لقد بينت هذه الآيات أمور هامة في العقيدة والإيمان، وعلاقة المسلم بربه ودينه، وهناك فوائد تربوية ينبغي ان نقف عند بعضها؛ فمن ذلك: شهادة الله من فوق سبع سماوات لرسوله والمؤمنين بكمال الإيمان الذي هو...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: من أعظم سور القرآن سورة البقرة، وهي أكبر سورة في القرآن، وقد اشتملت على كثير من أحكام الإسلام؛ كأحكام الحج والعمرة والصلاة والصيام والجهاد والنكاح والطلاق وغيرها، ثم ختمت السورة بآيات تبين تسليم المسلم لأمر الله ورسوله، وإيمانه بجميع الرسل، وبدين الله الذين أرسل الرسل من أجل تبليغه للناس وهو الإسلام؛ دين الأنبياء جميعاً، وختمت أيضاً بسؤال الله المغفرة للذنوب، وسؤاله تعالى التخفيف والتيسير على المؤمنين في الواجبات والأحكام وغير ذلك.
ولسورة البقرة فضائل كثيرة منها:
ما جاء عن عبد اللَّه بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لكل شيء سنامًا، وسنام القرآن سورة البقرة، وإن الشيطان إذا سمع سورة البقرة تقرأ خرج من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة". (سلسلة الأحاديث الصحيحة).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ"(رواه مسلم).
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ"(رواه مسلم)
معاشر المسلمين: وحديثنا اليوم سيكون حول تأملات في خواتيم سورة البقرة وما فيها من فوائد تربوية وما لها من فضائل؛ فعن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه"(رواه البخاري).
ومعنى (كفتاه): قال ابن حجر: "أي أجزأتا عنه من قيام الليل بالقرآن"، وقيل: أجزأتا عنه عن قراءة القرآن مطلقا سواء كان داخل الصلاة أم خارجها، وقيل معناه: أجزأتاه فيما يتعلق بالاعتقاد؛ لما اشتملتا عليه من الإيمان والأعمال إجمالا، وقيل معناه: كفتاه كل سوء، وقيل: كفتاه شر الشيطان، وقيل: دفعتا عنه شر الإنس والجن.
وعن عبد الله بن مسعود قال: "لما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها وإليها، ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى)[النجم: 16]، قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات"(رواه مسلم).
ومعنى "المقحمات" الذنوب العظام الكبائر التي تهلك أصحابها وتوردهم النار وتقحمهم إياها، والتقحم الوقوع في المهالك، ومعنى الكلام: من مات من هذه الأمة غير مشرك بالله غفر له المقحمات.
عباد الله: يقول -سبحانه وتعالى- في خواتيم سورة البقرة: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير * لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين)[البقرة: 285-286].
لقد بينت هذه الآيات أمور هامة في العقيدة والإيمان، وعلاقة المسلم بربه ودينه، وهناك فوائد تربوية ينبغي أن نقف عند بعضها؛ فمن ذلك: شهادة الله من فوق سبع سماوات لرسوله والمؤمنين بكمال الإيمان الذي هو تصديق وإذعان واطمئنان وتطبيق عملي لأركان الإيمان وشعبه، تطبيقاً ظهرت آثاره على نفوسهم الزكية وهممهم العلية، ولا شيء أكبر من شهادة الله لهم.
فاحرص -أيها المسلم- المؤمن على تحصيل الشهادة الإلهية باقتفاء آثار المؤمنين واللحوق بركبهم وموكبهم الصالح المصلح، ولا يصدنك الشيطان ويولعك بالمادة المحدودة الزائلة، فتخسر صفقة عمرك وتكون مغبوناً.
ومن ذلك: إكرام الله للمؤمنين بوصفهم بالإيمان مع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا وقع عظيم في نفوس المؤمنين، وهذه مكرمة لا يحس بها إلا من تعمق في معاني القرآن وعرف أن إيمان الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما أنزل إليه شيء بديهي لا يحتاج إلى ذكر، فيدرك أن الفائدة من ذكر إيمانه مع المؤمنين هي أن يقفهم معه مرة في صف واحد في ميدان الإيمان العظيم.
ومن هذه الفوائد التربوية: تقرير الوحدة الكبرى والطابع الخاص لدين الله الإسلام الذي هو دين البشرية من الله جمعاء، وهو الإيمان بالله إيماناً صحيحاً خالصاً يحصل صاحبه على العمل والتنفيذ لجميع الأوامر والأحكام، ثم الإيمان بملائكته الذين بعضهم سفراء بين الله وبين رسله، ينزلون بالوحي على قلوب الأنبياء ويكون الإيمان بهم جملة وتفصيلاً دون زعم عداوة بعضهم كما تزعم اليهود، فقد كلفنا الله الإيمان بهم جميعاً؛ لأنهم من عالم الغيب.
وهذه هي الميزة العظمى لدين الله والطابع الخاص لأهله؛ لأن الإيمان بجميع الرسل والكتب السماوية أساس الوحدة الإنسانية المنشودة، أما التفريق بينهم بالإيمان ببعضهم والكفر ببعض فهو أصل الفتنة ومنشأ الشقاق.
استغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.
الخطــبة الثانـية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها المؤمنون: أما الآية الثانية فإنها تتحدث عن رأفة الله ورحمته بعباده (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين)[البقرة: 286].
إن الله لا يريد لنا المشقة في تحقيق هذا الدين، إن الله لا يوجب على الإنسان إلا ما يستطيع أن يتحمله؛ فما كان خارج حدود التحمل والاستطاعة والطاقة قد عفانا الله منه.
إنها الرأفة والرحمة من الله بعباده، إنه بيان يُسر هذا الدين، فهذا الدين قام على التيسير؛ لأن الله بيّن هذا الأمر فقال: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة:185].
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدين يسر، و لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا و قاربوا"(رواه البخاري).
إن المطلوب من الإنسان أن يقوم بما أوجب الله عليه على حسب طاقته وقدرته، من غير توان ولا تقصير ولا تعمد للخروج عما أمر الله، لأن كل نفس محاسبة على ما تعمل، (لَهَا مَا كَسَبَتْ) من الخير والعمل الصالح فتوّفى به وتُجازى عليه (وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) من المخالفات والآثام فتعاقب عليه.
معاشر المؤمنين: ثم بعد ذلك توجه المؤمنون بالدعاء إلى الله، لأن الإنسان فقير محتاج إلى من يُعطيه ويقويه وينصره؛ فكان الطلب الأول:
قوله تعالى: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) المؤاخذة تعني العذاب؛ فإذا آخذ الله إنساناً بأمر فمعنى ذلك أنه سيعذبه (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ). المؤاخذة تعني العذاب؛ فيسأل الإنسان ربه أن لا يؤاخذه خصوصاً فيما أخطأ أو نسي؛ لأن الإنسان عرضة للخطأ "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" (رواه أحمد والترمذي).
وأما الطلب الثاني: (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا) فيسأل الإنسان ربه أن لا يجعل عليه حملاً ثقيلاً، الإصر هو الحمل الثقيل الذي لا يستطيع الإنسان تحمّله (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا) وهم اليهود والنصارى الذين تحملوا من الحمل بسبب ما اقترفت أيديهم، حمّلهم الله الكثير بسبب كفرهم وعنادهم وطغيانهم ومخالفتهم لأوامر الله، لذلك استحقوا اللعنة، وكتب الله عليهم الغضب والذلة والمهانة في الدنيا والآخرة؛ لذلك فالمسلم يدعو الله أن لا يحمله فوق طاقته، وأن لا يجعله كالذين سلفوا من بني إسرائيل ومن سار على دربهم.
والثالث: (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) يسأل الإنسان ربه أن لا يحمله ما لا يستطيع وما لا يطيق حمله، وفي هذا طلب التيسير والتخفيف والعون والنصرة من الله؛ لأن الإنسان ضعيف لا يستطيع أن يتحمل كل الأمور، فيلتجئ إلى الله ليخفف عنه ولا يحمله ما لا يستطيع حمله.
أما الطلب الرابع: (وَاعْفُ عَنَّا) طلب العفو من الله، أن يطلب الإنسان العفو من الله؛ فهو العفوّ سبحانه؛ لهذا وجهنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى طلب العفو من الله فقال: "سلوا الله العفو والعافية"(رواه أحمد والترمذي).
والطلب الخامس: (وَاغْفِرْ لَنَا) إنه طلب المغفرة من الله؛ لأن الله هو الذي يغفر الذنوب، فإذا أذنب الإنسان فإنه يلتجئ إلى الله ويطلب منه الصفح والعفو والمغفرة يقول الله تعالى في الحديث القدسي: "يا بن آدم ! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم ! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم ! لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة"(رواه الترمذي).
أما الطلب السادس: (وَارْحَمْنَا) إنه طلب الرحمة من الله.. الرحمة في الدنيا والآخرة؛ لأن الله هو الغفور الرحيم. فرحمة الله وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة.. وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة"(رواه مسلم)؛ فالأمور بيد الله، ولا بد للإنسان أن يطلب هذه الرحمة من الله.
فاللهم ارحمنا برحمتك الواسعة اللهم لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا.
اللهم لا تحملنا ما لا طاقة لنا به وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
هذا وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي