة، هل يعلم أحدنا متى سيموت؟ كلا والله؛ إنها لحكمة بالغة؛ ليبقى المؤمن طوال حياته مترقبًا وداعَ هذه الدنيا، مستعدًا للقاء ربه.
يُروى أن ملك الموت دخل على نبي الله داود -عليه السلام- فقال: "من أنت؟ فقال ملك الموت: أنا من لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرشوة، قال: فإذًا أنت ملك الموت، قال: نعم ، قال: أتيتني ولم أستعد بعد! قال: يا داود أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟ فقال داود -عليه السلام-: قد ماتوا، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد؟.
معشر المؤمنين: إنها لغفلة عظيمة أن يسير الواحد منا في هذه الدنيا، ولسان فعله أنه سيعمر ما شاء الله أن يعمر، دون أن يفكر في الموت وسكرته ومباغتته للإنسان وفجأته؛ فكم ودعنا من حبيب وكم دفنا من قريب؟ وكان قبل ذلك بيننا يلهو ويمرح، دفناه بأيدينا ونفضنا التراب منها ونسينا، وعدنا إلى الدنيا وانشغلنا بها وكأن الأمر لا يعنينا، اليوم يموت هذا، وغداً تموت أنت، نعم أنت أنت؛ فهل اتعظنا ورجعنا إلى أنفسنا وحاسبناها، ورجعنا إلى ربنا ومولانا فاستغفرنا وأنبنا.
(كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور)[البقرة: 185].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن بهديه اقتفى وبعد:
معاشر المسلمين إنه لمن المؤسف أن نغفل عن الموت وفجأته، ونحن نسمع أخباره، ونرى كل يومٍ آثاره، نراه يتخطف القريب والبعيد؛ فيسقط بعضهم بسكتة قلبية، فتتوقف الجوارح عن الحركة والقلب عن النبض، وبعدها يحصل الموت في تلك اللحظة، ولا يستطيع أحد أن يعالجه، أو يستدعي له الأطباء؛ لحصول تلك السكتة بغتة بدون مقدمات آلام أو أمراض.
ويأتي الموتُ البعضَ الآخر في حوادثَ مرورية، فيحصل بسببها موت العديد من الأفراد والجماعات.
وأحياناً يأتي موت الفجأة بالجلطات الدماغية، وأحياناً بالقتل المفاجيء -و ما أكثره- في زمننا، وأحياناً بالزلازل والفيضانات، وغير ذلك مما نراه ونشاهده.
أيها المسلمون: وإذا كان الحال كذلك والموت بانتظارنا في أي لحظة؛ فما عسانا أن نفعل، وهل نحن له مستعدون.
إن موت الفجأة لهو جرس إنذار لنا؛ لنستيقظ من غفلتنا، ولنتنبه من رقادنا في وقت انشغل فيه الناس بالدنيا ونسوا الآخرة، ونسوا أنهم قادمون على الله تعالى؛ فكيف نكون مستعدين لهذا الزائر المفاجئ؟
يجب أن نستعد له -أولاً- بتطهير أنفسنا من أنواع الشِّرك بالله -عزَّ وجلَّ-؛ لأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ لقيَ الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومَنْ لقِيَه يشرك به شيئًا دخل النار".
ثم نطهرها من أمراضها المقيتة، من حسد وغل وكبر وغش، وغيرها من الأمراض التي تعتري القلوب، وتكون سبباً في فساده وهلاكه، ولا ينجو يوم القيامة إلا من سلم من تلك الأمراض، قال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:88-89]؛ سليمٌ من جميع تلك الأمراض، وأعظمها مرض الشِّرك بالله -سبحانه وتعالى-.
إنَّ التوبة الصادقة النصوح من جميع الذنوب والسيئات، لهو الاستعداد الأمثل لموت الفجأة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التحريم: 8].
فالتوبة التوبة! والرجوع إلى الله تعالى، ولنكن على أهبة الاستعداد دائماً؛ كما كان حال كثير من سلفنا -رحمهم الله تعالى-، فقد كانوا متأهبين وللموت مستعدين، حتى إنه لو قيل لواحد منهم: إنك ستموت الساعة لم يكن هناك ما يزيد به عمله، لأنه قضى جل وقته في الطاعة؛ فهذا أنسُ بن عياض يقول: "رأيت صفوان بن سُلَيْم، لو قيل له: غداً القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة".
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غداً، ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً".
وقال بكير بن عامر: "كان لو قيل لعبد الرحمن بن أبي نعم قد توجه إليك ملك الموت ما كان عنده زيادة عمل".
وقال سفيان الثوري: "لو رأيتَ منصور بن المعتمر، لقلتَ: يموت الساعة".
وما ذلك كله؛ إلا لأنهم شغلوا أعمارهم وأوقاتهم بالطاعة، وابتعدوا عن أسباب الشقاء والغواية.
وصلُّوا وسلموا- على خير البرية؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي