الزواج ... آداب وأحكام

ماهر بن حمد المعيقلي
عناصر الخطبة
  1. الزواج فطرة فطرها الله في نفوس عباده وسنة شرعها الإسلام .
  2. معنى العشرة بالمعروف وبعض مظاهرها .
  3. كيفية معالجة المشكلات الزوجية .
  4. معنى المودة والرحمة وطريق تحصيلها .
  5. المعنى الصحيح للحُبِّ .

اقتباس

ثم اعلموا -أيها الزوجان- أنه مهما حَرِصْتُما على المعاشَرة بالمعروف، إلا أنه لا بد من النقص والعثرات وحصول شيء من الخلافات، فَلْيَصْفَحْ كلٌّ من الزوجين عن صاحبه، وَلْيَكُنْ ديدنُ كلٍّ منهما التسامحَ والعفوَ عن الهفوات والزلات، فَمَنْ حُوسِبَ على الجلل، عَجَزَ عن الكُلِّ...

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله الذي خلَق فسَوَّى، والذي قدَّر فهَدَى، وخلَق الزوجينِ الذَّكَرَ والأنثى، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأُثني عليه وأستغفره، أشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارَكَ عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1].

أُمَّةَ الإسلامِ: إن الحديث عن الزواج ونحن في هذه الأيام التي تكثُر فيها مناسباتُه، لَهُوَ حديثٌ ذو أهمية يستدعي الوصايا القرآنية، والسُّنَّة النبوية، حيث أمَر اللهُ -تعالى- بالزواج وحثَّ عليه، وجعَلَه مِنْ سُنَنِ الأنبياءِ والمرسلينَ، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)[الرَّعْدِ: 38]، فجاءت شريعةُ اللهِ -تعالى- على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- بتيسيرِ الزواجِ، وتسهيلِ طريقِهِ، وَنَهَتْ عن كلِّ ما يعوق تمامَه ويعكِّر صفوَه، فخيرُ متاعِ الدنيا المرأةُ الصالحةُ، التي إذا نظَر إليها زوجُها أَسَرَّتْهُ، وإذا أمرَها أطاعَتْه، وإذا غاب عنها حَفِظَتْه.

والزواجُ ميثاقٌ غليظٌ يبدأ في الحياة الدنيا، ويستمر في الآخرة، (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرَّعْدِ: 22-23].

ولا شكَّ -مَعَاشِرَ المؤمنينَ- أن السعادة الزوجية مطلبٌ نفيسٌ لكل زوجينِ، ورجاء يَرُومُهُ كلُّ عروسينِ، فبها تصلُح حياتُهم، وفي حال من المحبة والوئام ينشأ أبناؤُهم، ولا يكون ذلك إلا بحُسْن العِشْرَة، وطِيب الْمُعَامَلَة، والرفق والرحمة استجابةً لأمر الرب -سبحانه- إذ يقول: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[النِّسَاءِ: 19]، فالعِشْرَة بالمعروف هي المخالَطة بكل ما عُرِفَ بالشرع حُسْنُه، بحسب القدرة من طَيِّبِ الأقوالِ، وحُسْنِ الهيئاتِ والأفعالِ؛ فمِنْ حُسْنِ العشرةِ بين الزوجين التعاونُ فيما بينهما في القيام بأمرِ الدينِ والدنيا، وهذا هو هَدْيُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ففي (مسند الإمام أحمد) لَمَّا سُئِلَتْ عائشةُ -رضي الله عنها وأرضاها-: "هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل في بيته شيئا؟ قالت: نعم، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَخْصِفُ نَعْلَهُ، ويخيط ثوبَه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدُكم في بيته".

فلا ينبغي لأحد الزوجين أن يَسْتَنْكِفَ عن خدمةِ شَرِيكِه، ولا يتخلَّى عن مسئوليتِه، أو يَمُنَّ أحدُهما على صاحبه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خيرُكم خيرُكم لأهلِه، وأنا خيرُكم لأهلي"(رواه الترمذي).

معاشرَ المؤمنينَ: إن مِنْ مظاهرِ حُسْن العشرةِ مراعاةَ كِلَا الزوجين لحال الآخَر، والعمل على إزالة أسباب الهَمِّ والغَمِّ، والمبادَرة بإدخال الفرحِ والسرورِ عليه، وانظر إلى فعل خديجة -رضي الله عنها وأرضاها- حين نزَل جبريلُ -عليه السلام- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولَ مرةٍ، فرَجَع -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤادُه وهو يقول: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي" فقامت -رضي الله عنها- بواجبها خيرَ قيامٍ، فألقت الطمأنينةَ في نفسه، وأشاعت الأمنَ في قلبه، واستدعت من سيرته المباركة ما يُؤْنِسُهُ وَيُهَوِّنُ عليه، ولم تكتفِ بذلك -رضي الله عنها وأرضاها- بل انطلقت به إلى روقة بن نوفل، وقد كان ذا علم، فقال: "هذا الناموسُ الذي أَنْزَلَ اللهُ على موسى"؛ أي: جبريل عليه السلام.

ومن العِشْرَةِ بالمعروفِ ألَّا يُضَيِّقَ الزوجُ على زوجته في النفقة في حال السِّعة، وأن يساويها بنفسه في المعيشة والسكنى، (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ)[الطَّلَاقِ: 6]، فأَوْلَى الناسِ بالإنفاقِ عليهم هم أهلُكَ وخاصتُكَ، والنفقة عليهم ليست من المستهلَكات الضائعة، بل هي من الصدقات الباقية، وقد عظَّم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمرَها، وضاعَف أجرَها، ففي (صحيح مسلم) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينار أنفقتَه في رقبة، ودينار تصدقتَ به على مسكين، ودينار أنفقتَه على أهلِكَ، أعظَمُها أجرًا الذي أنفقتَه على أهلِكَ"، وفي المقابل: لا يجوز للزوجة تكليف زوجها بما لا يستطيع من النفقة، وخاصةً إذا كانت المطالِب من الكماليات، وليست من الضروريات، وقد قررت الشريعةُ حدودَ النفقة على قدر الاستطاعة، فقال الله -تعالى-: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطَّلَاقِ: 7].

وإن مِنْ عُلُوِّ النفسِ وكرامتِها ألَّا يأخذَ الزوجُ من مال زوجته شيئا إلا برضاها وطِيب نَفْسِها، ولكن إذا كان الزوجُ ذا حاجة، واللهُ -تعالى- قد مَنَّ على زوجته بفضلٍ من مال، فإن من العِشْرة بالمعروف أن تُعِينَ زوجَها بما تفضَّل اللهُ -تبارك وتعالى- عليها، ففي يوم عيد الفطر أو الأضحى خرَج رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فوعَظ الناسَ وقال: "يا معشرَ النساءِ، تَصَدَّقْنَ؛ فإني رأيتُكُنَّ أكثرَ أهلِ النارِ" فلما صار إلى منزله جاءته زينبُ امرأةُ ابن مسعود -رضي الله عنهما جميعا-، وقالت: يا نبيَّ الله، إنكَ أمرتَ اليومَ بالصدقة، وكان عندي حُلِيٌّ لي، فأردتُ أن أتصدقَ به، فزَعَم ابنُ مسعودٍ أنه وولدَه أحقُّ مَنْ تصدَّقتُ به عليهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صدَق ابنُ مسعودٍ، زوجُكِ وولدُكِ أحقُّ مَنْ تصدقتِ به عليهم" وفي الرواية الأخرى: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نَعَمْ، لها أجرانِ، أجرُ القرابةِ وأجرُ الصدقةِ"(رواه البخاري، ومسلم).

معاشرَ الأزواجِ: إن من أهم خصال حُسْن العشرة ثقةَ كلِّ طرفٍ بالآخَر، ولا بأس في الغَيْرة المعتدلة، بل هي من كرائمِ المروءةِ ودليلٌ على المحبة، وفي الحديث الصحيح: "إنَّ اللهَ يغارُ، وإن المؤمنَ يغارُ، ولكنَّ البأسَ في الغيرة الزائدة المفرطة، التي تؤدِّي إلى سوء الظن، تُؤَوِّلُ كلَّ كلمة بريئة أو حركة عابرة تأويلًا سَيِّئًا، يتعكَّر بها صفوُ العشرةِ، وينهدم بها بيتُ الزوجيةِ، وقد قال علي -رضي الله عنه- وأرضاه: "لا تُكْثِرِ الغيرةَ على أهلِكَ فتُرمى بالشرِّ من أَجْلِكَ".

وإن مِنْ حُسْنِ العشرةِ يا عبادَ اللهِ: المحافظة على الأسرار الزوجية، فإن العلاقة بين الزوجين هي علاقة بين المرء ونفسِه، (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)[الْبَقَرَةِ: 187]، فالأسرار الزوجية تحوطها الشريعةُ بالكتمان، وأمَّا إذاعتُها وإشاعتُها فهي خيانةٌ عظيمةٌ تجعل صاحبَها في أشرِّ المنازلِ يومَ القيامةِ، وفي (صحيح مسلم) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ مِنْ أشرِّ الناسِ عندَ اللهِ منزلةً يومَ القيامةِ الرجلَ يُفْضِي إلى المرأةِ، وتُفْضِي إليه ثم يَنْشُرُ سِرَّهَا".

ومِنْ حُسْنِ العِشْرةِ: التخفيفُ عن الزوجة بما يُدخل عليها السرورَ والسعادةَ، ومَنْ نَظَرَ في سيرةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ما كان يحمِلُه من أعباء النبوة، وَجَدَ في سيرته الكثيرَ من مظاهر الترويح عن نسائه، ففي (مسند الإمام أحمد) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجتُ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، وأنا جاريةٌ لم أَحْمِلِ اللحمَ ولم أَبْدُنْ، فقال للناس: تَقَدَّمُوا، فتقدَّمُوا، ثم قال لي: تعالَيْ حتى أسابِقَكِ، فسابقتُه فسبقتُه، فسكتَ عني، حتى إذا حملتُ اللحمَ وبَدُنْتُ ونسيتُ، خرجتُ معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدَّموا فتقدموا، ثم قال: تعالَيْ حتى أسابِقَكِ، فسابقتُه فسبقني، فجعَلَ يضحكُ وهو يقول: هذه بتلك، هذه بتلك".

أيها الزوجُ المباركُ: إن الثناء على الزوجة في الزينة والمأكل والملبس مفتاح لقلبها، وطريق لِحُبِّها، وتذكَّر بأن مَنْ كَرُمَ أصلُه لان قلبُه، وكن لزوجتِكَ كما تحب أن تكون هي لكَ، فإنها تُحِبُّ منكَ كما تحب أنتَ منها، ففي (مصنَّف ابن أبي شيبة)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إني أُحِبُّ أن أتزيَّن للمرأة كما أُحِبُّ أن تتزين لي؛ لأن الله -تعالى- يقول: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[الْبَقَرَةِ: 228].

وإن من محاسن القول والعِشْرة: أَنْ يُصَرِّح كلٌّ من الزوجين عن حُبِّه لصاحبه، وأن يُظهر التوددَ له بفعله مع قوله: ففي الصحيحينِ لَمَّا سُئِلَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيُّ الناسِ أحبُّ إليكَ؟ قال: عائشةُ"، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنتُ أشربُ وأنا حائضٌ، ثم أناوله النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فيضع فاه على موضع فِي فيشربُ، وأتعرَّق العرق وأنا حائض -وهو العَظْمُ الذي عليه بقيةٌ من لحم- ثم أناوله النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فيضع فاه على موضع فِي، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَتَّكِئُ في حِجْري وأنا حائضٌ، فيقرأُ القرآنَ"(رواه مسلم).

ثم اعلموا أيها الزوجان أنه مهما حَرِصْتُما على المعاشَرة بالمعروف، إلا أنه لا بد من النقص والعثرات وحصول شيء من الخلافات، فَلْيَصْفَحْ كلٌّ من الزوجين عن صاحبه، وَلْيَكُنْ ديدنُ كلٍّ منهما التسامحَ والعفوَ عن الهفوات والزلات، فَمَنْ حُوسِبَ على الجلل، عَجَزَ عن الكُلِّ.

وحُسْن الخُلُق بين الزوجين من أمارات الإيمان، فأكملُ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وألطفهم بأهله، فعلى الزوجين أن يستحضرا المقاصدَ الساميةَ في الحياة الأسرية؛ مِنَ التعاونِ على البِرِّ والتقوى، وحصول الإعفاف لكلٍّ منهما، وليتذكرا قولَ الربِّ -جل وعلا-: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 237]، وعلى كلٍّ منهما ألا يسترسلَ مع شريكه في وقت الغضب، وألَّا يحبس نفسَه على الجانب الذي يسوؤه منه، بل يجب أن يتذكَّر جوانبَ الخير الأخرى، ولن يعدم ما تَطِيب به نفسُه من حُسْن سيرته وطِيب شمائله، وسابِقِ معروفه؛ وذلك في حظ الرجل أوجبُ وآكَدُ، ففي (صحيح مسلم) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً -أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة- إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ".

ولقد كان صلى الله عليه وسلم من عظيم خُلُقه يصبر على صدود نسائه، ففي (صحيح البخاري) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "وإنَّ إحداهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليومَ حتى الليلِ".

ألَا فَاسْتَوْصُوا بالنساء خيرًا، فإنهنَّ عَوَانٌ عندكم، فأدُّوا حقوقَهُنَّ وَأَكْرِمُوهُنَّ كما أوصاكم بهن نبيُّكم -صلوات ربي وسلامه عليه-، والأصل -أيها الأزواج- أن الحياة الزوجية تُبنى على تقوى الله -عز وجل-، ولهذا لا يوجد في القرآن كلِّه -كما جاء في سورة الطلاق- من حثٍّ على التقوى، وترغيبٍ لِمَا هو أتقى في معامَلة الزوج لزوجه، فمَنِ امتثل أمرَ الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجره ويجعل له من أمره يسرا، ويجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومَنْ أصدقُ مِنَ اللهِ قِيلًا، ومَنْ أصدقُ مِنَ اللهِ حديثًا، وإذا صلحت النياتُ وسارعتِ النفوسُ إلى الخيراتِ، وأدَّتِ الواجباتِ عمَّت السعادةُ وحلَّ التوفيقُ، ومن لزم الدعاءَ وأخلص لله الرجاءَ، فلن يخيِّب اللهُ أملَه، ومن شواهد ذلك في كتاب الله ما امتنَّ به -سبحانه- على نبيه زكريا فقال سبحانه: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 90].

فيا أيها الزوجان: صِلَا ما بينَكما وبينَ الرحمنِ يَصِلِ الرحمنُ بينكما، فكم من معصية فرَّقَتْ أُسَرًا سعيدةً، وكم من ذنب بَدَّلَها حياةً شقيةً، (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشُّورَى: 30]، ومن أراد الحياةَ السعيدةَ فَلْيَعْمَلْ بقولِ الربِّ -سبحانه-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النَّحْلِ: 97].

بارَك اللهُ لي ولكم في الكتاب والسُّنَّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه كان غفورا رحيما.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله الذي خلَق من الماء بَشَرًا فجعله نَسَبًا وَصِهْرًا، وكان ربُّكَ قديرًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبينا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه بعثَه اللهُ هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: أيها المؤمنون: إن السكنَ في العلاقة الزوجية نعمةٌ عظيمةٌ لا يُقَدِّرُهَا حقَّ قدرِها إلا مَنْ حُرِمَ لذتَها، وقد نوَّه القرآنُ الكريمُ بجلالِ هذه النعمةِ فقال: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا)[النَّحْلِ: 80]، وهذا السكنُ -يا عبادَ اللهِ- هو الراحةُ والاستقرارُ والصحبةُ القائمةُ على المودة والرحمة، فَتَأْنَسُ الروحُ، ويرتاح الجسدُ، مع مَنْ يحبه الفؤادُ، ويستريح معه، ويلتمس البشاشةَ والأنسَ بحديثه، وَلْنَعْلَمْ -معاشرَ المؤمنينَ- أن الحياة الزوجية لا تقوم على الحُبِّ فقط، وإن كانت بالحُبِّ تمثِّل الصورة المثلى، والمكانة الأسمى، ولكنها تقوم كذلك بالرحمة، بل إنَّ الحُبَّ ينشأ ويزداد مع مرور الأيام، بالعِشْرة الحسنة، فيجعل اللهُ بين الزوجين حنانًا ودِفْئًا، وسعادةً وسرورًا، فحُسْنُ العشرةِ وأداءُ الحقوقِ والواجباتِ كفيلانِ بإنشاء المحبةِ والرحمةِ بين الزوجينِ، ففي (التأريخ الكبير للإمام البخاري، وشرح السُّنة للإمام البغوي) أن رَجُلًا في عهد عمر -رضي الله عنه- قال لزوجته: "نَشَدْتُكِ بالله: هل تحبيني؟ فقالت: أمَا إن نشدتَني بالله فلا، فخرَج الرجلُ حتى أتى عمرَ -رضي الله عنه- فأرسَلَ إليها فقال: أنتِ التي تقولينَ لزوجِكِ: لا أُحِبُّكَ؟ فقالت: يا أميرَ المؤمنينَ، نشدني بالله، أفَأَكْذِبُه، قال: نعم، فَأَكْذِبِيهِ، ليس كلُّ البيوتِ تُبنى على الحُبِّ، ولكن الناسَ يتعاشرون بالإسلام والإحسان".

وصدَق اللهُ -تعالى- إذ يقول: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الرُّومِ: 21].

اللهم وَفِّقْ كلَّ عروسينِ، اللهم وَفِّقْ كلَّ عروسينِ، اللهم وَفِّقْ كلَّ زوجينِ، اللهم بارِكْ لهما، وبارِكْ عليهما واجمع بينهما في خير، وارزقهما الذريةَ الصالحةَ الطيبةَ المباركةَ، اللهم وَفِّقْ شبابَ المسلمينَ، اللهم وفق شباب المسلمين وفتياتِهم وجنِّبْهم الفواحشَ والفتنَ ما ظهَر منها وما بطَن، اللهم حَبِّبْ إليهم الإيمانَ وزيِّنْه في قلوبهم، وكرِّه إليهم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، واجعلهم من الراشدينَ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ، وعلى آله الطيبينَ الطاهرينَ وصحابتِه الغُرِّ الميامينَ، وارضَ اللهم عن الأئمةِ المهديينَ، والخلفاءِ الراشدينَ، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيِّكَ أجمعينَ، وَمَنْ سار على نهجِهم واتَّبَعَ سنتَهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمِنًا مطمئنا، رخاء سخاء وسائر بلاد المسلمين.

اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوء فَرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيره تدميرا عليه، اللهم آمِنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأَيِّدْ بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة الطيبة المباركة، اللهم وَفِّقْهُ ووليَّ عهده لِمَا فيه خير للبلاد والعباد، اللهم وَفِّقْ جميعَ ولاة أمور المسلمين لِمَا تحبه وترضاه، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم احقن دماءهم، اللهم احقن دماءهم، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، وَاقْضِ الدَّيْنَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزَكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ وليها ومولاها، وأنتَ على كل شيء قدير، اللهم إنَّا نسألُكَ العفوَ والعافيةَ والمعافاةَ الدائمةَ في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، ربنا تقبَّلْ منَّا إنكَ أنتَ السميعُ العليمُ، وَتُبْ علينا إنكَ أنتَ التوابُ الرحيمُ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي